واكوااك أعباد الله… واكوااك أعباد الله…

صرخة مُدوية لعجوز في السبعينات من عمرها، تحكي حقيقة المأساة التي عايشها المغرب ولا تزال على مدى سنوات عديدة. حُرمت من بيتها وكافة ممتلكاتها حتى باتت بلا مأوى. افترشت الأرض أمام المحكمة الابتدائية تبكي ضياع حقها، كآلاف غيرها من الضحايا الذين اعتصرت قلوبهم ألمًا لسرقة منازلهم التي لا يمتلكون سواها على يد مافيا العقار في المغرب.

أن تعيش في بيت هو لك، ورثته عن أجدادك بموجب الشرع والقانون أو اشتريته من مالك الخاص، ثم بين عشية وضحاها يظهر لك من يشكك في ملكيتك له. ويثبت بالأوراق والأدلة الدامغة أن البيت قد بيع له منذ سنوات. تتخبط بين أروقة المحاكم طالبًا دفع الظلم عنك. لكنك تظل سنوات تلهس في انتظار حكم مُنصف يعيد لك حقك، بينما يتفنن السارق في التحايل على القانون – المليء بالثغرات- بإحضاره لشهور زور وأوراقًا مزورة تدعم حُجته أمام القانون. فيصبح هو الطرف الأقوى، بينما على الجانب الآخر يضيع حقك.

هي مأساة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وظاهرة استمرت لعقود من الزمان بلا حل جذري، وملف حساس خشي الكثيرون التحدث فيه سنوات طويلة، لصلته الوثيقة بقضية فساد بعض القضاه المغاربة، ومسألة عجز القانون المغربي عن حماية حقوق المواطنين.


كيف بدأ نشاط المافيا؟

كان عام 1990 هو البداية الحقيقة لنشاط مافيا العقار المغربية، حيث أرست دعائم خطتها لتكوين شبكة متشعبة للسطو على الأملاك العقارية للمواطنين. بدأت القصة عندما قام زعيم المافيا المدعو «بوتزكيت» في ذلك العام باستصدار أوراق مزورة تفيد ملكيته لبعض العقارات. وما إن اكتشف أصحاب الأملاك عمليات البيع الوهمية رفعوا شكوتهم ضده وضد شريكه بتهمة التزوير والتدليس. وعلى إثر تلك الشكوى، تم استدعاء بوتزكيت من جانب قاضي التحقيق بتهمة التزوير في وثيقة رسمية، والذي بدروه استعان بـ12 شاهدًا للإدلاء بشهادتهم في رسم الملكية المُنجز من طرفه. أكد أولئك الشهود في المحاضر الرسمية أن بوتزكيت يتصرف في تلك الأملاك منذ 30 عامًا مضت وأنها ملك خالص له.

كانت تلك الحادثة الأولى من نوعها ولم تكن بكل أسف الأخيرة. فمنذ ذلك الحين، تشعب عمل بوتزكيت،وانتشرت العصابة في كافة ربوع المغرب بشكل منظم وممنهج وبشبه اتفاق على الأساليب والتوقيت. حتى تمكّنت من الاستيلاء على أراضي الكثير من المغاربة وتسجيلها في المحافظة العقارية في سرية تامة. فلم يكتشف المواطنون سرقة أملاكهم إلا بعد أن أمضت مافيا العقار قدمًا نحو استغلالها.

فأصبحت مكاتب المحامين المغاربة تعج بعشرات القضايا وملفات الدعاوى القضائية المرفوعة ضد بوتزكيت، وضد زعماء مافيا آخرين بجنوب المغرب. وباتت المنطقة الجنوبية في المغرب مقسمة إلى ثلاث مناطق يبسط ثلاثة من زعماء مافيا العقار سيطرتهم عليها؛ يسيطر الأول على منطقة كلميم، والثاني على سيدي إفني، والثالث يسيطر على اشتوكة أيت باها. ويمتلكون فيما بينهم شبكة مشتركة من شهود الزور، الذين من خلالهم يسيطرون على أراضي الغير بالباطل.

وقد نجحت تلك العصابة في بسط سيطرتها على أملاك قرى بأكملها على نحو واسع، كقرية إفرض، التابعة لإقليم «سيدي إفني»،التي أصدرت محكمة استئناف أكادير حكمًا بتجريد كافة سكانها، البالغ عددهم نحو 200 أسرة، من ممتلكاتهم العقارية التي ورثوها عن أجدادهم لصالح زعيم المافيا دون أدنى وجه حق.


سلاح المافيا للسيطرة على الأراضي

وفق الأعراف الراسخة في المغرب، فإن الناس دأبوا على توارث الأملاك العقارية عن أجدادهم، دون الحاجة إلى توثيق أحقيتهم فيها في صورة عقود إدارية. الأمر الذي يسّر على مافيا العقار مهمتهم، التي من أجل تنفيذها اعتمدوا على أداتين رئيسيتين:

1. شهود الزور

شاهد زور يُدعى (م. م)،في محضر استنطاق لدى المحكمة الابتدائية بـ«تيزنيت».

مثّلت مدينة تيزنيت نقطة الارتكاز التي فيها يجتمع شهود الزور بالقرب من المحكمة الابتدائية هناك. ومن ثَمَّ، فإن مافيا العقار تعمد لاستغلال أولئك الشهود وإقناعهم بالإدلاء بشهادات الزور كوسيلة للسيطرة على أراضي المواطنين. وذلك في مقابل تقديم العمولات لهم في صورة أموال أو زجاجات خمر، أو إجبارهم على الإدلاء بها تحت التهديد بالسجن أو توريطهم في جرائم.

وقد استغل زعماء المافيا الفراغ القانوني الموجود في القانون المغربي، والذي يكون فيه عقوبة شاهد الزور أكبر من المستفيد من تلك الشهادة، ففي حين لا يحصل شاهد الزور سوى على مبلغ بسيط لا يتعدى 100 درهم، فإن المستفيد منها قد تبلغ استفادته ملايين الدراهم. الأمر الذي جعل من الاستعانة بشهود الزور حلاً آمنًا وطريقة غير مكلفة لإثبات أحقيتهم في عقارات الغير بالباطل.

2. التزوير

تعمد مافيا العقار إلى تزوير عقود ملكية العقارات التي تريد السيطرة عليها سواءً كانت شقة أو منزلًا أو أرضًا، ومن ثَمَّ بيعها لشخص آخر دون إعلامه بأن العقار ملك لأحد. ونظرًا للثغرات الموجودة في القانون المغربي، فإن الأمور تتم على نحو قانوني ظاهريًا، إلى جانب مساعدة بعض المرتشين من داخل الإدارات الحكومية الذين من خلالهم يتم تزوير الوثائق وحفظها كما لو كانت سليمة.

ويصبح في تلك الحالة الضحية الحقيقية هو مالك العقار الأصلي لا المشتري، إذ يُرجِّح القانون المغربي كفة من اشترى العقار بالعقد المزور على اعتبار حسن نيته، في حين يُطرد صاحب العقار الأصلي بأمر قضائي من بيته أو أرضه رغم توافر كل الوثائق الأصلية التي تثبت كونه المالك الأصلي للعقار.


كيف سهّل القانون المغربي عمل المافيا؟

لم تكن مافيا العقار لتنجح في الاستيلاء على أملاك المواطنين لولا وجود ثغرات في النصوص القانونية المتعلقة بالعقار، والتي جعلت من تنفيذ خطط المافيا أمرًا هينًا. فقد شكّلت تلك الثغرات أحد أهم العوامل التي أسهمت في انتشار تلك الظاهرة، كما تسببت في طول مدة التقاضي في الدعاوى المتعلقة بها، والتي قد تصل إلى 30 أو 40 عامًا.

فقد نصت المادة الثانية من القانون رقم 39.08 في مدونة الحقوق العينية، على سقوط حق التقاضي بالنسبة للمتضرر «صاحب العقار الأصلي» بعد انصرام أجل أربعة أعوام من تاريخ التقييد. الأمر الذي بمقتضاه يتم التضحية بحق المتضرر الذي هو أحقّ بالحماية لأنه المالك الأصلي، بينما يمكن للمشتري الذي وقع ضحية التزورير أن يلجأ للقضاء بعد مرور الأجل، أي بعد أربعة أعوام. تلك الثغرة هددت على نحو أكبر المهاجريين أو الساكنين خارج المغرب أو السكان ممن يتهاونون في مراقبة رسمهم العقاري لمدة أربعة أعوام.

وفي الفصل رقم 62 من قانون التحفيظ العقاري، فـ«إن الرسم العقاري نهائي ولا يقبل الطعن، ويعتبر نقطة الانطلاق الوحيدة للحقوق العينية والتحملات العقارية المترتبة على العقار وقت تحفيظه دون ما عداها من الحقوق غير المقيدة». ذلك النص يمنح قرار التحفيظ العقاري حصانة مطلقة ضد أي طعن، الأمر الذي تسبّب في ضياع الكثير من الحقوق لصالح مافيا العقار.

وذلك بالرغم من وجود شبه إجماع من قبل القضاه على اعتبار قرار التحفيظ قرارًا إداريًا صادرًا عن جهة إدارية وعن مسئول إداري كباقي القرارات الإدراية مستوجبة الطعن، وفق الفصل رقم 118 من دستور 2011، الذي نصّ على «أن جميع القرارت الادارية يجب أن تخضع لرقابة القضاء الإداري، انتصارًا لمبدأ سمو القاعدة الدستورية على باقي القواعد الأخرى، واعتبارًا لقصور بعض إجراءات التحفيظ عن تبرير الحصانة المطلقة لقرار التحفيظ».


محاولة حثيثة لحل الأزمة

لقد سبق لي أن أدليت بالشهادة، جرّاء الضغط علينا وتهديدنا، كما طُلب منا الحضور إلى الجلسة بمحكمة الاستئناف بأكادير لأداء شهادة الزور.

في عام 2017، أطلقت مديرية المحافظة العقارية والمسح العقاري خدمة جديدة باسم «محافظتي» عبر بوابتها الإلكترونية. مثّل ذلك التطبيق حلاً للثغرة الكبيرة الموجودة في مدونة الحقوق العينية. إذ من خلاله سهّل القيام ببعض الإجراءات القانونية، فبات بإمكان المواطنين القيام بجميع الإجراءات عبر ذلك التطبيق دون الحاجة للتنقل إلى المحافظة العقارية. كما يتولى التطبيق إخبار صاحب العقار في حال حاول أحدهم السطو على عقاراته، إضافة إلى أن بإمكان صاحب العقار الاطمئنان على عقاره بين الحين والآخر. جاء ذلك التطبيق كوسيلة لقطع الطريق في وجه مافيا العقار ومحاولة لتأمين أصحاب العقارات وتسهيل المهمة عليهم.

واستجابة للشكاوي التي وردت إلى الديوان الملكي من قبل مواطنين عن تنامي ظاهرة الاستيلاء على عقارات المواطنين بغير حق، اتجهت الحكومة المغربية إلى تقديم مشروع قانون رقم 18-32 والذي بموجبه يتم تعديل المسطرة الجنائية، وقد أعد ذلك المشروع وزير العدل وصادق عليه المجلس الحكومي في 14 يونيو/حزيران 2018.

وبعد مضي نحو عام، أقر البرلمان المغربي في يوم الثلاثاء الموافق 28 مايو/آيار 2019 التعديلات المرتبطة ببعض مقتضيات المسطرة الجنائية، وبموجب هذا القانون يتم منح السلطات القضائية الحق في التحفظ على العقار موضوع النزاع والمنع من التصرف فيه إلى حين البت في الدعوى العمومية المتعلقة بالتزوير أو الاستيلاء.

كما ينص التعديل على أن وكيل الملك يجوز له تقديم طلب إلى رئيس المحكمة الابتدائية لإصدار أمر بالتحفظ على العقار في إطار الأوامر المبنية على طلب، في حال تعلق الأمر بجريمة تمس حق الملكية العقارية.

وإلى حين دخول تلك التعديلات الجديدة حيز النفاذ،فإنها ستُمكّن ضحايا السطو على عقاراتهم من ضمان التحفظ عليها، كإجراء يحمي حقوقهم ويدافع عنها دون أي مخاوف من أن يتم المساس بعقاراتهم أو تغيير معالمها، سواء بالهدم أو إعادة البناء،إذ يُصّعب التلاعب في شكل العقارات من إمكانية استرجاعها، حتى بعد صدور القرارات القضائية النهائية لصالح المُتضرِر.