تمر اليوم الذكرى الخمسين لهزيمة يونيو/حزيران تزامناً مع ذكرى العبور في العاشر من رمضان في مفارقة تاريخية لم تتكرر من قبل، بعد مُضي عقود على كليهما، تبدلت الأحوال فيها وتبددت نشوة الانتصار، ولم يبق ملموسًا سوى ألم الهزيمة الذي لا يزال يضرب في عصب مصر.

تلك العقود التي صار العدو فيها صديقًا حميمًا، ثم حليفًا، وأخيرًا كفيلًا تُنفذ أوامره بالحرف دون نقاش بعد أن استبدل باحتلال سيناء احتلال قصر الحكم، وتغيرت فيها نواميس العقل والمنطق، فأضحت الخيانة وطنية، والعكس أيضًا، لتُقام الاحتفالات والمهرجانات ابتهاجًا بالتنازل عن الأرض بدلًا من الدفاع عنها بالدماء والأرواح، واستبدل السلاح بوجهته نحو أعين العدو مغتصب الأرض صدور المدافعين عنها والرافضين لضياعها، فيأتي اليوم احتفال العدو احتفالين، أحدهما بذكرى احتلال الأرض، والآخر باحتلال القصر.

كما كانت ثورة يناير/كانون الثاني هي المشعل الذي أضاء البلاد من عتمة الاستبداد، فرأينا ما صار إليه حال مصر، كان الانقلاب عليها كاشفًا لما وصل إليه وضع الجيش، ومثلما بانت حقيقة المجتمع جراء عقود من استبداد جرف العقول ومحا أثر الحياة في الأرواح؛متهالكاً خاويًا على عروشه من ذرة رمق اقتصادي أو بيئة سياسية أو فكرية، اكتشفنا أيضاً أن الجيش لم ينج من ذلك التجريف، بل أسوأ، وأن عقيدة قادته قد تبدلت بالكامل.

ومثلما كان الصراع على السلطة بين قادته السالفين والانشغال بالسياسة ومصادرة المجال العام هو السبب الجوهري في هزيمة 67 النكراء، أضحى الصراع على السلطة والثروة، بل على أقوات الناس، المعركة المقدسة لقيادات اليوم، وفي سبيلها يُضحى بكل شيء حتى تلك الأرض التي شربت نهرًا من دماء المخلصين لاستردادها من احتلال كان سببه سلفهم.

عقب انتصار العاشر من رمضان بدأت إسرائيل في دراسة أسباب الهزيمة ومحاسبة المقصرين والمخطئين، كما بدأت في التخطيط لوسيلة جديدة تُحقق بها هدفها المنشود وقضيتها الأولى والجوهرية، وهي بناء دولتها بأسس متينة، والتي لا سبيل لها إلا بالعلم، لتصبح اليوم الدولة رقم واحد في العالم في نسبة الإنفاق على البحث العلمي، ورقم 3 عالميًّا في مجال الابتكارات والاختراعات الناجحة التي تساهم في تقدم البشرية (وفق تقرير المنتدى العالمي للاقتصاد)، وتُعزز من قوتها الداخلية بالرقابة والشفافية والديمقراطية، لتحتل المرتبة الأولى في الشرق الأوسط في مؤشر الديمقراطية اليوم (وفق تصنيف وحدة إيكونوميست للمعلومات لعام 2016).

وذلك بالتزامن مع العمل على تركيع وتحطيم الشعوب من حولها، لمعرفتها الجيدة بأنه لا سبيل لبقائها إلا وسط شعوب هزيلة محطمة لا تفكر في قضية أكبر من كسرة غذاء وملعقة دواء، وهو ما لا يحدث إلا بالديكتاتورية والاستبداد والفساد، وهي المهمة التي لم تكلفها عناءً كبيرًا بعد أن تولت حكومات تلك الدول هذه المهمة مُحققة نجاحًا باهرًا فيها، جعل منها –الدول العربية- مجموعة من المآسي العالمية، لا تظهر في الإعلام إلا في أخبار الكوارث والنكبات والفضائح.

أما نحن في مصر، فما إن أعلن رئيس الجمهورية أن تلك الحرب هي آخر الحروب، حتى أخذ شركاء الحكم في تقسيم الغنائم والتخطيط للاستيلاء على الثروات والنفوذ والقوى، مرسخين حكم مستبد فاسد لا يُحاسب مخطئًا أو مجرمًا أو فاسدا طالما كان هناك ما يحميه من القوة والنفوذ.

كما كانت جملة السادات تلك بمثابة زر استرخاء وسبات، استغله قادة الجيش أجيالًا وراء أجيال في جني أرباح ومكاسب مالية بأي شكل ممكن، وأصبحت خططهم منحصرة في احتكار كل ما تصل إليه أيديهم وكل ما يمكن أن يُدر عليهم مبالغ مهولة لا يُعرف عنه شيء؛ لأنها مُحصنة ضد الرقابة أو المحاسبة.

فغرقت البلاد في بركة وحل من فساد وجهل ومرض وفقر، لتحتل ذيل الأمم في التعليم قبل أن تُطرد من التصنيف، وأواخر المراكز في الديمقراطية والبحث العلمي (رقم 133 في مؤشر الديمقراطية، و129 في البحث العلمي، و119 في مجال الابتكارات والاختراعات الناجحة وفق المؤشرات السابقة)، ذلك بجانب مراكز متقدمة للغاية في مؤشرات الفساد ولا سيما الفساد العسكري الذي وصفته منظمة الشفافية العالمية بأنه في مرحلة «حرجة»،والذي هو أسوأ تصنيف في هذا المؤشر.

الوضع الذي توضحه المؤشرات السابقة رأينا ناتجه رأي العين خلال السنوات القليلة الماضية، والتي شهدت على حجم الانسحاق الذي وصلت إليه السلطة في مصر أمام العدو الصهيوني، والذي كان من مشاهده لقاءات سرية يذهب إليها رئيس الجمهورية مع قادة العدو يتآمرون فيها على القضية الفلسطينية، والتصويت لصالح العدو في المحافل الدولية، والتنازل عن حقول الغاز لصالحهم، وتضييع مليارات من خير هذه الدولة، وتدخلهم عسكريًّا في سيناء وشن عمليات عليها، وتفاخر وزير دفاعهم بدهس السيادة المصرية.

حتى وصلنا إلى التنازل عن أرضنا لهم بأوامر مباشرة استمعنا لها في مكالمة وزير الخارجية «سامح شكري»، مع «إسحاق مولخو» المستشار والمحامي الشخصي لرئيس وزراء دولة الاحتلال، يُطلعه فيها على بنود اتفاقية الخيانة والعار التي ستُعطيهم السيادة على حدودنا، تلك الأوامر التي وقف رئيس الجمهورية أمام العالم بلا نقطة وطنية أو خجل يُعلن التنازل عنها في حضور قادة الجيش والقوات الأمنية، تلك القوات التي بدلت اتجاه أسلحتها من وجوه العدو إلى صدور الشباب الذين خرجوا للدفاع عن أرضهم، ليُعْتَقَل مئات منهم وتعذيبهم في مشهد لن ينساه هذا البلد أبدًا، وسيبقى شاهدًا على بئر الخيانة الذي سقطت فيه السلطة.

إن الأعجوبة التي يحملها تاريخ اليوم الميلادي والهجري تُبلغنا رسالة أخيرة مفادها أن الانتصار والهزيمة صارا جسدًا واحدًا، وأن البدلة العسكرية التي حملت النصر يرتديها الآن أنصار العدو نفسه وأعوانه، وأن ذلك الانتصار لم يبق منه إلا اسم فقط يحمل مرارة هزيمة نكراء كسرت ظهر هذا الوطن، ولم يكن الانتصار الذي تلاها إلا مُسكنًا اختفى أثره وظلت المرارة كما هي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.