لكل منا ذلك المكان الخاص الذي يحتفظ فيه بأشياء قد تبدو للغير تافهة، ورقة بالية أو وردة بلاستيكية أو دمية مكسورة.

تلك الأشياء قد تكون عديمة القيمة المادية فعلاً، لكنها تعني لنا الكثير، فهذه الورقة البالية هي رسالة من شخص عزيز، وتلك الوردة البلاستيكية كانت هدية تعبر عن حب كبير، وتلك الدمية المكسورة تعيد إلينا ذكريات سعيدة، إذاً فالأشياء الجامدة لا تَكون قيمتها في ذاتها وحسب بقدر ما تكتسب قيمتها المعنوية منا نحن، ولذلك ليس بالضرورة أن ما نراه شيئًا قيّمًا وعظيمًا أن يعتبره الآخرون كذلك أيضًا.

والآن نأتي للسؤال المهم: «كيف تكتسب المقدسات الدينية قدسيتها واحترام الناس لها؟».

كتاب الله الذي يعظمه المسلمون قد يهينه آخرون بفخر، ومساجد الله التي يعتبرها المسلمون أطهر بقاع الأرض قد يدنسها آخرون بأريحية شديدة، إنه اعتقاد الإنسان عن هذه المقدسات هو الذي يتحكم في تصرفه تجاهها.

في الأيام القليلة الماضية أشعل تصريح ترامب باعترافه بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني بفلسطين الرأي العام وأثار حفيظة المسلمين، إذ إن عقيدتهم تعظّم المسجد الأقصى باعتباره مسرى النبي محمد/ صلى الله عليه وسلم، وأحد المساجد التي تُشد إليها الرحال، وعلى الرغم من الضيق الذي أصابنا بسبب هذا الخبر، إلا أنه على الجانب المشرق ظهرت محاولات عديدة لتعليم الأطفال عن المسجد الأقصى بهدف نُصرته، وهو شيء محمودٌ بالتأكيد لكنه غير كافٍ في رأيي، فتعرُّف الطفل على معالم المسجد الأقصى هو كتعلمه عن أي من المعالم الأثرية الموجودة بأي بلد آخر، إذا لم يكتسب الطفل الاعتقاد الراسخ بقدسية هذا المكان له كمسلم، وبالتالي يكون احتلال الصهاينة له قضية إسلامية هو طرف أساسي فيها، وليس قضية فلسطينية فقط نتابعها كما نتابع الصراع بين أمريكا وكوريا مثلاً.


هل يقدس الطفل المقدسات الدينية لأنه وجد آباءه يقدسونها، أم لأنه يعتقد فعلاً في قدسيتها؟

في بيت جدتي قديمًا كان لابد من غسل الملابس البيضاء بطريقة معينة، ماء مغلي ومبيض ومسحوق زهرة زرقاء، خطوات كثيرة وصعبة شاهدت أمي تفعلها لسنوات رغم امتلاكنا غسالة حديثة، لأن في اعتقادها كانت هذه هي الطريقة المثلى لفعل هذا الأمر، استغرق الأمر كثيرًا حتى تخلّت أمي عن هذا المعتقد واستخدمت الغسالة، لكنها تخلت عنه في النهاية.

أعرف أيضًا شخصًا ظل يشجع ناديًا رياضيًا لسنوات متحملاً هزائمه المتكررة ليس لشيء إلا لأنه وجد والده يشجع هذا الفريق منذ نعومة أظافره، استغرق الأمر كثيرًا حتى استطاع أن يغير ولاءه ليشجع ناديًا آخر، لكنه غيرّه في النهاية.

حين يأتي الأمر لمنطقة الدين والعقيدة، فأنا بالتأكيد لا أرغب أن يعتنق أبنائي ديانتي فقط لأنهم ولدوا فوجدوا أنفسهم يعتنقونها بالتبعية، بل لأن لديهم إيمانًا راسخًا بأنهم على حق، لا أرغب أن يقدس أبنائي ما أقدسه فقط لأنهم ولدوا فوجدوني أقدسه، بل يقدسونه برغبة داخلية منهم لإيمانهم بقدسيته، لذلك كانت تجول بخاطري دائما أسئلة مثل:

  • هل هدفي هو أن يحافظ طفلي على الصلاة؟ أم أن يحب طفلي الله فيُسرع إلى تلبية ندائه؟
  • هل هدفي هو أن يحافظ طفلي على الأذكار؟ أم أن ينشغل قلبه وعقله بذكر الله دائمًا فينعكس ذلك على لسانه وجوارحه؟
  • هل هدفي أن يؤدي طفلي السُنن؟ أم أن يحب الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويوقره فيختار أن يقتدي به ويقلده؟
  • هل هدفي أن يُقدس طفلي مقدساتنا الإسلامية لأني أعتقد أنها مُقدسة؟ أم لأنه يشعر في قرارة نفسه بقدسيتها؟

حين نركز على النتائج الظاهرية ونجعلها غايتنا دونًا عن المعنى والجوهر، فكأنما نبني برجًا عاليًا لكننا لم نحفر أساسات قوية له داخل الأرض لتحمله طويلا وتدعمه لمقاومة ما يهدد استقامته، لذلك كان من المنطقي بالنسبة لي أن أبدأ بحفر الأساسات قبل أن أرتفع بالبرج عاليا.


من أين أبدأ غرس العقيدة في طفلي؟

للإجابة على هذا السؤال علينا أن نعرف الغايات لنحدد وسائل التحقيق، بالنسبة لي فالإجابة دومًا: (ابتغاء مرضاة الله)، لذلك كانت الوسيلة الأولى والمنطقية هي (معرفة الله سبحانه وتعالى).

ولم أجد طريقة لمعرفة الله أفضل من عبادة التفكر التي عرف بها سيدنا إبراهيم، عليه السلام، ربه، يتفكر الطفل في نفسه وفي الكون من حوله فيتعرف على الله بصفاته وأسمائه، فيحب الله ويشعر بعظمته وفضله ويستيقن من غايات عبوديته التي تنبثق عنها الأخلاق الإسلامية الرفيعة، وتتمثل غايات العبودية في طلب مرضاة الله وشكره وحبه وخشيته والشوق إلى لقائه ومراقبته والاستعانة به والتوكل عليه والوقوف على غايات الاستخلاف في الأرض وتأمل الحكمة والإكرام في تسخير موجودات ومخلوقات الكون لنا.

على قدر معرفة الطفل بالله وبأفعاله وصفاته واستشعار معاني أسمائه الحسنى، على قدر ما سيقوم بمقتضى هذه المعرفة بالشكر والعبودية الصادقة التي تقوم على المحبة ومعانقة الطاعة.

حتى يشعر الطفل بحب الله عليه أن ينظر إلى نفسه وإلى الموجودات من حوله ليرى أن كل مخلوق من مخلوقاته آية دالة على آثار محبته وإكرامه وحكمته وإحسانه، فالمحبة تنمو في القلب عندما تدرك النفس وتتأمل جمال المحبوب، وتذوب في مظاهر الود والإكرام والإحسان، فالنفس مجبولة على حب من أحسن إليها، وعلى التعلق بمن له صفات القوة والكمال والجمال.

يمكننا دائمًا ربط أهداف الدروس في أي مادة يدرسها الطفل للاستدلال على الحكمة من الخلق، والغاية التي يجب أن يتحقق من خلالها الوجود الإنساني. فنحن نستطيع أن نذكر الأطفال دوماً أننا نتعلم مادة الرياضيات – على سبيل المثال – لأن العقل نعمة من الله الكريم ننميه بالتعلم وإن تنمية العقل تؤهلنا للاستخلاف في الأرض.

ونحن نستطيع أن نتفكر في الثدييات في مادة العلوم ونعبر إلى الحكمة من خلقها، ونتفكر في أوراق الشجر ونتأمل في البعد الجمالي والوظيفي الذي يرتبط بوجودها، نتفكر في قصص التاريخ وعبره فنعبر من كل شيء حولنا إلى حكمة وجوده وغاية العبودية من خلاله فيتحقق فينا الإيمان اليقيني ونحيا الدور الذي وجدنا من أجله.

من المناهج الجميلة التي وجدتها تدعم تصوري عن غرس العقيدة في الأطفال هو منهاج «تفكر مع أنوس» لصاحبته أستاذة مها شحادة، كونها كانت غير مسلمة وأسلمت عن طريق عبادة التفكر فقد رأت أنه لابد للأطفال أن ينعموا بالإسلام اعتقادًا وليس فقط اتباعًا لذلك عكفت على تصميم هذا المنهج المدعم بالقصص المصورة والأناشيد والألعاب وجلسات التفكر التي تهدف لبناء الإيمان وغرس محبة الله تعالى.