… وأما بعد، فإننا لا نعرف في تاريخ الأدب العربي رسالة كتبت من هذا الطراز على كثرة كُتَّاب العربية وكتبها، وعلى ما أبدعوا في فنون الترسُّل، وعلى أن هذه العربية من أوسع لغات الدنيا فيما خصَّت به المرأة وما أوقعته على صفاتها وما أفاضته على العاطفة إليها وما حَفَلَتْ به من ألفاظ معانيها حتى لو أمكن أن ترسل لغات الأمم ألفاظها تستبِقُ في المعاني النسائية لما كان السبق إلا للألفاظ العربية ولا أوفى على الغاية إلا المعجم العربي وحده.

وفي تاريخ أدبنا ممن اشتهروا بالعشق من نكاثر بهم في هذا الباب، ومن أشهرهم مجنون بني عامر[1] وصاحبته ليلى، وقيس ابن ذَرِيح ولبنى، وتوبة وليلى الأخيلية، وكُثيِّر وعزة، وجميل وبثينة، والمؤمل والذلفاء، ومُرقَّش وأسماء، وعُروة وعفراء، وعمرو بن عجلان وهند، والمهذب ولذة، وذو الرُّمة وميَّة، وقابوس ومنيّة، والمخبَّل السعدي والميلاء، ووضَّاح اليمن وأم البنين، وبشر وهند، وابن أبي ربيعة والثريا (وثريَّات كثيرة…) والأحوص وسلَّامة، ونُصَيْب وزينب، وأبو العتاهية وعتبة، وابن الأحناف وفوز، وأبو الشيص وأمامة، وابن زيدون وولادة، وكثيرون وكثيرات.

واشتهر من شعراء الغزل خاصة كثيرون، منهم: ابن أذينة وابن الدُّمَيْنة وابن الطثرية وابن ميَّادة وابن مطير وابن أبي ربيعة وابن ذريح والعّرْجي والمجنون وقيس بن الحطيم وسويد بن أبي كاهل وكثير الذي قالوا فيه: «لو رقي المجنون بشعره لأفاق»، وجميل ونصيب ووضاح وعباس بن الأحنف والخليع والوأواء وابن الخياط وابن زيدون ومن لا يحصى في المشرق والمغرب والأندلس[2].

واشتهر من الشاعرات المتظرفات الجميلات الموقوفات على الحب: الذلفاء وعنان جارية الناطفي ويقولون إنها أشعر الناس، وجنان صاحبة أبي نواس وفضل الشاعرة جارية الخليفة المتوكل وكانت أفصح أهل زمانها وكانت تهاجي خنساء الشاعرة جارية هشام المكفوف وعشقت الكاتب البليغ سعيد بن حميد، وللمتوكل بنان ومحبوبة أيضا وهما شاعرتان. وفي الأندلس نزهون الغرناطية وولادة وحمدة الملقبة بخنساء المغرب، وكثيرات غيرهن استوفينا أسماءهن في «تاريخ آداب العرب».

وحفل تاريخ الأدب بالقِيان الظريفات الغزلات، ولا تكاد أسماؤهن تحصى وهن سر الغزل الحي البديع الذي انفردت به تلك العصور ولميظفر الأدب العربي بمثله من بعدها إلى اليوم[3].

وجاء في آدابنا العربية من المؤلفات المعجِبة التي أفردت للحب ومعانيه وأهله وأخبارهم ونوادرهم وأشعارهم كتبا مجوَّدة منها كتاب الزُّهرة الذي ألفه الإمام محمد بن داود الظاهري فقيه أهل العراق[4]، وقد جعل كتابه في مائة باب، وهو القائل: «ما انفككت من هوى منذ دخلت الكُتَّاب»، ثم الظرف والظرفاء وكتب مؤلفه الكثيرة في هذه المعاني[5]، ثم مصارع العشاق الذي وضعه أبو بكر البغدادي السراج المتوفى سنة 509، وجعله اثنين وعشرين جزءا، وهو أصل لكل ما وضع بعده من الكتب كأسواق العشاق وديوان الصبابة وتزيين الأسواق ومنازل الأحباب وغيرها. ومع كل ما رأيت، فقد انفرد الشعر وحده بالنسيب والغزل وأوصاف الجمال، وليس لنا كتاب واحد في رسائل الحب ولا نعرف أحدا من البلغاء كتب فيها. ولعل هذا راجع إلى أن تلك الطريقة استقلَّ بها الشعر في الصدر الأول فقلَّد الباقون وأخذوا في مَدْرَجتهم من بعد.

وكان هذا الباب عندهم مما يرون للشعر به اختصاصا، فهو سبيله دون الكتابة والخطابة لمكان الوزن في الشعر، فتجيء الرسالة الغزلية لحنا غنائيا من طبيعتها، ثم لأنه قد تقرر عندهم أنه يحسن في الشعر من فنون الكذب والمبالغة ما لا يطرد في النثر حتى أن أكثر الرذائل كالهجاء ووصف الخمر والمجن كان ظرفُها الشعرَ وهي فيه سائغة وفي غيره منكرة، ولا يأتي منها في المنثور إلا قليلا.

وقد نصوا على أن للشعر مواضع لا ينجع فيها غيره من الخطب والرسائل بل هو يفضلهما. قال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين وهو يعد هذه المواضع: «ومن ذلك أن صاحب الرياسة والأبهة لو خطب بذكر عشيق له وبأوصاف وجده به وحنينه إليه وشهرته في حبه وبكاه من أجله، لاستُهجن منه ذلك وتُنُقص به فيه، ولو قال في ذلك شعرا لكان حسنا».

وقدو توفي العسكري سنة 395 للهجرة، وعلى كثرة ما حشد في كتابه من فنون النثر وطرائقه، لم يأتِ برسالة واحدة بين حبيبين إلا ما أورده في باب “ما يحتاج الكاتب إلى ارتسامه وامتثاله”، قال: «وينبغي أن يكون الدعاء على حسب ما توجيه الحال بينك وبين من تكتب إليه.. وقال كتب بعضهم إلى حِبَّةٍ له: عصمنا الله وإياك مما يكره. قال فكتبَتْ إليه: يا غليظ الطبع لو استجيب لك دعوتك لم نلتق أبدًا…».

ولا ريب عندنا أن هذه الكتابة مصنوعة للتمثيل بها في هذا الموضع كالذي كانوا يصنعونه من الشعر إذا احتاجوا إلى الشاهد والمثل، على ما بيناه في باب الرواية من «تاريخ آداب العرب».

ثم هم يخصون الشعر بالغزل والتشبيب والنسيب لأن الشعر أيسر عملا وأخف مؤمنة في هذا الباب، إذ يعين بقوافيه على الإبداع في المعاني، فإن القافية كثيرا ما تخترع المعنى وتلهمه الشاعر. ثم الشعر يصحبه الوزن واللحن فيعين بنسقه أيضا كما يعين بقوافيه. ثم تجيء ألفاظه مقدودة مفصلة فتكون حيلة ثالثة. ثم هو يكتفي منه بالبيتين والأبيات اليسيرة، فيجيء في كل ذلك على أتمه وأحسنه، ويقوم به؛ بخلاف الكتابة، فلا يجدي فيها السطران والأسطر القليلة في رسالة تصف الحب، وما ستر هناك يفضح هنا، وما أعان في الشعر يخذل في النثر، والشعر إجمال والكتابة تفصيل.

وأنت فاعمد إلى بيتين من رائع الغزل كقول ابن الطثرية:

بنفسي من لو مر برد بنانه … على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كل شيء وهِبْتُه … فلا هو يطعيني ولا أنا سائله

فاجعل هذين البيتين رسالة إلى حبيبة، فإنهما يجزِئان ويؤديان الرسالة، وينقلان إليها عن نفسك معاني الاحتراق والعشق والصبابة، ويتكلمان عندها كثيرا ويعلقان بذهنها ويدوران في قلبها دورة الدم. ثم اعمد إليهما فاجعل المعنى المنظوم في سطرين، وحاول منهما رسالة كتلك، فإن السطرين لا يتزحزحان ولا يمشيان إلا كما يتوكأ الأعرج على أعرج مثله.

وهذا إلى أن الكتابة في معاني الحب لا تحتمل الصدور والفصول وصناعة الألفاظ والترادف بالكثير منها على القليل من المعاني. ويسمُجُ فيها خاصة ما تراه يحسن في غيرها من فنون الكتابة كالتوسع بالنقل والرواية وتشقيق الكلام بما يلامس كل معنى، والطغيان في العبارة بذلك وما إليه وكل شيء فهو يصلح مادة للكتابة إلا في هذا الفن من رسائل الحب، فإن مادته القلب والروح وفلسفة العاطفة وترادف وحي الجمال بالمعاني الكثيرة على الشعور الواحد لا وحي اللغة بالألفاظ الكثيرة على المعنى الواحد، ولا يتخلص إلى فنونه ومعانيه إلا من ثمة. فكأن هذا الباب هو من ناحية ليس في طبيعة كتابة المتقدمين، ومن الناحية الأخرى ليس في طبيعة الاجتماع يومئذ لأسباب لا محل لبسطها في هذا الإيجاز.

ولقد كتب شيخنا وأديبنا الكبير الجاحظ رسالة في العشق والنساء، وهي في مجموعة رسائله، فكان والله كالذي يلبس ملكة الجمال في هذا العصر مرقعة قذرة… واجتلب من هنا وهناك لمعانيه وشق لها المداخل والمخارج على طريقته واتسع بذلك في العبارة، فجاءت أبرد رسائله وأسقطها، وكان هذا الإمام فيها كالذي يتحسس بيده مجلدا ضخما من الكتب، ثم يذهب يستوحي من جلدته أوصاف ملمس جسم الحبيبة… التي «كأنها طاقة نرجس أو كأنها ياسمينة أو كأنها خرطت من ياقوتة». وساق ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار رسالة من منية إلى صاحبها قابوس –وهما من أعلام العشق في الأدب- ثم جواب قابوس عليها، ثم رسالة أخرى منه[6]، فكتبت منية إلى حبيبها:

من سن سنة فليرض بأن يُحكم عليه بها، ومن سأل مسألة فليرض من العطية بقدر بذله، لكل عمل ثواب ولكل فعل جزاء، ومن بدأ بالظلم كان أظلم، ومن انتصر فقد أنصف، والعفو أقرب إلى العقل، وغير مسيء من أعتب، ومع المَخْض تبدو الزُّبدة، وعند تناهي البلاء يكون الفرج، وكل ذي قّرْح يشتهي دواء قرحه، وكل مَطْمع منتظَر، وكل آت قريب. الموت أروح ن الهوى، واليأس أول سبب الراحة، والسحر أنفذ من الشعر[7]، ودواء المحب كل محب حبيبه. مع اليوم غد، كما تدين تدان، استشف الله لما بك واسأله المدافعة عنك.
وأجابها قابوس:
من الكرام تكون الرحمة ومن اللئام تكون القسوة. من كَرُم أصله لان قلبه ورقّ وجهه، ومن عاقب بالذنوب ترك الفضل، ومن ترك الفضل أخطأ الحظ، ومن لم يَغفر لم يُغفر له. أولى الناس بالرحمة من احتاج إليها فحُرمها. لكل كرب فرج ولكل عمل ثواب. ملكت فاسجحي، وقدرت فاعفي. ويل للشجي من الخلي.

فانظر ويحك ما هذا الكلام المتقطع المبتذل المطروق المنتزع كله من الأمثال والحكم كأن العشق في الحافِظة. ولم يورده ابن قتيبة إلا في باب النساء والعشق. ثم ما عسى كان يقول هذان الحبيبان لو أن مُنية هذه قامت على منبر مسجد الكوفة، وصعد قابوس المنبر في مسجد البصرة، وأراد أن يخطبا الناس لإقامة صلاة الجمعة؟

على أن بلغاء الكتاب في كل عصر قد تناولوا، في ترسلهم، فن (الإخوانيات) وأجرَوْا فيه رسائل المودة والشوق والصدافة والاستعطاف والعتاب والاعتذار والاستزارة لمجالس اللذات والأنس، وهذه كلها من أمس المعاني بالحب وأقربها شبها به. وقد أجاد بعضهم في ذلك إجادة بالغة، وأنت تجد رسائلهم منثورة في كتب الأدب[8]، ومن أبدعها قول سعيد بن حُميد حبيب فضل الشاعرة: «إني صادقت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد لك بغير زمام لأن النفس يقود بعضها بعضا»[9].

غير أنهم يشترطون في هذا الفن من الرسائل الإيجاز والاختصار وأن لا يتجاوزوا بع نكتة المعنى ليجيء قصدا قريبا، ولعل ذلك للعلة التي أومأنا إليها من قبل إذا كان هذا على حدود الحب، فإذا تبسط فهو الجب بعينه. والكثير في الحب لا يكثر ولا يُمل، أما في الصداقة إلى حدٍ وحسب.

وانظر ما كتب بعضهم في قطيعة صديق، إذ كتب إليه: «لم يدع انقباضك عن الوفاء وانجذابك مع سوء الرأي في ملاحظة الهجر، والاستمرار على الغدر، محرّكا من القلب عليك، ولا خاطرا يُومي إلى حسن الظن بك. هيهات، انقضت مدة الانخداع لك حين أخلفت عدة الأمني فيك، وما وجدنا ساترا من تأنيب النصحاء في الميل إليك والتوفر عليك، إلا الإقرار بطاعة الهوى والاعتراف بسوء الاختيار».

فهذه الرسالة لو أنها صُرِفت إلى حبيبة وامتد بها النفس على هذا الأسلوب، وبمثل هذا التصرف، لتكون صفحتين أو تبلغ صفحات، لرجفت أركانها الوثيقة، وخرجت إلى الاستكراه والتكلف، وجاءت عيوبها من محاسنها، وهلك من طول أولها إلى إلى آخرها.

ولذلك نحونا في «أوراق الورد» أسلوبا خاصا تدور به المعاني الحسية في ألفاظها بألين مس وألطفه على وضع مستحكم كما يمس الدم الحي عروقه التي يدور فيها.


ولم نقف على اسم كتاب أفرد لرسائل الحب، ولو أنهم كتبوا فيها لجمعت كغيرها وأفردت بالتدوين، بيد أن للقيان الأديبات المتظرفات ضربا من رسائل الحب بكتبنها بالذهب والمسك والزعفران في بديع الحرير الصحيني وضروب الديباج ويجعلن ظروفها طرائف المناديل، ويتخذن لها الزنانير الحريرية تربطها ويطيبنها بالمسك والذرائر[10]، ولا يكتبن فيها إلا «نتف الألفاظ المهلكة، ومُلَح المكانبة، وطرائف المعاتبة، وجميل المطالبة، وشكيل المداعبة». وقد جمع أبو الطيب الوشاء من أدباء القرن الثالث كتابا من هذه الرسائل، سماه “فرح المُهج”، والذي يؤخذ من كلامه أن أكثر ما يكتب في ذلك هو الشعر والمثل وأبيات العتاب والسلام ونحوها مما هو محفوظ مأثور، فليست هذه من رسائل الحب وإنما هي من وسائله.

وأبعد في الاستحالة من كل ما مرّ أن يكون في الأدب العربي ديوان من الرسائل الغرامية لكاتب واحد، فلقد كان مثل ذلك في الشعر كالندرة والفَلتة، حتى قال الجاحظ: «لولا أن العباس ابن الأحناف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاما وخاطرا ما قدَر أن يكون شعره في مذهب واحد لا يجاوزه لأنه لا يهجو ولا يمدح ولا يتكسب ولا يترف، وما نلعم شاعرا لزم فنان واحدا لزومه فأحسن فيه وأكثر».

ولأدبيات الجواري رقاع في مكاتبة عشاقهن بيد أنها لا تذهب إلا مذهبا واحدا في الكلام، فهي في القلم كما هي في اللسان وليس الكتاب إلا رسولا لا رسالة. وقد نقل صاحب الأغاني في ترجمة عرِيب الحسناء الفاتنة المغنية الشاعرة الكاتبة البليغة المتعشقة التي تكاد تشبه الأديبة الفرنسية الشهيرة المتسمية (جورج ساند) فس عشقها واستكلابها.. نقل أنها عشقت صديقا لمولاها يقال له حاتم بن عدي، قال فمد عينه إليها «فكاتبها فأجابته».

وقال أيضا أنها لما صارت في دار المأمون احتالت حتى أوصلت محمد بن حامد، وكانت قد عشقته «وكاتبته» ونقل عن بضعهم. قال وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها ذكرت لبعض الكتاب. قال: فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر بن يحيى[11]. ثم روى صاحب الأغاني من مجونها وإفحاشها، فلو أن لها رسائل حب لاستطرف منها هو أو غيره، ولكنها كما قدمنا رقاع في مثل الكلام الذي يتراجعه كل صاحبين إذا تحدثا أو تشاكيا أو تواعدا، وليست من الرسائل المصنوعة المجوّدة القائمة في فنها على شاعرية الجمال وتفلسف الحب وغزل الروح وخصائص المعنى. وتبذَّل بعض أدباء التأرين فكتبوا في الرسائل الغرامية يخاطبون فيها بكاف الخطاب المفتوحة، كقول الأديب الشهير ابن سناء الملك من رسالة:

وإنا والله في أمركَ مغلوب، والسبب أني أنا المحب وأنت المحبوب، ولا أتجلد عليك وأخون حبك، ولا أتصنع عليك فأغشك وأغم قلبك. اعمل ما شئت فأنا الصابر، وافعل كيف شئت فأنا الشاكر، وقل فلي سمع يعشق قولك، والتفت تر آمالي ترفرف حولك، وافعل فأنت المعذور، واستطل فما أنا المضرور بل المسرور، وارجع إلى الواد الذي بيننا فكل ذنب لك مغفور.
وهذا كما ترى، كلام غث سمج، وحب قد يكنسه في الطريق الكناسون.

ولبديع الزمان رسالة مشهورة، إلى بعض من عزل عن ولاية حسنة، أثبتها في ديوان رسائله. ولابن الأثير في كتابه «المثل السائر» رقعة قال إنها من عاشق لمعشوق، وعدها فيما عد من معانيه المبتدعة، وكل ذلك عندنا لا قيمة له.

ومن المضحكات المبكيات، رسالة كتبها علاء الدين المغربي سماها النيرين. قال: وهي من المحب الكئيب إلى حبيب الحبيب[12]… وقد أوردها ابن حجلة من أدباء القرن الثامن في كتابه الذي سماه (حاطب ليل).

فأنت ترى أن الأدب العربي قد انطوى على محجوبة من هذا الفن بقيت في الغيب إلى عهدنا هذا، ونرجو من فضل الله أن تكون كتبنا الثلاثة قد أظهرتها واستعلنت بها، وأن تقول العربية إذا تواصفوا كتب هذا الباب في بيان اللغات الأخرى: “هاؤم اقرءوا كتابيه” والحمد لله بما يبلغ رضاء.


نشرت هذه المقالة في “المقتطف” مارس 1931، وهي مستلة من كتاب الرافعي: “أوراق الورد”.[1] يظنه بعضهم شخصا خرافيا! ولسنا من هذا الرأي، وإنما حملوا عليه في الرواية.[2] استوفينا هذا الباب في الجزء الثالث من كتابنا “تاريخ آداب العرب” وإنما نلم هنا ببعض الأسماء إرسالا على طريق ما نحن فيه، لا على طريق التأريخ.[3] وأسماؤهن وحدها غزل، ومن هذه الأسماء: حكم الهوى، وقلوب، وصدق، ومهج، وخشف، وبدعة، ومشتهى، وكنوز، ونشوان، وترشف، وملاعب… إلخ. وكان فيهن أديبات محسنات، ولهن بلاغة هي صورة أخرى من جمالهن كفرحة جارية ابن الجهم الشاعر المشهور، سألها ذات ليلة: كم بيننا وبين الصبح؟ فقالت: عناق مشتاق. وقال لها مرة: نجعل مجلسنا الليلة في القمر؟ فقالت: ما أولعك بالجمع بين الضرائر![4] توفي سنة 295، ومن كتابه جزء في دار الكتب المصرية، وكان يعشق على الطريق التي أشار إليها ابن سينا، والتي هي حقيقة الحب، ولا تنس أنه كان فقيه أهل العراق![5] هو أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى الوشاء، من أدباء القرن الثالث، وستأتي الإشارة إليه بعد، وكتبه في هذه المعاني مسماة في الظرف والظرفاء.[6] الجزء الرابع من عيون الأخبار صفحة 136، طبعة دار الكتب المصرية.[7] الصواب: الشعر أنفذ من السحر، كما هو ظاهر.[8] عيون الأخبار لابن قتيبة، والظرف والظرفاء، والصناعتين ، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وصبح الأعشى، ويتيمة الدهر، والمنظوم والمنثور لطيفور، وغيرها. وقد يكتب في هذه المعاني بعض القيان، كالرقعة التي أملتها جميلة المغنية في استزارة عبد الله بن جعفر، ونقلها صاحب الأغاني في ترجمتها في الجزء السابع. وجميلة هذه من أبلغ النساء وأظرفهن، وكانت سيدة أهل زمنها في الغناء وكانت تتواضع للأحوص وتعجب به وتغني بشعره.[9] روى صاحب الأغاني عن ابن أبي المدور قال: كنت عند سعيد بن حميد، وكان قد ابتدأ ما بينه وبين فضل الشاعرة يتشعب، وقد بلغه ميلها إلى بنان وهو بين المصدق والمكذب بذلك، فأقبل على صديق لي فقال: أصبحت والله من أمر بنان في غرور، أخادع نفسي بتكذيب العيان، وأمنيها ما قد حيل دونه.. والله إن إرسالي إليها بعد ما قد لاح من تغيرها لذل، وإن عدولي عنها وفي أمرها شبهة العجز، وإن تصبري عليها لمن دواعي التلف. ثم أنشد أبياتا من الشعر.فهذه كانت طريقتهم في الحب، يتحدثون ولا يكتبون فيه، ويتراسلون به إما في الألسنة وإما في رقاع تقوم مقامها في التحدث والتأدبة والإبلاغ، وفي كتب الأدب أشياء من هذه وتلك. ولقد كانت كلمات سعيد في تلك الحال تصلح مادة رسالة بليغة في صاحبته الشاعرة الجميلة لولا ما بيّناه، وكانت رسائل فضل شعرا تنظمه، وفي رأينا أنه لو كان ابتدأ فن الرسائل الغرامية كاتب: لابتدأه سعيد هذا.[10] جمع ذريرة. ضرب من الطيب مما كانوا يصنعونه.[11] لا ريب عندنا أن هذه العبارة مما يتكذبون به لغرض من أغراضهم في الرواية، ولذلك قال في سندها: سمعت من يحكي. ويروون أن عريب زارت محمد بن حامد مرّة فجعل يعاتبها ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا. فقالت: يا عاجز، خذ فيما نحن فيه.. فإذا كان غدا فاكتب إليّ في طومار (فرخ ورق) حتى أكتب إليك في ثلاثة، ودع الفضول فقد قال الشاعر:

دعي عدّ الذنوب إذا التقينا .. تعالي لا أعدّ ولا تعدّي

وهذا إن لم يكن حدث فهو تهويل من صناعة الأخبار على طريقتهم في سوق الحكاية وتنزيل معانيها وتدبير نسقها. وإن كان قد حدث فهو تهويل من عريب وتبسط، وكانت طويلة اللسان مهذارة، كأنها تقول لصاحبها: إن كان قدر لسانك طومارا فلساني ثلاثة..[12] عشق هو حبيبا، وعشق الحبيب حبيبا في مثل سنه وجماله فاتصل النيّر بالنيّر. فهذا سبب تسمية الرسالة بـ النيّرين.