بات فاعلًا في العلاقات الدولية ومصدرًا للتوتر والحروب أحيانًا بين الدول، استغلته الجماعات المسلحة في رفع الروح المعنوية لأفرادها إلى أن أصبح بمرور الوقت نشاطًا رئيسيًا لتمويل عملياتها.

وبالرغم من الجهود الدولية والمحلية للقضاء عليه، فإن اتجاهًا لتقنين زراعته بدأ في الظهور، وبدأت معه حالة من الجدل بين مؤيد ومعارض ومحذر. تجلت تلك الحالة اليوم مع المساعي اللبنانية لتقنين زراعة الحشيش تحت دعوى النهوض بالاقتصاد المتردي!


حين يحشد الساسة لتقنين الحشيش

بدأت هذه المساعي بتأكيد رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري في 18 تموز/يوليو الماضي أن لبنان يستعد لإعادة النظر في نصوصه التشريعية لإتاحة زراعة الحشيش لأغراض علاجية، على أمل إيجاد حل للأزمة الاقتصادية. فقد تراجع النمو الاقتصادي من 9% في 2012 إلى نحو 2%، وارتفع العجز المالي في السنوات الأخيرة من 2.3 مليار دولار في 2011 إلى 4.8 مليار دولار العام الجاري، وحل لبنان بالمرتبة الثالثة على لائحة البلدان الأكثر مديونية في العالم.

وجاء ذلك الاقتراح بناء على توصية شركة «ماكنزي» الأمريكية، والمكلفة بوضع خطة للنهوض بالاقتصاد اللبناني، بتشريع زراعة الحشيش للاستخدام الطبي، إذ أشارت الشركة ضمن دراستها إلى أهمية الاستفادة منه لتحقيق أرباح اقتصادية لدعم الموازنة.

بالفعل تجاوبت بيروت سياسيًا مع هذا المقترح، حيث أشار الرئيس ميشيل عون إلى أنه «سيساعد الاقتصاد اللبناني على التطور بطريقة مستدامة»، وصادق عليه «رائد خوري» وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال، كما بدأ في الترويج لمزايا هذا المقترح وخلفيته الاقتصادية، مؤكدًا أن «أرض لبنان تنتج نوعية جيدة من الحشيش، يُمكن أن يُستخدم في تصنيع زيت القنب (زيت طبي وهو مطلوب وغالي الثمن) وبالتالي يمكن أن يُدرَ ذلك أكثر من 500 مليون دولار سنويًا».

وعلى الفور، أبلغ بري السفيرة الأمريكية في لبنان «إليزابيث ريتشارد» أن البرلمان في صدد التحضير لإقرار التشريعات اللازمة لتشريع زراعة الحشيش، على غرار العديد من الدول الأوروبية وبعض الولايات الأمريكية، وبالفعل تم تكليف لجنة مختصة لإعداد صيغة للقانون المتعلق بالتشريع.

https://www.youtube.com/watch?v=qYgjzRxvmws


لم تكن المرة الأولى: واقع الحشيش في لبنان

لم تكن هذه المرة الأولى التي تنطلق فيها الدعوات السياسية لتقنين زراعة الحشيش، ففي كل عام تقريبًا تنطلق مثل هذه الدعوات في الأوساط الشعبية وتلقى دعمًا من جانب عدد من السياسيين، حيث تستند في ذلك إلى عدد من الدول التي سبقتها في ذلك الأمر، مثل: إسبانيا وسويسرا وهولندا والأوروغواي وكولورادو وإقليم كيبك بكندا، وبعض الولايات الأمريكية، مثل: كولورادو وألاسكا وواشنطن العاصمة وأوريجون وكاليفورنيا.

فمنذ أربع سنوات طالب وزير السياحة السابق «فادي عبود»، بتقنين زراعة الحشيش للتصدير وليس للاستهلاك المحلي، مشيرًا إلى أن الدولة يمكنها الحصول على ملايين الدولارات من الاقتطاعات الضريبية على صادرات الحشيش، وأنه ما دام لبنان يصدر هذه السلعة بطريقة غير مشروعة، فيمكنه شرعنة التصدير لخلق إيرادات إضافية للخزينة العامة.

وعلى النهج ذاته،دعا وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي، لتقنين الحشيش دعمًا للاقتصاد، مستشهدًا بفترة الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، والتي ازدهرت بها زراعة الحشيش وأدخلت ملايين الدولارات، قبل أن تكثف الدولة مساعيها للقضاء عليه عقب انتهاء الحرب.

وبصفة عامة، فزراعة الحشيش والاتجار به ليست بالأمر المستجد على الداخل اللبناني، فمنذ السبعينات والحشيش يُشكل مصدر دخل مالي أساسي للميليشيات المشاركة في الحرب الأهلية بمختلف طوائفها.

وفي منتصف الثمانينات قدرت أجهزة الاستخبارات الغربية إنتاج الحشيش بأكثر من 1814 طنًا سنويًا في لبنان، الذي أصبح في ذلك الوقت أحد المراكز الرئيسية لتجارة المخدرات في العالم. وطيلة فترة التواجد العسكري السوري في لبنان (1976-2005)،تخطت زراعة وتجارة الحشيش شوطًا كبيرًا، إذ أشارت تقارير عدة إلى زيادة نسبة الأرض المزروعة من 10% إلى 90%، مؤكدة اكتساب هذه التجارة طابعًا يكاد يكون مؤسساتيًا، وتورط الجيش السوري بها بعد سيطرته على طرقاتها. وبداية من الألفينات عمدت الحكومات اللبنانية المختلفة إلى إطلاق عمليات تهدف إلى القضاء على زراعة الحشيش، إلا أن جهودها باءت بالفشل.

كان ذلك أمرًا متوقعًا. فزراعة الحشيش تتركز بشكل أساسي في منطقة البقاع، وهي من أفقر المناطق وأكثرها تهميشًا من قبل الدولة منذ عشرات السنين. فهذه المناطق تغيب عنها المرافق الحيوية والخدمات الاجتماعية البديهية، فعدد المستشفيات والمدارس بها قليل جداً، وإمدادات الكهرباء والمياه والصرف الصحي لا تزال في مراحلها البدائية. وبينما وعدت الحكومة سكان هذه المناطق بتوفير مشروعات وزراعات بديلة عن الحشيش، إلا أن هذه المشاريع لم تصل يومًا إلى خواتيمها المجدية، إذ لم تلتزم الأمم المتحدة بالأموال التي كانت قد وعدت بها للسير في هذه المشاريع (قدمت 17 مليون دولار من أصل وعد بدفع 300 مليون دولار).

هكذا فشلت الدولة في ضمان مشروع شامل للتنمية البديلة بهذه المناطق، أو في ضمان تعويض المزارعين عن الخسارة الناتجة في حال أوقفوا بيع حصادهم لتجار المخدرات المحليين. مما نتج عنه استمرار الوضع على ما هو عليه،وتفاقم المواجهات بين الدولة والعائلات التي تعمل بهذه المناطق، من الاشتباك بالأيدي إلى المواجهات المسلحة أحيانًا.

وعلى هذا النحو، استمرت هذه المناطق بزراعة الحشيش والاتجار به، دون أن تتمكن جهات إنفاذ القانون من منعها سوى باتلاف ما يمكنها اتلافه. كما أسهمت الحرب في سوريا وانشغال السلطات اللبنانية بموجات اللاجئين وتأمين الحدود، في نمو معدلات الاتجار بالحشيش بنسبة 50% منذ 2012، حتى احتلت لبنان المركز الثالث عالميًا في إنتاج الحشيش بعد المغرب وأفغانستان، طبقًا لتقارير الأمم المتحدة.


ماذا لو تم التقنين؟

بالرغم من المزايا التي عددتها دراسات ومطالبات تقنين الحشيش، فإن التحدي سيظل مرتبطًا بالدرجة الأولى بانعدام الثقة بقدرة الدولة اللبنانية على فرض الضوابط اللازمة لحصر التشريع بالغايات الطبية.فتقنين زراعة الحشيش يعني أن الحكومة هي من ستسيطر على تلك الزراعة، وهي من يمكنها إصدار تراخيص للمزارعين وتلقي المحاصيل، فهل ستضمن ألا يتم استخدامه في إنتاج المخدرات؟ هل يمكنها السيطرة على كافة المناطق المزروعة في ظل هذه الأوضاع الأمنية المتردية وعدم قدرتها بسط سيطرتها على الحدود؟

الإجابة بالطبع لا، فتقنين هذه الزراعة لا ينجح في ظل غياب الدولة وضعفها في لبنان، وفي ظل ذلك الفساد المستشري بها،فالدولة تحتل المرتبة 143 بين 180 دولة الأكثر فسادًا، طبقًا لتقارير منظمة الشفافية الدولية.

وإذا كانت تسعى لزيادة حصيلتها عبر فرض الضرائب على الحشيش، فالأمر لن يكون باليسير، حيث سيشهد السوق تهربًا من التصريح عن المداخيل، والعوائد لن تكون كما هو المخطط لها، في ظل ضعف الرقابة ووصول التهرب الضريبي بها لنحو 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى المدى المتوسط والطويل – في حال التقنين – من المتوقع انخفاض سعر الحشيش ليصبح كغيره من السلع، فالتشريع يعني أن هذه النبتة ستُزرع في مساحات أكبر، وكلّما ازدادت الكميات المعروضة انخفض السعر، وهكذا ستنخفض العوائد الاقتصادية المتوقعة من تقنين زراعته.

وبصفة عامة، فتقنين هذه الزراعة سيزيد من قوة مافيا المخدرات، كما قد يُعرِّض الدولة إلى خطر السقوط في مستنقع الدول الفاشلة. فسبق وأن أشار مساعدُ وزير الخارجية الأمريكِي بالمكتب الدولِي لمكافحة المخدرات غير المشروعة والجريمَة المنظمة، «ويليام براونفيل»، إلى أن الاتجار بالمخدرات ضمن الشبكات الإجرامية، لا يتم فيه تسخير الأموال للجريمة فقط، وإنما يتعدى ذلك إلى تمويل الإرهاب وسقوط الدولة.

وبالطبع لن تنحصر تداعيات هذا التقنين على الداخل اللبناني، بل ستمتد لمختلف الدول، وخاصة المجاورة، وفي مقدمتها مصر، التي يتخطى معدل الإدمان بها ضعفي المعدلات العالمية 5%،وتأتي بالمرتبة الأولى بين الدول العربية في استهلاك الحشيش، بعد الإمارات والمغرب.

أخيرًا، تبقى الإشارة إلى أن هذا التقنين سينعكس أول تداعياته على الداخل اللبناني بزيادة نسبة تعاطي المخدرات به، في ظل الانتشار الكبير لها في السنوات الأخيرة، وعدم قدرة الدولة على ضبط هذه الزارعة، فهي لم تنجح في السيطرة عليها وهي غير مشرّعة رغم أن عقوبتها قد تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، فكيف إذا شُرِّعت؟

هكذا ستبقى فكرة زراعة الحشيش وتقنينه مادة مثيرة للجدل في بلد كلبنان، تنعدم فيه الضوابط وتتضارب مع المصالح في أحيان كثيرة.