في أول أبريل/نيسان الماضي، صرَّح «نجيب ساويرس»، رجل الأعمال المصري الشهير، بأن الطلب على العقارات في مصر يصل إلى عشرة أضعاف العرض.

يبدو هذا التصريح غريبًا للوهلة الأولى، ففي الوقت الذي يتوقع فيه أغلب الخبراء العقاريين أزمة عقارية في ظل الركود الحالي للقطاع مع نهاية الربع الأخير لـ 2018، يحاول ساويرس دخول القطاع المأزوم، بل يعطي السوق مؤشرات إيجابية عنه.

لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف يرى ساويرس عكس ما يراه معظم الخبراء في القطاع العقاري، الذين يتوقعون فقاعة سعرية كبيرة في المستقبل، بل يُجزم كثيرون أن السوق العقاري في أزمة ما قبل الفقاعة حاليًا، بدليل تراجع حركة البيع في السوق وخوف المُطورين العقاريين من هذا التراجع.

إن استبعاد ساويرس حدوث أزمة في القطاع العقاري ونقص المعروض يبدو غريبًا بشدة، لأن سوق العقارات في مصر نما بشكل مطرد منذ 2013 حتى الآن؛ خاصةً مع توسع الدولة والشركات العاملة مع المؤسسة العسكرية في هذا القطاع، وهو التوسع الذي بلغ أوجه في أكبر مشروع من حيث حجم التمويل، وهو العاصمة الإدارية الجديدة؛ حيث إنه من المستهدف أن يصل حجم الاستثمارات في تلك العاصمة الجديدة إلى ما يعادل 45 مليار دولار، وهو ما يُعادل أكثر من 15% من الناتج المحلي الحالي في مصر.

وفي نفس الوقت تزايدت التكهنات في أوساط الخبراء االاقتصاديين، وحتى المطورين العقاريين، حول إمكانية انفجار فقاعة في السوق العقاري المصري خاصة بعد الزيادات السعرية الكبيرة في أسعار العقارات، التي قاربت معدلات التضخم التي حدثت بعد قرار تحرير سعر الصرف في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، حيث وصلت إلى ما يقارب 32%.

تُعزِّز تلك المخاوف احتمالية انفجار الفقاعة نفسها، فحين يتحدث الفاعلون في السوق العقاري أو السوق بشكل عام عن وجود فقاعة سعرية قائمة أو فقاعة عقارية في المستقبل، فهذا يؤدي على المدى الطويل لإحجام المضاربين عن الشراء والاتجاه للبيع أكثر، وهذا السلوك الجمعي المجنون قد يؤدي أحيانًا لأزمة كبيرة في القطاع العقاري، فالعامل النفسي جزء مهم لحدوث أي فقاعة، وكما كان هذا العامل مؤثرًا في الأزمة العقارية الكبرى في 2008، فإنه يمكن أن يؤثر بالطبع في الأزمة المرتقبة للسوق العقاري المصري.

إذن، هل مصر مقبلة على أزمة عقارية، بالتحديد فقاعة عقارية أم لا؟ وهل هناك ما يدعو للقلق حول استثمارات المصريين، تحديدًا الطبقة الوسطي العليا التي تستثمر بكثافة في سوق العقارات بغرض إعادة بيع الوحدات مرة أخرى؟

للإجابة علي السؤال الأساسي علينا أولًا أن نعرف ما تعنيه الفقاعة العقارية؟ ومن ثَم ننظر للظرف الاقتصادي الحالي في مصر ومدى قابلية سوق العقارات نفسه للتعرض لأزمة؟ وفي النهاية، سوف نحاول أن نجيب على التساؤل حول كيف يمكن أن تحدث الأزمة.


ماذا تعني الفقاعة العقارية؟

لكي نفهم ماذا نعني بالفقاعة العقارية علينا الرجوع للعام 2004. في هذا العام، كان السوق العقاري الأمريكي يشهد طفرة كبيرة، لم يعد الناس يتذكرون متي كانت آخر مرة تنخفض فيها أسعار العقارات. كان المطورون العقاريون الكبار يقترضون من البنوك ليبنوا منازل للمواطنين الأمريكيين. أصبح تملُّك منزل جزءًا من الحلم الأمريكي.

كان كل شيء مستقرًّا، لكن في نفس العام كتب الاقتصادي الأمريكي الحائز على نوبل «روبرت شيلر» بالاشتراك مع زميلته «كارل كيس»ورقة بحثية مطوّلة بعنوان «هل هناك فقاعة في السوق الأمريكي؟». لم يكن مفهوم الفقاعة السعرية منتشرًا في ذلك الوقت، وكان كثير من الاقتصاديين والسواد الأعظم من الوكالات الائتمانية الكبرى يصنِّفون الاستثمار في القطاع العقاري استثمارًا آمنًا.

وفقًا لشيلر وكيس، فإن الفقاعة غالبًا ما تُعبِّر عن ارتفاع للطلب على العقار يرفع بدوره السعر، ونتيجة لتأخر قوى العرض في الاستجابة لهذا الطلب بسبب بطء عملية بناء وبيع المنازل، تبدأ الأسعار تزداد. وتُوحي تلك الزيادة السعرية لكثير من المستثمرين بمزيد من الرفع للأسعار، ومن ثَم يبدأ الجميع بناء وبيع العقارات.

على الجانب الآخر، يشعر المستثمرون بأن العقار هو مستقبل آمن لمدخراتهم، ومن ثَم يشتري هؤلاء كثيرًا منها بغرض المضاربة وإعادة البيع لاحقًا؛ وهو ما يحصل في الحالة المصرية بشكل كلي منذ فترة، فهناك ما يقرب من 14 مليون وحدة سكنية مغلقة في السوق المصري، في الوقت الذي يستمر فيه المطورون في بناء وحدات جديدة.

تستمر الزيادة السعرية في التغذية الذاتية لنفسها، وهو ما يدفع الفقاعة السعرية للتضخم، حتى تصبح الأسعار في النهاية في مستويات تفوق القدرة الشرائية لمعظم السكان. وهو ما يحصل أيضًا اليوم في الحالة المصرية، حيث إن هناك كثيرًا من العرض وقليلًا من الطلب بسبب ارتفاع الأسعار.

يتجه معظم المطورين العقاريين لبناء العقارات الفخمة التي تناسب طموحات الطبقة الوسطى العليا في الادخار في أصل ثابت مثل العقار. هنا يتوقف العقار عن دوره الأساسي، أن يكون «مسكنًا»، ويتحول إلى مخزن للقيمة، أي يصبح الجميع مقتنعًا بأن أفضل مخزن لقيمة المال هو العقار؛ فالعقارات أسعارها تزيد سنويًّا على الأقل بمعدلات أكبر من معدلات الفائدة البنكية، حتى على الرغم من الارتفاع الشديد لأسعار الفائدة بعد التعويم لما يقارب 16-20%. وحتى إن لم تكن الأرقام صحيحة، أي كانت معدلات الفائدة البنكية أكبر من الزيادة في سعر عقارات معينة، فيكفي أن يقتنع الجميع بذلك ليُقبلوا على شراء المزيد من الوحدات وتخزينها لإعادة بيعها مرة أخرى.

تُحدد عدة عوامل أخرى الطلب المتزايد علي العقارات في مصر، منها العوامل الثقافية، فتقليد مطالبة الزوج بشقة مستقلة للزواج، خاصة في المدن، تشكِّل دافعًا للطلب. لكن في الغالب، يلجأ هؤلاء للسوق غير الرسمية التي تقوم عليها شركات عقارات صغيرة جدًّا أو أشخاص، وتعتمد على تقسيم أراضٍ – في الأغلب زراعية – وبنائها وعرض الوحدات فيها للبيع. يظهر هذا النمط بشكل أكبر في الجيزة وأحيائها السكنية التي استوعبت كامل الهجرة الريفية تقريبًا فيما تلا السبعينيات.

بحسب ديفيد سيمز، صاحب أشهر الأعمال في رصد التغيرات العمرانية في القاهرة، فإن هذا السوق غير الرسمي استوعب ما يقرب من 79% من الزيادة السكانية في مصر في الفترة بين 1996–2006؛ بينما لم تستوعب المدن الجديدة الرسمية إلا ما يقرب من 15%.

إذن هناك سوق غير رسمي كبير في مصر لا نعرف حجم التضخم في أسعار العقارات فيه على وجه الدقة. أيضًا، لا يقدم لنا المطورون العقاريون في السوق الرسمي سواء في القطاع العام أو الخاص أي أرقام واضحة عن التضخم في أسعار العقارات. كل ما نملكه هو تقديرات، وهو ما يصعِّب مهمة التنبؤ.

بذكر التقديرات، قدَّرت شركة JLL، أحد أكبر شركات العقارات العالمية، الزيادة في أسعار العقارات في السوق المصري في 2016 بـ 30%، وفي 2017 بـ 25%، وفي عام 2018 قدَّر مؤشر عقار ماب الزيادات بـ 16%، وهو ما يرجِّح أن الأسعار في القادم سوف تتجه للانخفاض أو على الأقل لن تكون الزيادات كما كانت بعد التعويم. أيضًا، يرجِّح هذا حدوث أزمة قادمة في اللحظة التي تتوقف فيها الأسعار عن الزيادة، وهو ما يفسر لجوء كثير من المطورين العقاريين لتسهيلات أكبر في الأقساط والفوائد مع تراجع المبيعات في السوق بسبب ارتفاع الأسعار.


الدولة كمسرع للأزمة

يساعد ضخ الدولة لاستثمارات عامة كبيرة في قطاعات البنية التحتية علي نمو القطاع العقاري. في المجمل، ينمو قطاع العقارات بمعدل يساوي أو يزيد عن ضعف النمو الحقيقي في مصر. فمنذ 2013، نما قطاع التشييد والبناء بمعدل أكبر من 7%، في حين لم يتخطَّ معدل النمو الاقتصادي متوسط 3-4%. في العام الماضي علي سبيل المثال، كان معدل نمو قطاع التشييد والبناء 10%، وقطاع الأنشطة العقارية الذي يضم الملكية العقارية وخدمات الأعمال كان ينمو بمعدلات مقبولة تتراوح بين 3-5% في السنوات من 2013 وحتى الآن.

ساعد هذا النمو المطرد للقطاعين، التشييد والبناء وقطاع الأنشطة العقارية، على زيادة الوزن النسبي للقطاعين من الناتج المحلي الإجمالي. ففي العام السابق فقط، أصبح الوزن النسبي للقطاعين معًا حوالي 16% من الناتج المحلي، وهو ما جعل كثيرًا من المطورين العقاريين والخبراء في القطاع يعتقدون أنه أصبح قاطرة النمو، وهو تصور صحيح بالفعل، فمعدلات النمو العالية التي يحققها القطاعان تؤدي بالتبعية لنمو الناتج المحلي.

لكن تلك الأرقام تخفي كثيرًا من الأمور؛ فبينما تستمر الأزمة الاقتصادية في مصر، يستفيد القطاع العقاري من التسهيلات التي تقدمها الدولة ومن الاستثمارات التي تضخها في قطاع العقارات والبناء والتشييد، خاصة المشاريع الكبرى للمدن الجديدة على رأسها العاصمة الإدراية الجديدة. تساعد تلك الاستثمارات التي تضخها الدولة على تعزيز موقع القطاع العقاري وزيادة نسبته في الناتج المحلي الإجمالي ومساهمته في النمو الاقتصادي. ففي السنة السابقة فقط كان معدل نمو قطاع البناء والتشييد حوالي 10% بحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن البنك المركزي، بينما لم يتعدَّ معدل النمو 5.2%.

وإذا قررنا أن نضم قطاع التشييد والبناء لقطاع الأنشطة العقارية، يصبح إجمالي القطاعين 16.4% كوزن نسبي من الناتج المحلي، أي أن قطاع العقارات في مصر يعادل تقريبًا الوزن النسبي للقطاع الصناعي في مصر بأكمله. يعبر هذا الاختلال في الأوازن النسبية للقطاعات الكبرى في الاقتصاد عن لب الأزمة الهيكلية للاقتصاد المصري، وهي التي تتجلى في زيادة حجم الأنشطة الخدمية عن حجم الأنشطة الإنتاجية، وبالتالي انعكاس هذا الاختلال على معدلات البطالة والفقر وغيرها من المؤشرات الرئيسة للاقتصاد.

يعبر النمو الأخير في الناتج المحلي بعد إجراءات الإصلاح الاقتصادي عن نمو هش مدفوعًا بقطاعات هشة، كالقطاع العقاري، يمكن أن يُحدث لها أزمة في أي وقت، وهو ما سوف يجعل تأثير الفقاعة العقارية مدمرًا للاقتصاد المصري فور حدوثها، بسبب الوزن النسبي الكبير لهذا القطاع في الاقتصاد.


كيف يمكن أن تحدث الأزمة؟

ثمة بوادر كثيرة عن اقتراب حدوث فقاعة عقارية في السوق المصري، لعل أهمها تراجع الطلب على العقارات في النصف الثاني من 2018 بمقدار 25%، وتراجع وتيرة الزيادة في الأسعار إلى أقل من نصف ما كانت عليه في 2016، وهذا بحسب مؤشر عقار ماب . هذا التراجع قد يؤدي -إذا استمر على المدى المتوسط أي خلال عامين أو ثلاثة- إلى زيادة المعروض واتجاة المالكين في «سوق إعادة البيع» (second sale market) إلى طرح ما يمتلكونه من عقارات للبيع، مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار بطريقة مفاجئة، وبالتالي تحدث أزمة في القطاع العقاري.

ربما يجادل بعض المحللين بأن السوق العقاري المصري قوي لأن معظم التمويل الذي يستخدمه ليس مربوطًا بشكل مباشر بالقطاع البنكي، بالتالي لا وجود للرهون العقارية وغيرها من المشتقات المالية، ولا وجود للإقراض المفرط في القطاع كما كان الحال في 2008 في أمريكا. لكن هذا لا يمنع أن تحدث الأزمة وتؤثر حتى على القطاع البنكي، فكثير من المطورين العقاريين يعتمدون على الاقتراض من البنوك، كما أن انفجار الفقاعة السعرية للعقارات سوف يؤدي إلى فقدان في قيمة مدخرات القطاع العائلي الثابتة والمستثمرة في العقارات، مما قد يؤثر على مدخراتهم السائلة الأخرى ويدفعهم إلى عمليات سحب كبيرة من القطاع البنكي، وهو ما سوف يؤثر بالتأكيد على السيولة المتوفرة في القطاع البنكي نفسه.

أيضًا، أحد المؤشرات المهمة على الشعور بالأزمة في القطاع العقاري هو الحديث المتكرر حول أن هناك طلبًا متزايدًا؛ لكن هناك أزمة في التمويل بسبب عدم شيوع نظام القروض العقارية، وهو ما دفع مجموعة طلعت مصطفى للإعلان عن إنشاء شركة للتمويل العقاري بالتعاون مع مجموعة هيرميس القابضة. يمكن أن يكون التمويل العقاري بالفعل هو حل للأزمة الحالية؛ لكنه في نفس الوقت يعظِّم إمكانات حدوث فقاعة في المستقبل إذا لم يستطع كثير من المقترضين سداد قروض التمويل العقاري؛ أي فقاعة على النمط الأمريكي.

قد يتأخر حدوث الفقاعة، وقد لا تحدث، وبالتالي قد تستمر الأسعار في الارتفاع بعد الانخفاضات الطفيفة السابقة، خاصة أن معدلات التضخم في مصر ما زالت مرتفعة، وهو ما يدفع كثيرين إلى محاولة التأقلم مع هذا الظرف الاقتصادي بالاستثمار في العقارات. كل هذا يعتمد بالأساس على توقعات الفاعلين في السوق عن مستقبل القطاع. وبالتالي، تكتسب تصريحات المطورين العقاريين الكبار مثل طلعت مصطفي ونجيب ساويرس أهمية كبرى، حيث إنها تسعى إلى طمأنة الجميع بأن الخلل الموجود غير موجود، وأنه إذا استمر الجميع في الشراء أكثر مما يفكرون في البيع فإن الأمور سوف تصبح أفضل.

يمكن أيضًا ألا تحدث الفقاعة، ولا يبيع الناس ما يمتلكونه من عقارات بغرض المضاربة؛ هذا سيؤدي لعدم انخفاض الأسعار، ولكن إلى ركود كامل في السوق، وبالتالي سوف يتأثر قطاع التشييد والبناء الذي يُشغِّل ما يقرب من 3.4 مليون مصري بحسب أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وولَّد في 2017 فقط حوالي 52% من فرص العمل الجديدة. هذا بالطبع سوف يُضخِّم أزمة البطالة الموجودة حاليًا.

وسواء كانت الأزمة العقارية القادمة عبارة عن فقاعة عقارية تشل حركة البيع والشراء، أو أنها لن تنفجر ويتعرض القطاع للركود التدريجي، فإن المؤكد أننا في الحالتين سنصبح أمام أزمة اقتصادية عميقة؛ لأن القطاع العقاري أصبح مع الوقت المشغِّل الأكبر للعمالة، خاصة الموسمية منها، في مصر، ومع عدم قدرة القطاعات الأخرى الكبرى (الصناعة والزراعة) على توليد الوظائف، فإن هذا يُنذر بأزمة بطالة سوف تضرب الاقتصاد المصري.