إذا كانت العلوم الطبيعية قد انتقلت مع فرانسيس بيكون من المنطق الاستنتاجي الأرسطي إلى المنطق الاستنباطي الاستقرائي، فإن العلوم الإنسانية قد انتقلت مع ماركس من التفسير المثالي الهيغلي إلى (العلمي) المادي.. فلم؟ وما معنى وصف الأخير بـ “العلمي”؟

نعني بالتفسير العلمي (الحقيقي)، التفسير الذي يشير إلى السبب “الحقيقي” الكامن خلف الظاهرة القائمة، والمؤدي لها، لا إلى سبب آخر “وهمي” لا تكون علاقته بالظاهرة علاقة المسبِب بالمسبَب، وإنما تكون علاقة تزامن ومصاحبة.

فعندما نصادف “مشكلة اجتماعية” ما (ولنقل: السرقة مثلاً)، يسارع أصحاب المنطق المثالي (الغيبي) إلى تفسيرها بالأفكار، بالقول بوجود خلل فكري (قلة التربية مثلاً) خلفها. و هذا هو ما ينطبق عليه الوصف “فسر الماء بعد الجهد بالماء”؛ ذاك أن علاقة السبب، الذي تمت الإحالة إليه كمفسر للظاهرة، بها، ليست علاقة تسلسلية يكون فيها هو السبب وتكون الظاهرة هي النتيجة، وإنما هي علاقة تزامنية.. وسنبقى ندور في حلقة مفرغة، ولن نخرج منها إلا بالإشارة إلى السبب والمشكلة “الحقيقية” التي كان الاثنين نتيجة لها، وهي: (الخلل والتردي في الواقع المادي)، حيث نكون قد ارتقينا إلى: “المنطق المادي”.

ولذا نقول: إن المشكلة التي تمت الإحالة إليها كمسبب للظاهرة المراد تفسيرها (قلة التربية، في المثال السابق) هي مشكلة “مزيفة”، وأما (الخلل في الواقع المادي) فهو “المشكلة الحقيقة”.. و نريد بـ “المشكلة الحقيقية”، المشكلة النهائية القائمة بذاتها التي لا تحيل إلى مشكلة أخرى “حقيقية” خلفها، تكون هي السبب في وجودها. أما في حال وجود هذه المشكلة الأخرى، فتكون هذه الأخرى هي “الحقيقية”، وتكون الأولى هي إحدى مفرزاتها ونتائجها وأعراضها.

لذا، فإن المنطق المثالي بإحالته إلى مشاكل مزيفة يعجز عن التفسير ويلقينا في سلسلة من الحلقات المفرغة. مع هذا المنطق: الفكر العربي متخلف لأنه –مثلاً– ينظر إلى التاريخ نظرة “لاتاريخية”، وهو ينظر إلى التاريخ هذه النظرة “اللاتاريخية” لأنه فكر متخلف! وهكذا: الشيء هو الشيء، لأنه الشيء نفسه؛ أي: العقل العربي متخلف لأنه العقل العربي المتخلف. أما مع “المادي” فإن المشكلة هي في عدم تطبيق سياسات التكافل الإجتماعي، وانعدام العدالة في توزيع الثروة، وتركيزها في يد قلة، تكون مكتفية، قادرة على التفرغ، وبالتالي “التثقف”.. في خصخصة التعليم، و عدم إتاحته لجميع الطبقات.. في انحسار الاستثمار والإنفاق على القطاعات البحثية، إلخ.

وهكذا، يصبح العلم، من خلال المنطق المثالي، تكهنات غيبية لا شأن لها بالواقع المادي. حيث يُنظر إلى الأمور بعين التجريد، فيستحيل الواقع حشداً رتيباً من الظواهر المبعثرة، أو سلسلة من الأحداث العشوائية، التي لا يربط بينها سوى التعاقب الزمني. خلافاً للمنهج “العلمي” الذي ينظر إلى الأشياء والمعاني في ترابطها بعضها ببعض، وما يقوم بينها من علاقة متبادلة، وتأثير كل منها في الآخر، وما ينتج عن ذلك من تغيير.

واليوم، يتجلى المنطق العلمي المادي في العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تجاوزت الاستقطاب الثنائي بين الثقافة والمادة، وخرجت بتوليفات تدمج العوامل الثقافية والمادية على نحو مركب. أما الإجابات والحلول المزيفة: فلا تزال في عهدة من يقدم الحل “الفلسفي” أو “الديني” المعتمد لمبدأ التفسير المثالي، خلافاً للعلوم السياسية والاقتصادية، التي تشير إلى السبب الحقيقي الكامن وراء الظاهرة المراد تفسيرها.

وللتمثيل على ذلك من واقعنا الراهن: لنأخذ مثلاً الحالة العدمية، الآخذة بالسريان عند الكثر، وخاصة عند الإناث.. حيث سيبدو السبب مع صاحب التفسير المثالي –مثلاً– هو في عدم الوصول الى إجابة على سؤال الشر! حيث يبدأ المتفلسفة بمحاولة تقديم الأجوبة “المزيفة” على هذا السؤال. أما مع المنهج العلمي فإن الإشارة تكون إلى السبب “الحقيقي”، والذي هو إما متعلق بـ “المجال السياسي”، متمثلاً بموضوعة القهر والسلطة وعدم الإحساس بالمشاركة الفاعلة في المجتمع، أو بالمجال الاقتصادي، متمثلاً بموضوعة الحاجة وعدم الاكتفاء، أو بالمجال الإجتماعي –خاصة في حالة الإناث– والمتمثل هنا في وضعية القهر والتبعية الاجتماعية.

وليس مقصودنا وما يهمنا هنا هو التفسير الصحيح لذاته فقط، بل ما يعنينا هو ما يترتب عليه ويتولد عنه من عمل وتطبيق.. حيث أن كشف المنهج العلمي عن بُنية النُظم والتشكيلات الإجتماعية والاقتصادية السائدة ومواضع الخلل فيها، وكشفه عن القوانين الموضوعية لعملية إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية، وقوانين تطور التاريخ البشري ودور الفرد والمجموع فيه، ينتهي إلى تقديمه الحلول والبرامج الأكثر ملموسية وتفصيلية والأكثر تعييناً وقرباً من ميدان التطبيق العملي.

خلافاً لما نرى اليوم في زمن سيادة مفاهيم الليبرالية المخدرة، حيث يتم الترويج لوهم الحل الثقافي، والمتمثل في القول بأن “الفكر” هو العامل المحرك للتاريخ والمغيّر للمجتمعات؛ بإصلاحه و”تجديده” تكون “النهضة”، وبجموده يكون “التخلف”. وهو ما ينتهي –على المستوى النخبوي– في مشاريع “التجديد الديني” و “إعادة تقويم التراث” وإصلاحه، أو –على المستوى المجتمعي– في مبادرات “المنظمات غير الحكومية”، و التي تقدم مبادرات تعليم الرقص في الأحياء الفقيرة، وتلوين الجدران والأدراج هناك، على أنه الحل المنقذ، باعتبار ان مشكلة الأفراد هناك تكمن –مثلاً– في أنهم “بدهم ألوان”!

خلاصة القول: مع المنطق العلمي نكشف عن موضع الخلل، و بالتالي تكون الإجابة عن “سؤال العمل”.


اقرأ المزيد:

جدل السلطة أو القواعد.. الكتلة الإسلامية في الضفة نموذجا

أفول السلطة في العصر الحديث