محدش قالك إنك أنت فقير قوي؟ لأ ياريت حد يقولكم إن إحنا فقرا قوي.

بعد مرور أكثر من سنتين على هذه العبارة التي قالها الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي» في 2015، ظهرت مؤخرًا نتائج مسح الدخل والإنفاق، التي أعدها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، لتؤكد أن الوضع لم يزدد إلا سوءًا منذ ذلك الحين، وأن معدلات الفقر في مصر قد بلغت ثلث السكان في 2017/2018 بزيادة تناهز 5 ملايين مواطن مقارنة بـوقت الخطاب في 2015.

تتفاخر الحكومة المصرية بإنجازاتها ونجاحها في خلق نمو اقتصادي يفوق الـ 5% في 2018، مقابل 1.8% في 2011.

الاقتصاد المصري
 

لكنها لا تتحدث أبدًا عن مصادر هذا النمو وعدالة توزيع ثماره بين جميع فئات المجتمع، فبالمقارنة تمكنت حكومة مبارك من تحقيق معدلات نمو تفوق الـ 7%، إلا أن هذا لم يحل دون ارتفاع معدلات الفقر بشكل مستمر لتسجل 25.2% في 2011 مقابل 16.7% في 1999، أي أنه كان نموًا يزيد الأغنياء غنى في ذات الوقت الذي يزداد فيه الفقراء فقرًا، وهو نفس الحال في مصر الآن، إذ لم يحل ارتفاع معدل النمو دون ارتفاع معدل الفقر إلى 32.5% في 2017 مقابل 27.8% في 2015، أي أن 4.7 مليون مصري تقريبًا سقطوا تحت خط الفقر خلال عامين فقط.

الاقتصاد المصري فقر
 

الأرقام تكذب!

بداية، نود الإشارة إلى أن مسح الدخل والإنفاق يغطي الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2017 إلى أكتوبر/تشرين الأول 2018، أي أن البيانات تعكس أحوال الأسر المصرية قبل عام كامل من الآن. هذا العام شهد العديد من التغييرات الاقتصادية أهمها رفع أسعار الطاقة وارتفاع معدلات التضخم في وقت لم ترتفع فيه دخول المصريين بوتيرة مماثلة، وبناءً عليه فمن المتوقع أن تكون الأوضاع حاليًا أكثر سوءًا مما يعكسه البحث.

الأمر الآخر الذي نود الإشارة إليه، أن معدل الفقر الحقيقي يفوق كثيرًا معدل الفقر المعلن عنه من قبل الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، للسبب سالف الذكر، ولسبب آخر بالغ الأهمية.

ذلك أن إعلان الجهاز ارتفاع معدلات الدخول والاستهلاك يتضمن تضليلاً حسابيًا، فعلى الرغم من رفع خط الفقر من 428 جنيهًا في 2015 إلى 735 جنيهًا في 2018، إلا أنه إذا حسبنا خط الفقر مقومًا بالدولار، لنأخذ في الاعتبار أثر التضخم والقدرة الشرائية، سنجد أنه تراجع إلى 43 دولار في 2018 مقابل 56 دولار في 2015، وهو تلاعب محاسبي مفاده أمران:

  • أن الدولة تتعمد تخفيض قيمة خط الفقر لتقليل نسبة من يقعون تحته.
  • أن القوة الشرائية للفقراء تدهورت مع الوقت بسبب ارتفاع الأسعار، ومن ثم فإن فقراء 2018 أسوأ حالاً من فقراء 2015.

وبصورة مبسطة، فإن الجهاز المركزي يرى أن 24.5 جنيهًا في اليوم هو كل ما يحتاجه المواطن المصري لتغطية نفقاته الأساسية: من المأكل، والمشرب، والسكن، والملبس، والمواصلات، والتعليم، والصحة، كي لا يكون فقيرًا!

وفي ذات السياق، من المهم الإشارة إلى أن (خط الفقر المصري) الذي حدده الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يقع أقل بكثير من خط الفقر العالمي الذي حدده البنك الدولي بـ 3.2 دولار في اليوم (1650 جنيهًا في الشهر للفرد الواحد تقريبًا) بل وأقل حتى من خط (الفقر المدقع) العالمي المحدد بـ 1.9 دولار (ما يوازي 1000 جنيه للفرد الواحد شهريًا).

خرائط الفقر في مصر

شهدت المحافظات الحضرية، كالقاهرة والجيزة والإسكندرية، أعلى ارتفاع في معدل الفقر في مصر بين 2015 و2018، بنسبة زيادة قدرها 11.6%، على الناحية الأخرى انخفض معدل الفقر بنسبة 4.8% في ريف الوجه القبلي خلال نفس الفترة، ولم تقدم بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تفسيرًا لأسباب هذا الانخفاض.

الاقتصاد المصري فقر
 

أما بالنسبة لمعدلات الفقر على مستوى المحافظات، فلا يوفر الجهاز البيانات التفصيلية لعام 2015، لذلك سنضطر للمقارنة ببيانات عام 2012/2013 لبيان تطور معدل الفقر على صعيد كل محافظة على حدة، لنلاحظ ارتفاع معدلات الفقر بشكل ملحوظ في جميع محافظات الجمهورية فيما عدا الفيوم وقنا وبورسعيد.

كلما دققنا النظر أكثر كلما كان المشهد أكثر رعبًا، فمن بين أفقر ألف قرية على مستوى الجمهورية، تقع 236 قرية منهم في محافظة سوهاج بما يمثل 87% من قرى المحافظة، و207 قرية منهم تقع في أسيوط بما يمثل 88% من قرى المحافظة.

كما تصل معدلات الفقر إلى 80% أو أكثر في 46 قرية من هذه القرى، 25 قرية منهم في أسيوط، يزداد مستوى الرعب إذا عرفت أن مسح الدخل والإنفاق يعرف الدخل على أنه الدخل النقدي والعيني والتحويلات النقدية والعينية التي تحصل عليها الأسرة من أي مصدر من المصادر، بمعنى أن هناك قرى بأكملها لا يكفي دخلها النقدي إضافة إلى ما تحصل عليه من إعانات من الدولة ومساعدات خيرية لسد احتياجاتها اليومية الأساسية من طعام وشراب ومسكن وملبس.

ووفقًا لبيانات الحكومة ذاتها، فإن خط الفقر المدقع (خط الجوع) يعلو فوق رقاب 6.5% من السكان، أي أن هناك 6.5 مليون مواطن تقريبًا لا يجدون الغذاء الكافي، وهو رقم مفزع ولا شك، ويمثل تهديدًا لسلامة المجتمع وقيمه وأمنه الحالي والمستقبلي.

فيمَ ينفق المصريون أموالهم؟

تشير بيانات المسح إلى ارتفاع متوسط استهلاك الأسرة المصرية إلى 52.6 ألف جنيه سنويًا في 2017/2018 مقابل 36.7 ألف جنيه عام 2015، إلا أن هذه الأرقام مضللة كما أوضحنا أعلاه، ولذات الأسباب.

كوننا لا نعرف منها هل زادت كمية ما تستهلكه الأسرة المصرية بالفعل، أم أن هذه في قيمة الاستهلاك تعكس زيادة الأسعار لا زيادة الكميات المستهلكة؟

فبالنظر إلى الاستهلاك الحقيقي للأسرة المصرية، سنجد أن الـ 52.6 ألف جنيه المشار إليها أعلاه لها ذات القوة الشرائية لـ 33.1 ألف جنيه في 2015، أي أن الاستهلاك الفعلي للأسرة المصرية معبرًا عنه بالسلع والخدمات قد تراجع بنسبة 9.7%، وهي نتيجة طبيعية نظرًا لارتفاع الأسعار خلال الفترة الأخيرة وحاجة الأسر إلى تقليص استهلاكها وإعادة ضبط موازناتها للتكيف مع الظروف الجديدة.

تماشيًا مع الظروف، بدأ المصريون توفيق أوضاعهم مع ارتفاع أسعار الغذاء، فقاموا بتخفيض نسبة ما ينفقونه من دخلهم السنوي على الطعام والشراب خاصة في ريف الوجه القبلي صاحب أعلى معدلات للفقر في مصر. أيضًا، حيث انخفض نصيب الفرد من الإنفاق الحقيقي على الطعام والشراب والصحة والملبس والأثاث والتدخين، في المقابل ارتفع متوسط نصيب الفرد من الإنفاق على السكن ولوازمه بشكل واضح بين 2015 و2017/2018.

ماذا عن أفقر 20% من المصريين؟

كلما انخفض مستوى الدخل احتل الإنفاق على السلع الأساسية كالطعام والشراب نسبة أكبر من إجمالي إنفاق الأسرة والعكس صحيح، أي كلما ارتفع مستوى الدخل تتضاءل نسبة ما تنفقه الأسرة على هذه الأساسيات من دخلها الكلي في مقابل ازدياد نسبة إنفاقها على الكماليات مثل الإسكان الفاخر والسيارة والتسلية والترفيه.

هذا بالضبط ما تعكسه بيانات مسح الدخل والإنفاق، حيث يحتل الإنفاق على الطعام والشراب 50% من إجمالي إنفاق الفرد في الشريحة الأقل دخلاً في المجتمع، في المقابل يمثل الإنفاق على الطعام والشراب 25% فقط من إجمالي إنفاق الفرد في الشريحة الأعلى دخلاً؛ أما أغنى 10% من المجتمع فيوجهون نسبة أكبر من إنفاقهم إلى الصحة والتعليم والنقل والمواصلات والترفيه والثقافة.

هذه النتائج الفجة هي محصلة السياسة الحكومية الاقتصادية على مدار عامين، بما في ذلك الإجراءات التخفيفية التي اتبعتها كرفع مخصصات التموين للفرد الواحد من 21 جنيهًا إلى 50 جنيهًا، والتوسع في تطبيق برنامج تكافل وكرامة لدعم الأسر الأكثر فقرًا.

إلا أن هذه الإجراءات لم تكن كافية كما يدور حولها العديد من علامات الاستفهام، فمن ناحية تبلغ قيمة المعاش 400 جنيه شهريًا للأسرة كاملة، في حين يبلغ خط الفقر في مصر 735 جنيهًا شهريًا للفرد الواحد، ولما كان متوسط عدد أفراد الأسرة في مصر 4.2 فرد، فإن ذلك يعني أن معاش تكافل وكرامة لا يمثل سوى 13% من الحد الأدنى للدخل اللازم لوضع الأسرة المصرية على خط الفقر بالضبط.

من ناحية أخرى، يبدو أن الدولة لا تستوعب معنى الضمان الاجتماعي بشكل جيد، فالأساس هو خلق نمو احتوائي شامل تعود ثماره على الجميع، من خلال تأمين احتياجات المواطنين الأساسية من تعليم وصحة وخلق لفرص عمل منتجة للمواطنين في جميع القطاعات، بما يوفر لهم حياة كريمة تعفهم وتغنيهم عن السؤال، ثم تأتي برامج الضمان الاجتماعي في مرحلة لاحقة لتنقذ هؤلاء ممن عجزوا تمامًا عن العمل لأي سبب من الأسباب.