يحتقن التاريخ بقصص جنودٍ مجهولين قامت على أكتافهم وبتضحياتهم دولٌ وأمم، وزال غيرُها، ولم يحصلْ أكثر هؤلاء على نصيبٍ وافٍ من الشهرة والتقدير العام يوازي حجم أفعالهم وتأثيرهم.

تخبرنا كتب التاريخ الإسلامي أنَّ دولة الأدارسة التي نشأت في المغرب الإسلامي عام 172هـ، تُعتبر أول دولة كبيرة مستقرة تنتسب إلى آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام من فرع الإمام علي كرم الله وجهه، وهي تحمل اسم أحد أشهر أئمة آل البيت في تاريخ السياسة، وهو إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أخو شهيد آل البيت محمد النفس الزكية الذي استشهد ثائرًا ضد العباسيين عام 145هـ.

لم يتمكَّن الإمام إدريس من تأسيس تلك الدولة التي خلَّدت اسمَه في كتاب التاريخ، إلا بعد أن مرَّ برحلة هروبٍ دراماتيكية، كان يمكن أن يفقد فيها رأسَه في أية مرحلةٍ، لولا أن قُيِّضَ له رفيقٌ استثنائي في تلك الرحلة، هو خادمه الأمين راشد، والذي رافقه في تلك الرحلة، وخاض معه أهوالَها، وحفظ دولة مولاه إدريس في أوقاتٍ عصيبة.

النجاة من (فخ)

شهد يوم التروية 8 ذي الحجة من عام 169هـ موقعة مأساوية غير متكافئة، دارت رحاها في منطقة فخّ قرب مكة المكرمة، بين قوات الدولة العباسية المتفوقة عددًا وعدة وبطشًا، وقوات أحد ثوار آل البيت وهو أبو عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والذي خرج ثأرًا لمظالم ومقاتل آل البيت في عهد أولاد عمومتهم العباسيين، الذين استأثروا بالثروة والسلطة، وبطشوا بخصومهم بلا هوادة.

لم يحمِل الحسين بن علي المذكور فحسب اسم عم أجداده الحسين بن علي رضي الله عنهما، شهيد كربلاء عام 61هـ، إنما حمل مصيره أيضًا، فكانت وقعة فخ بمثابة كربلاء جديدة لآل البيت وأنصارهم، استُشهد خلالها أكثر من مائة منهم، على رأسهم الحسين قائد الثورة، على مرأى ومسمع من آلاف الحجاج الذين تعمَّد الحسين الثورة في موسم حجهم، لعلّه يجد لدعوته أنصارًا كثر.

نجح بعض الثوار المنهزمين في الفرار من ساحة المقتلة، والاندساس بين قوافل الحجاج، فكانوا أكثر حظًا من آخرين اعتُقلوا، ونفذت فيهم السلطات العباسية حكم الإعدام. كان إدريس بن عبد الله أبرز هؤلاء الذين نجوا بصعوبة وفرُّوا من الحجاز في ذلك الوقت العصيب، مندسًّا في قوافل حجاج مصر والمغرب القافلة إلى بلادها. وكان يصحبه ويرعى شؤونه مولاه راشد، الذي أظهر ذكاء كبيرًا في تلك الأوقات التي ترنح فيها مصيرهما على حافة الحياة والموت.

..هم والله أكرم عند الله، وأحق بما في أيدينا منا، ولكن الملك عقيم، ولو أن صاحب القبر- يعني النبي (ص) – نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف، يا غلام، اضرب بطبلك!
عيسى بن موسى العباسي، القائد العسكري العباسي الذي تخصص في قمع ثورات آل البيت، نقلًا عن الأصفهاني في كتابه: مقاتل الطالبيين

لم تخلُ الرحلة العصيبة من طرائف، كان أبرزها أن إدريس وراشد تبادلا المواقع، فكان إدريس يتقمَّص دورَ الخادم الذي يرعى شؤون سيده راشد، وذلك إمعانًا في التعمية على من حولَهما. وهكذا على خُطى رحلة هروب صقر قريش عبد الرحمن الداخل الأموي من بطش العباسيين عام 132هـ إلى المغرب البعيد رفقة خادمٍ وفي هو بدر، اتَّخذ إدريس العلوي نفس خط السير إلى مصر أولًا ومنها إلى المغرب الأقصى بعيدًا عن القبضة العباسية، رفقة خادمٍ أمين أيضًا، هو راشد.

من اللجوء إلى التاريخ

هَذَا إِدْرِيس بن عبد الله بن الحسن، وَأَنا مَوْلَاهُ رَاشد، فَرَرْت بِهِ خوفًا عَلَيْهِ من الْقَتْل وَنحن قاصدون بِلَاد الْمغرب ..
من كتاب (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصا) .. لابن خالد الناصري

كانت المحطة الأهم في رحلة النجاة هي مصر. تختلف المصادر التاريخية في تفاصيل ما حدث للرجليْن في مصر، لكن أرجح سيناريو أنهما توصَّلا إلى أحد موالي بني العباس في مصر، وكان اسمه الفتى واضح، وهو مولى لصالح بن أبي جعفر المنصور. كان واضح متعاطفًا مع آل البيت العلوي ويخفي هذا خوفًا من العباسيين، فاحتفى بالإمام إدريس وقرَّر مساعدة الرجليْن في رحلتهما المغاربية.

ينقل ابن خالد الناصري في كتاب «الاستقصا في معرفة دول المغرب الأقصا» رواية تاريخية تذكر أن اللاجئيْن قد قابلا الفتى واضح بالمصادفة البحتة، حيث لفت أنظارهما جمال داره قبل أن يعرفا صاحبها، فوقفا يتأملانها، فرآهُما، وعرفَ أنهما غريبان، وتحدَّث معهما، ورجَّح خلال كلامه معهما أنهما من الحجاز من هيئتهما. توسّم راشد خيرًا في الرجل، فقام بمخاطرةٍ محسوبة وغير محسوبة في آن، وصارحَ بحقيقة حالهما بعد أن جعله يقسم إن حكى له أن يساعدهما أو يتركهما آمنين. فتهلَّل واضح، وأخبر راشد أنه من شيعة آل بيت الرسول(ص) وأنه سيساعدُهما بكل ما أُوتيَ من قوة.

وَكَانَ رَاشد من أهل النجدة والحزم وَالدّين والنصيحة لآل الْبَيْت ..
الناصري في كتاب (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصا)

لحسن حظ إدريس وراشد، كان واضح هو مسئول قوافل البريد المنطلقة من مصر، فأخفى الرجليْن، وأرسلهما مع القافلة المتجهة إلى المغرب، وحرصًا من واضح على سلامة الإمام إدريس، فإن في المراحل الأولى من الطريق التي تكثر فيها الكمائن الأمنية على الطريق، اصطحب إدريس بنفسه ليتمكن من تجاوزها دون تفتيش قد يكشف حقيقته، وسلك به في بعض المناطق بعض الطرق غير المألوفة، أما راشد فكان بمفرده في قافلة البريد، ثم اجتمع إدريس براشد قرب تونس، وأكملا رحلتهما غربًا منفصلين عن قافلة البريد. وفي الطريق من القيروان بتونس إلى المغرب، عاد راشد إلى طريقة تبادل الأدوار، وألبس الإمام إدريس زيًا من الصوف الخشن، وأخذ يبالغ في الاشتداد عليه أمرًا ونهيًا أمام الناس، ليقتنعوا تمامًا أنه مجرد خادمٍ، وليس أخطر رجلٍ وطأت قدماه أرض المغرب منذ عبد الرحمن الداخل الذي عبر إلى الأندلس.

وصل إدريس وراشد إلى تلمسان غربي الجزائر الحالية، ثم إلى طنجة المغربية، لكنَّهما لم يجدا في المدينتيْن بيئةً خصبة للإعلان عن دعوة آل البيت، فاتَّجها إلى مدينة وليلي المغربية عام 172هـ، أي بعد ثلاث سنوات كاملة من مقتلة فخ، وتقع تلك المدينة في منطقة جبلية تُعرف بجبل زرهون، والتي يقع فيها الآن مدينة سياحية مغربية تُسمَّى (مولاي إدريس زرهون) والتي تضم ضريح الإمام إدريس الأول.

كانت وليلي مدينة حصينة، وغنية بالمياه والزروع المختلفة، وكان حاكم تلك المدينة من البربر واسمه إسحاق بن محمد بن عبد الحميد، فلما عرَّفه إدريس بنفسه، تعاطفَ معه كثيرًا، ووعد بنصرته، وبعد بضعة أشهر، دعا حاكم المدينة سكانَها من البربر إلى بيعة إدريس إمامًا، وخلع البيعة للدولة العباسية، فانسابوا مبايعين أفرادًا وجماعات، وكان البربر قد ضاقوا ذرعًا بالحكومات الاستبدادية الأموية والعباسية المتتابعة، وتوسَّموا في الإمام إدريس أن يقيمَ العدل، فبايعتْهُ قبائل بربرية كبرى مثل أوربة ومغيلة وصُدينة، ثم زناتة ومكناسة .. إلخ.

أَيهَا النَّاس، لَا تَمُدُّنَّ الْأَعْنَاق إِلَى غَيرنَا، فَإِن الَّذِي تجدونه من الْحق عندنَا لَا تجدونه عِنْد غَيرنَا
الإمام إدريس في إحدى خُطبه في وليلي

أما الفتى واضح، فقد أمر الخليفة العباسي هارون الرشيد بإعدامه بعد أن انتشرت أنباء قيام دولة الإمام إدريس في المغرب، وانكشاف تفاصيل المساعدة الجوهرية التي قدَّمها واضح في سبيل ذلك بتهريبه من مصر.

ظلَّ راشد إلى جوار الإمام إدريس يلازمه ليلَ نهار، ويحوطه إحاطة السوار بالمعصم، خوفًا عليه من الاغتيال والمكائد، لكن مضت أقدار الله على إدريس رغم كل ما كان يفعله راشد.

استشهاد إدريس: راشد ينقذ الدولة

عام 172 و 173هـ، شنَّ الإمام إدريس غزواتٍ قوية ضد القبائل البربرية الأخرى غير المسلمة، وانتصر عليها انتصاراتٍ كُبرى، ووطَّدَ دولته في المغرب الأقصى. ثم في النصف الثاني من عام 173هـ، اتجَّه إدريس الظافر إلى الشرق، وحاصر تلمسان، حاضرة المغرب الأوسط، فاستسلمت المدينة، وبايعتْه.

 ذاعت أخبار هذا الانتصار الخطير في كافة أرجاء العالم الإسلامي، وأثارت قلق هارون الرشيد العباسي في بغداد، والذي خشي أن يقوى أمر إدريس، ويطمع في التمدد شرقًا أكثر فأكثر وصولًا إلى القيروان فطرابلس فمصر، ومن ثمَّ، يشكل تهديدًا جذريًا للخلافة العباسية نفسها. عقد الرشيد اجتماعًا طارئًا لبحث أمر دولة إدريس مع كبار رجال البلاط العباسي، وفي مقدمتهم الوزير يحيى البرمكي الداهية، والذي اقترح على الرشيد أن يرسل من يغتال إدريس، لأن إرسال جيش كبير يقطع كل تلك المسافة، ليس حلًا عمليًا.

أرسلَ الرشيد رجلًا يسمى سليمان الشمَّاخ، والذي نجح في اختراق الدولة الإدريسية الناشئة، إذ أظهر أنه منشق عن العباسيين، وكان خطيبًا مُفوَّهًا، ظلَّ لأشهر يدعو بدعوة الإمام إدريس، ويدافع عن آل البيت، ويتحدث عن مظالمهم، مما أكسبه ثقة إدريس، وارتفعت مكانته لديْه كثيرًا، حتى أصبح في أقرب الدوائر إليه. استغلَّ الشمَّاخ انشغال راشد في أحد الأيام، وأهدى للإمام إدريس عطرًا مسمومًا – وقيلَ سواك مسموم – فأصيب بما يشبه الغيبوبة، ثم تُوفيّ بعد يومٍ واحد، بينما فرَّ الشمَّاخ إلى سيده ببغداد لينال الجائزة.

عندما علم راشد بالخبر المفجع، وباختفاء الشمَّاخ، طارده مع بعض الفرسان، وكادوا يتقبَّضون عليه، لكنه فرَّ بأعجوبةٍ مُصابًا بيدٍ واحدة لقوة فرسه. عاد راشد إلى حاضرة الأدارسة وليلي، وأشرف على تكفين الإمام ودفنه، ثم جمع قادة البربر الموالين للدولة الإدريسية لبحث أمر الحكم بعد اغتيال الإمام، وكانت هذه الأحداث عام 177هـ.

أَيهَا الشَّيْخ الْمُبَارك، مَا لنا رَأْي إِلَّا مَا رَأَيْت فَإنَّك عندنَا عوضٌ من إِدْرِيس، تقوم بأمورنا كَمَا كَانَ إِدْرِيس يقوم بهَا، وَتصلي بِنَا، وتقضي بَيْننَا بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله ..
قادة البربر مخاطبين راشد بعد اغتيال الإمام إدريس

وافق زعماء البربر على اقتراح راشد بانتظار أن تضع جارية الإمام التي تسرَّى بها حملَها، فإن كان ولدًا، أصبح إمامًا بعد أبيه، وأن يرعاه راشد حتى يبلغ ويدير الأمور بنفسه، وكان لراشد احترامٌ واسعٌ لدى الجميع لمكانته العظيمة لدى الإمام المغدور.

جاءت الأقدار بالخبر السعيد بعد أسابيع، ووضعت الجارية البربرية كنزة مولودًا ذكرًا، اعتبره كلُّ من شاهده نسخةً من أبيه، فأسماه راشد إدريسَ على اسم أبيه. إلى جانب مهام راشد في إدارة الدولة الفتية وترسيخ دعائمها في مناطق سيطرتها، ركَّز راشد على أخطر المهام الموكلة إليه، وهي حماية وتنشئة الطفل إدريس ليستطيع أن ينهض بالمهمة الخطيرة التي يُؤهَّل لها في سنوات حياته اللاحقة.

لم يكد الطفل إدريس يُتم عامه الثامن، حتى كان راشد قد أتمَّ تحفيظه القرآن الكريم كاملًا، ثم شرع في تعليمه العلوم الشرعية، واللغة العربية وآدابها، والشعر العربي، وتواريخ الأمم والملوك المختلفة، إلى جانب تعليمه مبادئ الفنون القتالية والرماية، وأصبح عامًا بعد عام أقرب من اللحظة التي يستطيعُ فيها أن يتولَّى شؤون نفسه، وقيادة الدولة التي أسَّسَها أبوه.

اغتيال عباسي آخر

ألم ترنِ بالكيد أرديْتُ راشدًا ….. وَإِنِّي بِأُخْرَى لِابْنِ إِدْرِيسَ راصدُ
إبراهيم بن الأغلب، حاكم تونس تحت السيادة العباسية، في رسالته إلى هارون الرشيد يؤكد على ولائه وحسن خدمته للعباسيين

عام 188هـ، وبينما اقترب إدريس بن إدريس من إتمام عامه الحادي عشر، حدثت فاجعة كبرى كادت أن تزلزل الدولة الإدريسية، فقد تمكَّن والي تونس للعباسيين إبراهيم بن الأغلب من رشوة بعض البربر المحيطين براشد، فنجحوا في اغتياله على حين غرة، بعد أكثر من 15 عامًا من وصوله إلى المغرب لاجئًا، وقيامه بمهمة الوصاية على دولة الإمام إدريس لما يقارب عقدًا من الزمن.

التفَّ البربر وقادتهم من أصحاب الولاء للأدراسة حول الفتى إدريس بن إدريس، وبايعوه إمامًا في شهر ربيع الأول من عام 188هـ، بعد ما يقارب 20 يومًا من اغتيال مربيه راشد، وخطب إدريس الثاني يوم البيعة خطبةً عصماء رغم حداثة سنه، أكدت لجموع الحاضرين مدى ذكائه وتفرده، وكذلك روعة ما بذله راشد في تأديبه وتعليمه.

ويعتبر إدريس بن إدريس، هو المؤسس الثاني لدولة الأدارسة، فقد قويتْ الدولة في عهده كثيرًا، وانساب إليها الآلاف من المؤيدين من العرب والبربر، حتى ضاقت بهم العاصمة وليلي، فبنىَ عاصمةً جديدةً لدولته هي مدينة فاس التاريخية الشهيرة. وفي عام 202هـ، استضاف إدريس بن إدريس في فاس الآلاف من اللاجئين الأندلسيين من ثوار الرَّبَض الذين قمع حاكم الأندلس الحكم بن هشام الأموي ثورتهم، ودمرّ ربض قرطبة، ونفاهم منه. وشنَّ إدريس العديد من الحملات العسكرية القوية والتي ضمَّ خلالَها معظم أجزاء المغرب الأقصى إلى دولته، وأفسد محاولات الأغالبة ملوك تونس الموالين للعباسيين لاستهدافه ودولتِه، وتوفَّي عام 213هـ، ودولته تمتد من المحيط الأطلسي غربًا إلى الجزائر شرقًا.