«شتاء رأس البر أدفأ للروح من صيفها ويتسم بالهدوء والحميمية، تبدو كقرية صغيرة.. كل الوجوه مألوفة ويعرف سكان المدينة بعضهم بعضًا، تشعر بالأمان مع جيرانك لدرجة تمكنك من ترك باب البيت مفتوحًا دون قلق».

كان هذا انطباع مي رضوان، 32 عامًا، صيدلانية إكلينيكية، عن الشتاء في مدينة رأس البر التي عاشت فيها لسنواتٍ طويلة، وهو ما تطابق تقريبًا مع بسمة محمدين، التي تدرس بالسنة الأولى في الجامعة، وتقيم في رأس البر حاليًا، حين سألنا كلتيهما عن حال الشتاء في المدينة التي تستقبل ملايين المصريين للاصطياف كل سنة.

مصيف أولاد الذوات

تُعرف رأس البر بأنها «الساحل بتاع زمان»، مصيف الطبقة الأرستقراطية ووجهة المشاهير، الذي تحول شيئًا فشيئًا إلى مصيف البسطاء والطبقة المتوسطة.

هي مدينة ساحلية هادئة تابعة لمحافظة دمياط، تتميز بتلاقي فرع دمياط- لنهر النيل- فيها مع مياه البحر المتوسط، في مشهد بهي يمثل ظاهرة تلاقي مسطحين مائيين معًا، «مرج البحرين»، فعلاً كما سمّاها المؤرخ تقي الدين المقريزي.

لعبت المفارقة التاريخية دورًا في شهرتها الوهّاجة، بعد ما تسببت الحرب العالمية الثانية في تعطل رحلات السفر السنوية لوجهاء المجتمع المصري إلى أوروبا لقضاء الصيف على شواطئها، وبدأوا البحث- مكرهين- عن بديل مناسب. في ذلك الوقت لم تكن الإسكندرية وبورسعيد آمنتين من غارات الحرب.. واضطروا للجوء إلى رأس البر، وكانت بداية تألق المدينة كمصيف لا مثيل له.

الرئيس المصري جمال عبدالناصر بصحبة عددٍ من الضباط الأحرار في زيارة إلى رأس البر
الرئيس المصري جمال عبدالناصر بصحبة عددٍ من الضباط الأحرار في زيارة إلى رأس البر

بلغ عدد زوار المدينة في عام 2018م مليوني زائر، فقط خلال يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع- وفقًا لتصريح رئيس المدينة حينها- والذي لم يشمل أرقام الزيارات في بقية الأيام. هذا الرقم مرشح للزيادة بكل تأكيد بعد مرور 3 أعوام على صدوره، أعوامٌ لم يكف فيها المصريون عن ارتيادها والاستمتاع بها صيفًا، دون أن يدروا أن لـ«مدينة الصيف» وجه آخر لا يقل عنها روعة في فصل الشتاء.

الشتاء: الوجه المجهول لرأس البر

تقول مي: «إن شوارع رأس البر تكون شبه فارغة ما يُمكِّن المرء، بسهولة، من أن يقطع المدينة من شرقها إلى غربها مشيًا على الأقدام مستمتعًا بكل بقعة فيها، مضيفة «من المناظر المميزة التي لا أنساها.. القنوات التي كانت تحفر كل عام في الأراضي الطينية حول العشش- بعمق 50 سنتيمترًا تقريبًا- مع حلول الشتاء؛ لكي يتجمع المطر فيها وتمنع غرق البيوت بماء المطر، في مشهد متفرد لا نراه في أي مكان آخر».

لم تعد هذه القنوات تُحفر الآن، كما أخبرنا محمد، لكن هذا لم يمنع أن يحمل «شتاء رأس البر» في نفس محمد، تفاصيل أكثر إثارة.

محمد مسلماني، صاحب ومدير شركة تدريب، 32 عامًا، يعيش منذ خمسة عشر عامًا في رأس البر، تملك عائلة محمد إرثًا عن جده عمره تسعون عامًا متمثلًا في «عشة» داخل المدينة، حرصت العائلة على تجديدها لتنعم بالاستقرار والسكن في رأس البر بشكل دائم، بدلاً من قضاء العطلة الصيفية فحسب.

يقول محمد: شتاؤها أقرب لي، فالهدوء يلفُّ كلَّ ما حولك ويغمرك بخصوصية المكان وانحسار الزحام، فيبرز جمال المدينة وشوارعها التي أقطعها على دراجتي أو أتمشى فيها دون حاجة لمواصلات؛ مستمتعًا بجوها وطبيعتها الأخاذة. 

عرفتْ رمال رأس البر الناعمة التي يطويها محمد بدراجته كثيرًا من نجوم الفن؛ طلبًا للاستجمام وقضاء الصيف، وكذلك لأجل إقامة الحفلات للعائلات الأرستقراطية وأصحاب المقام الرفيع مثل: الملكة نازلي، ومحمد عبدالوهاب ومريم فخر الدين والست أم كلثوم.

أم كلثوم تجلس على شاطئ رأس البر
أم كلثوم تجلس على شاطئ رأس البر

وعلى ذكر الست، التي يحكي الأديب عُمر طاهر، أن أستاذه كان يخبره «أما تكبر هتحبها»، خاضت لبنى الحسيني تجربة مماثلة مع رأس البر، جعلتها تتخطى الحب الطفولي لمصيف رأس البر وصخبه وقضاء ساعات المرح الطويلة على الشاطئ، إلى حب آخر مختلف المذاق، إلى سحر المدينة شتاءً.

لبنى الحسيني، مدرسة لغة بجامعة الدلتا للعلوم والتكنولوجيا في أواخر الثلاثين من عمرها وتقطن في مدينة دمياط الجديدة، التي تقع بالقُرب من رأس البر، تقول، إنها أصبحت تنتظر هي وصديقاتها المقرّبات انتهاء المصيف ومغادرة الوافدين وعودة الجميع إلى أشغالهم، لتقوم بزيارتها عدة أيام تستمع فيها بالهدوء وموج البحر ونسيم الهواء اللطيف في مطلع الشتاء.

تضيف لبنى، رأس البر في هذا الطقس تُشعرني بالعراقة والأصالة، رغم أنها ليست بذلك القِدم، لكنها تكون مدينة حقيقية الجمال لا تحمل بلاستيكية الكثير من المدن الساحلية الآن.

نفس الشعور تحدّثنا عنه، السيدة منى الجابري، ربة منزل، ستينية، اعتادت عائلتها أن تقضي الصيف في «عشتهم» منذ الستينيات، لكنها حاليًا باتت تتردد على المدينة بشكلٍ أكثر انتظامًا بعيدًا عن «الموسمية» بسبب زواج ابنتها في رأس البر.

حين سألناها عن رأيها في المكان شتاءً، أجابت: «أجمل قرار يمكنك أخذه هو العيش والاستقرار في هذه المدينة. لا ضجيج والشوارع النظيفة واللون الأخضر، قدرتي أن أضع كرسيًا في أي زاوية لطيفة أو أن أتمشى لمسافة طويلة في الشوارع الفارغة، مستمتعة بالجو. أنا أحب هذه المدينة جدًا في كل أوقاتها منذ صغري».

ومثلما فقد الصحفي الدمياطي محمد التابعي حبه أسمهان في حادثة سير على طريق رأس البر، فقدت السيدة منى زوجها على الطريق ذاته منذ ثلاثة عقود. «ظننت أني سأكره العودة إلى تلك المدينة، وستمنعني الصدمة من دخولها بعد فقدي زوجي الحبيب، لكن ذكرياتنا وأوقاتنا السعيدة التي قضيناها معًا وحُفرت في ذاكرة المكان كانت أقوى من تبديل حبي لها. ربما كبرت الآن على المشي فترات طويلة في البرد ولكن الجلوس في مسكننا هنا يغلف قلبي بالدفء وأنا أستعيد المشاهد».

وهو الرأي الذي يُشاركها فيه المهندس كريم الحيوان، فبالرغم من أنه من أبناء القاهرة فإنه مهتم بتصوير الأماكن الأثرية والسياحية، وهو ما قاده لزيارة رأس البر في الشتاء، وتركت في نفسه أثرًا طيبًا.

يقول: كانت تجربة رائعة، زرتها للمرة الأولى في ديسمبر 2020، رأيتها في ذلك الوقت من السنة بلا ضوضاء وزحام ويغطي الجو مطر لطيف يزيد جمالها تألقًا؛ وأحب أن يبقى هذا الانطباع متفردًا في ذاكرتي عن المدينة. تمنحك رأس البر في الشتاء القدرة على تخيل الحكايا ونسج القصص. ويمكنك في هذا الوقت، رسم انطباعك الذي تحب عنها استنادًا إلى خيالك وأحاسيسك في مساحاتها الخالية الممتدة على مرمى بصرك وهذه تجربة استثنائية بالنسبة لي».

الحلو لا يكتمل

لا تمرُّ هذه الروعة الشتائية التي تعيشها رأس البر بلا منغصات بالطبع، فالانخفاض الحاد في عدد الزوار يجلب الهدوء لسكانها بالطبع، لكنه يعود بالكساد على المحلات التجارية ويتسبب في خسارة كبيرة لأصحابها.

عادةً ما يأتي شهر الشتاء في رأس البر مصحوبًا بأجواءٍ مناخية قاسية
عادةً ما يأتي شهر الشتاء في رأس البر مصحوبًا بأجواءٍ مناخية قاسية

تقول مي: تغلق أكثر المحال والأسواق أبوابها فور انتهاء فصل الصيف، ولا يبقى سوى بضع أماكن محدودة تغطي حاجة السكان الأساسية.

وهو ذات ما أكّده أحمد مالك، مهندس مدني، 27 عامًا، وهو من أبناء المنصورة لكنه يزور مدينة رأس البر، أكد لنا أنه لا يُحب شتاءها البتّة، فهو يعتبر أن جمال شوارعها الحيوية تكمن في الازدحام والحيوية وكثرة المعروضات فيه بالمأكولات والسلع التجارية، يعتبر أحمد أن الشتاء يجعل شوارع المدينة «تخلو من الونس»، موضحًا «الشتاء هو لا شيء من كل هذا.. برد وأجساد متكومة في البيوت أو داخل المطاعم تلوذ بالدفء منه، مما يجعل المدينة كئيبة».

هذا المعنى يفصّله الحاج صادق فشارة، الأربعيني صاحب إحدى محلات البقالة في السوق الكبير برأس البر، فيقول: «العمل في الشتاء قليل جدًا مقارنة بالصيف، وبالأخص شهري يناير وفبراير؛ فكلما زاد البرد واشتد تقلب الطقس تتأثر المبيعات بشدة وتنخفض إلى 50% في بعض الأحيان مقارنة بالصيف. 

ويتبع: في أيام الصيف لا نغلق أبواب متاجرنا أبدًا ونزيد من أعداد العمالة حتى نكون قادرين على تلبية مطالب الزبائن، أما في الشتاء فتقل ساعات العمل جدًا وفور إقامة صلاة العشاء يختفي المتسوقون- تقريبًا- حتى موعد الإغلاق.

ويضيف: «غالبية التجار يعتمدون بشكل كبير على عائدات الفترة ابتداءً من فترة شم النسيم وحتى انقضاء الصيف، أملًا في تغطية انخفاض الدخل بقية العام».

لم تكن 2020 رحيمة بالحاج صادق وجيرانه في السوق، فقد جاءت فترة وباء كوفيد-19 المستجد العام الماضي وتبعاتها من فترات الحجر الصحي وحظر التجوال لتزيد الطين بلة- صيفًا وشتاءً- وتزداد قلة حركة السوق، ويقتصر البيع إلى حد كبير على بعض طلبات التوصيل المنزلي.

أما بسمة فقد لفتت نظرنا إلى نوعٍ آخر من الخسائر تتعرّض له البيوت والمحلات في رأس البر، وتحديدًا في منطقة اللسان المُطلة على البحر والنيل، وهو الأجواء المناخية القاسية واشتداد الرياح وكثافة المطر في أوقاتٍ كثيرة.

فعلى الرغم من الحاجز الحجري الذي أقامته هيئة الموانئ منذ عام 1938م لتمنع تآكل الساحل المستمر عامًا تلو الآخر والتوسعات التي ما زالت تعقبه لتحقيق الحماية؛ تشهد منطقة اللسان وممشى النيل سنويًا خسائر عديدة بسبب تقلب الجو والرياح الرعدية والعواصف وحركة المد والجذر في شهور الشتاء، بالأخص المطر الغزير وغضبة الرياح خلال النوات السنوية المتكررة مثل: «الغطاس والفيضة الكبرى وغيرهما».

ونتيجة لذلك.. تفيض المياه وتتلف أجزاء من المنشآت والأثاث وأعمدة الإنارة، مما يضطر الوحدة المحلية برأس البر لتعليق العمل لحين الانتهاء من صيانة المنطقة وإصلاح التلف، وهو ما يُصيب المنطقة كلها بالشلل من نوّة إلى أخرى.