في قلب جبال الأورال الشرقية للاتحاد السوفيتي، وفي ذروة الحرب الباردة في الـ 29 من سبتمبر/أيلول عام 1957؛ وقعت كارثة كيشتيم حين انفجرت خزانات النفايات النووية المدفونة في مصنع لتجهيز البلوتونيوم، في محطة ماياك النووية في بلدة «تشيليابينسك أوبلاست، كيشتيم» الروسية.

تسبب فشل أحد أنظمة التبريد في المحطة في وقوع هذه الكارثة. تصاعدت على إثرها سحابة كبيرة من الإشعاع في الهواء على مساحة نحو 23 ألف كم مربع. أحدثت هذه السحابة أضرارا وسموما مشعة أصابت الثروة الزراعية والحيوانية، وتم إجلاء أكثر من 10 آلاف شخص من السكان في المناطق المنكوبة.

وحتى العام 1989؛ رفضت الحكومة الروسية الاعتراف بوقوع تلك الحادثة؛ التي تعد أكبر كارثة نووية بعد حادثتي تشرنوبل وفوكوشيما. هذا يعطينا إشارة إلى أن النفايات النووية التي تنتج من استخدام الطاقة النووية في المصادر السلمية؛ هي خطر كامن بحد ذاتها. فكيف تتحدد خطورتها، وهل يسعى العالم للتوقف عن استخدام الطاقة النووية أخيرًا بسبب خطر النفايات؟


داخل نظير عنصر

تستخدم النظائر المشعة غير المستقرة والاصطناعية في العمليات التي تتم لإنتاج الطاقة الكهربائية من الطاقة النووية. حسنًا؛ تتكون العناصر الكيميائية من ذرات لديها أنوية. تتميز الذرات بامتلاكها عددا ذريا (Z) يعبر عن عدد البروتونات في نواتها. وعدد كتلة يعبر عن العدد الإجمالي -أو الكلّي- لكل من البروتونات والنيترونات.

أما النظائر (isotopes) محور اهتمامنا اليوم؛ فهي ذرات عنصر غير مستقرة النواة. لديها نفس العدد الذري لكن عدد الكتلة مختلف. بمعنى آخر؛ لديها نفس عدد البروتونات، بالتالي تمتلك نفس الخصائص الكيميائية، لكنها في نفس الوقت تختلف في الخصائص الفيزيائية كونها تمتلك أعدادا مختلفة من النيوترونات.

يمكن أن تكون النظائر إما مستقرة، غير مستقرة، أو نظائر مشعة. النظائر المشعة هي ذرات تحاول أنويتها الوصول لحالة الاستقرار. ومن أجل ذلك؛ تطلق النواة طاقة وجسيمات في هيئة إشعاعات مؤيّنَة لتصل إلى حالتها المستقرة.

تظهر الطاقة المحررة هذه في هيئة أشعات نعرفها. أشعة (ألفا α) نواة الهيليوم التي لديها بروتونان ونيترونان تتحدان بقوة داخلها. (جسيم بيتا β) الذي ينبعث من بوتاسيوم-40. أشعة (غاما ɣ) وهي الطاقة الكهرومغناطيسية. يمكن قياس مقدار الطاقة المحررة هذه بواسطة «عداد غايغر – Geiger counter» أو التصوير الفوتوغرافي.

برغم خطورتها؛ فإن البشر أبوا أن يستسلموا لفكرة أن الطاقة النووية تصدّر لهم الخطر والجانب المظلم لديها فحسب. وارتأوا أنه يمكن استغلالها بشكلٍ سلمي في حياتهم اليومية بطريقةٍ ما. فأنشئت أول محطة طاقة لإنتاج الكهرباء باستخدام الحرارة الناتجة من انشطار ذرات اليورانيوم في عام 1950.


الطاقة النووية السلمية

تستخدم الطاقة النووية أو المواد المشعة بشكل عام في مجالاتٍ متنوعة بطرقٍ سلمية؛ مثل إنتاج الطاقة الكهربائية، مفاعلات الطاقة غير الثابتة في قطاعات المنتجات الاستهلاكية والأغذية، الزراعة والصناعة، الطب والبحث العلمي، النقل، والموارد المائية والبيئة.

فمثلًا؛ يمكن استخدام الموليبيدنيوم (99Mo) لتحديد الأوعية الدموية الخفيّة أو غير الواضحة. كما تستخدم النظائر المشعة لعنصر الكربون خاصة كربون 14 (14C) في المجال الأحفوري والأثري في معرفة التسلسل الزمني للحفريات والآثار لتحديد أعمارها. بلغ حجم الطلب على الموليبيدنيوم في السوق العالمية نحو 550 مليون دولار سنويا في إحصائية منتصف هذا العام. أما روسيا فقد حرصت على أن تكون على قائمة الدول الأكثر تصديرًا وإنتاجًا للطاقة النووية؛ حيث بلغت صادراتها في العام 2012 نحو 66%.

يتم إنتاج الموليبيدنيوم من خلال انشطار اليورانيوم U-235 في أي مفاعل نووي. وفي العام 2016، بلغ إنتاجه بنسبة 75% باستخدام «اليورانيوم المخصب – Enriched Uranium».

أما في استخدام الطاقة النووية بطرقٍ سلمية في الغذاء؛ فتفيد منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو – FAO) أن نحو 795 مليون شخص (أي واحد من كل تسعة أشخاص) يعانون من نقص مزمن في التغذية في الفترة بين عامي 2016 – 2014. واستخدام النظائر المشعة والإشعاعات في الأغذية والزراعة؛ تساعد على الحد من هذه الأرقام!


النفايات النووية: خطر يمتد لآلاف السنين

كان الهدف من إيجاد بدائل لإنتاج الطاقة من مصادر أخرى بخلاف الوقود الأحفوري أو الفحم، والبترول ومشتقاته؛ هو الحفاظ على سلامة البيئة، والتقليل من انبعاثات غازات الدفيئة في الغلاف الجوي. لكن كيف الحال مع النفايات النووية؟

تعرف النفايات النووية بأنها مواد مشعة، إما أن تكون مشعة بذاتها، أو مواد ملوثة بأي نشاط إشعاعي. يتم إنتاج النفايات النووية المشعة أثناء جميع مراحل دورة الوقود النووي. حيث يمكن أن تنتج بعض كمية النفايات أثناء عمليات التعدين والطحن وتصنيع الوقود، لكن الكمية الأكبر تأتي من التفاعل الفعلي لليورانيوم لإنتاج الكهرباء. أثناء إعادة معالجة الوقود المستخدم؛ يتم تقليل كمية النفايات بشكل حقيقي. تنتج كمية صغيرة جدًا من الوقود النووي؛ كمية طاقة كبيرة جدًا. وكمية النفايات الناتجة عن هذه العملية صغيرة نسبيًا.

تقدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن 370 ألف طن متري من المعدن الثقيل في هيئة وقود مستعمل قد استهلك منذ بدء تشغيل محطات الطاقة النووية الأولى. كما تشير تقديرات الوكالة إلى أن حجم النفايات يصل لـ 250,000 مليون حاوية نفايات نووية -نحو 22,000 متر مكعب- أي ما يعادل مبنى بارتفاع 3 أمتار تقريبًا؛ يغطي مساحة ملعب كرة قدم!

فترة حياة النوّيدات

يحدث للنوّيدات (النظائر) المشعة عملية اضمحلال (انحلال – Decay)، أو تفكك ذراتها بمرور الوقت. عملية فقدان أو تفكك الذرات هذه؛ تكون مصحوبة بانبعاثات إشعاعية؛ تتسبب في فقدان المادة طاقتها. تستمر المادة المشعة في فقد ذراتها غير المستقرة بمرور الوقت حتى تصل إلى حالة الاستقرار. ومع مرور الوقت تستمر المادة في فقدان ذراتها إلى أن تصبح أضعف إشعاعيًا وأكثر استقرارًا. بالتالي تصبح مادة غير مشعة.

تحدث عملية «الانحلال – Decay» هذه بمعدل ثابت. تصاحبها فترة زمنية تعرف باسم فترة «نصف العمر – half-life»؛ وهي الفترة الزمنية التي تستغرقها «نصف ذرات» مادة مشعة (غير مستقرة) لتَنْحل (تتحلل إلى مادة أكثر استقرارًا). تحدد فترة نصف العمر مدى سرعة انحلال المادة، وبناءً عليه يمكننا معرفة حجم خطر المادة الإشعاعي.

تتراوح أعمار النصف من جزء من الثانية؛ إلى مليارات السنين. وكلما كانت عملية انحلال المادة المشعة سريعة؛ كانت فترة نصف العمر لها قصيرة. فمثلًا؛ لدينا البولونيوم 214 من نفس سلالة يورانيوم -238 لديه فترة نصف عمر 0.16 ميلي ثانية!

أما كل من البوتاسيوم 40، اليورانيوم -238، والثوريوم -232؛ فلديها جميعًا فترة نصف عمر أكثر من مليار عام. بمعنى آخر؛تستغرق هذه الـ 3 أكثر من مليار عام حتى تفقد نواتها نصف عدد ذراتها!

التخلص من النفايات النووية

الخطوة الأهم في إدارة النفايات النووية؛ هي عملية التخلص منها، والتي تعتبر جزءًا من تكلفة استهلاك الكهرباء أيضًا! لكن مهما كانت كمية النفايات ضئيلة جدًا؛ فإنه يجب أن يتم التعامل معها بدقة وعناية. ففي حال وقوع أي حوادث طفيفة في عمليات تخزين النفايات النووية أو التخلص منها؛ سيتعرض البشر الموجودون في مناطق وجودها لخطر الإصابة الإشعاعية التي تتراوح بين الحروق، أو التشوهات والتغيرات البيولوجية.

قد تؤدي معالجة النفايات النووية والتخلص منها؛ إلى توليد إشعاع منخفض إلى متوسط ​​على مدى فترة طويلة من الزمن. ينتشر الإشعاع عبر الهواء والماء والتربة أيضًا. لذا يصعب تمييز آثاره، أو التنبؤ به.

يجب الإشارة إلى أن عملية التخلص أو معالجة النفايات النووية (الإشعاعية)؛ لا يمكن معالجتها أو إتمامها كيميائيًا أو بيولوجيًا. والسبيل الوحيد للتخلص منها هو وضعها في حاويات مخصصة يتم تخزينها فيها، وإغلاقها بإحكام، وحمايتها بمواد واقية من الإشعاع مثل؛ الرصاص مثلًا. بعد ذلك توضع هذه الحاويات في مناطق بعيدة ونائية مثل الصحارى، الكهوف، الخلجان، أو مناجم مهجورة.

في روسيا على سبيل المثال؛تم تخزين الوقود المشع الناتج من أكثر من 100 مفاعل داخل حاويات وضعت في أكثر من 50 غواصة في خليج «أندريفا» شمال غربي روسيا. أغلق الخليج بعد ذلك كقاعدة بحرية منذ العام 1992.

يشحن الوقود المستهلك على متن سفينة مجهزة خصيصًا إلى ميناء «مورمانسك» في القطب الشمالي الروسي. ثم بعد ذلك تذهب الشحنة المشعة إلى مقصدها النهائي في محطة إعادة معالجة النفايات النووية؛ في «تشيليابينسك» بالقرب من جبال الأورال. وفي العام 2003 بدأت في بناء مشروع للتخلص من نفايات خليج أندريفا بتمويل من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة لعدة دول مثل؛ كندا، الدنمارك، فنلندا، فرنسا، ألمانيا، النرويج، والمملكة المتحدة.

يهدف المشروع إلى إزالة جميع حاويات الوقود النووي البالغ عددها نحو 22 ألفًا ملقاة في الخليج. ومن المرجح أن يستغرق الأمر عدة سنوات وفقًا للبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، بتكلفة تقدّر بنحو 186 مليون دولار أمريكي!


ما الذي تراه دول العالم؟

في أواخر العام 2016؛ أصدرت الحكومة الروسية قرارًا بإنشاء مجموعة مفاعلات نووية جديدة بحيث يكتمل إنشاؤها بحلول العام 2030. هذه المجموعات الجديدة ستنضم لمجموعة المفاعلات النووية قيد الإنشاء في كل من لينينغراد، فورونيج، وروستوف. تنعكس قوة روسيا النووية الصناعية في هيمنتها على تصدّر سوق المفاعلات الجديدة. كما تعتزم الإمارات العربية المتحدة تشغيل أول مفاعل نووي لها في العام 2018؛ ستتبعه بثلاث وحدات أخرى في العام 2020.

وذكر المكتب الألماني للحماية من الإشعاع خلال هذا العام أنه تم قياس زيادة في النشاط الإشعاعي من نظير الروثينيوم-106 في الهواء في عدة دول أوروبية مثل ألمانيا، إيطاليا، النمسا، سويسرا، وفرنسا. وهذا يضع العالم أمام مواجهة حقيقية مع خطر النفايات النووية.

أما في خطط بعض الدول للاستغناء عن الطاقة النووية كمصدر للطاقة؛ فنجد أمامنا ألمانيا التي أغلقت مفاعل «غرافنرهاينفيلد» الذي بدأ عمله في العام 1981. وكانت ألمانيا قد أغلقت أقدم 8 مفاعلات بين مفاعلاتها النووية السبعة والعشرين في العام 2011. ومن المقرر أن يتم إغلاق أحد مفاعلي محطة «غوندريمينغن» النووية في بافاريا أواخر هذا العام؛ لتغلق باقي مفاعلات بحلول نهاية عام 2022.

وفي فرنسا التي لديها أكبر أسطول أوروبي من 58 مفاعلا نوويا؛ سعت الحكومة الفرنسية منذ العام 2015 إلى خفض حصة البلاد من الطاقة النووية المستخدمة في إنتاج الطاقة الكهربائية من 75% إلى 50% بحلول عام 2025. إلا أن حكومة الرئيس الفرنسي الحالي «إيمانول ماكرون» عزفت عن الاستمرار على هذه الخطة. و صرّح ماكرون بأن الهدف من استمرار بلاده في استخدام الطاقة النووية كمصدر للطاقة الكهربائية؛ هو الحد من انبعاث غازات الدفيئة، والتقليل من مخاطر تغير المناخ.

أما في أوكرانيا؛ فتعمل الحكومة على خطة لتوليد الكهرباء للاتحاد الأوروبي بحلول العام 2019؛ بواسطة ما يعرف باسم «جسر الطاقة – energy bridge».

أخيرًا؛ لإنتاج الطاقة الكهربائية، والمساهمة في تسهيل حياة البشر بطرق سلمية؛ تقف دول العالم في موضع اختيار بين تحمل التغيرات المناخية الخطرة الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري، وانبعاثات غازات الدفيئة، أو التعرض لخطر النفايات النووية. أو ربما سيكون هناك مصدر ثالث أكثر أمنًا لاستخدامه لنفس الغرض؛ مثلما تهدف ألمانيا لإنتاج نحو 80% من الطاقة الكهربائية من مصادر متجددة بحلول العام 2050!

المراجع
  1. International Status and Prospects for Nuclear Power 2017 – page 10
  2. World Nuclear Performance Report 2017, page 3
  3. World Nuclear Performance Report 2017 – page 5