لا تنحصر الفائدة التي تعود علينا جراء الانفتاح على علوم الأديان بمناهجها المعاصرة الأكثر تفهما لخصوصية الظاهرة الدينية، في أنها تساعدنا في مهمة تجاوز الصور الاستشراقية والحداثية العربية المختزلة عن الإسلام؛ ومن ثمَّ توسعة رقعة القراءة التفهمية له في كليته وفي تعقد بنيته على ما حاولنا أن نوضح في مواضع سابقة، بل فيما لعلم وتاريخ الأديان من قدرة على تجديد تصوراتنا عن الشق الآخر في معضلة النهضة (إسلام/حداثة، ظلام /تنوير، دين/عقل)؛ أي «التنوير».

فعلوم الأديان تستطيع وضع التصورات المكرورة والمعتادة عن «التنوير» وكذلك تلك الأمنيات المعادة والمبسطة عن مصير الدين موضع السؤال، وهذا من جهتين؛ فمن جهة فإن لعلوم الأديان وبحكم تأريخها للاهتمام الغربي بالدين منذ عصر النهضة، تصوره عن تاريخ للتنوير [1]، يختلف كثيرا عن الرواية الأشهر – الأسطورية كما يرى كازانوفا- عن تاريخ للتنوير «عبارة عن تطور تدريجي للبشرية من التطير إلى العقل، ومن الإيمان للإلحاد، ومن الدين إلى العلم…»[2].

حيث نجده، وعلى العكس تماما، يستحضر منسيات هذا التاريخ من الانفتاح على الهرمسيات والديانات غير الغربية، ويرى أن «التأويل الخلاق» لهذه الديانات كما للدين المسيحي واليهودي مثل أساسا من أسس التنوير ومنطلقا لتجديد الفكر الغربي، كما يكشف باستحضاره هذه المنسيات عن تعقد وتشابك تاريخ «التنوير» وعدم إمكان حصره في ترسيمة وحيدة تحوي نفس الآراء تجاه القضايا الكبرى وعلى رأسها الدين ودوره ومصيره، ومن الجهة الأخرى فإن جزءا من دراسة علوم الأديان هو دراسة المجتمع المعاصر وكشف التشكلات الجديدة لأفعال «التقديس» و«الأسطرة» الحاصلة في عالمنا الحديث؛ مما يجعله نقدا معرفيا لتنبؤات بعض «نظريات العلمنة» عن عالم سيشهد «الانحسار التدريجي للدين»[3]، ليخلو باطراد من السحر والأسطورة.

من هاتين الجهتين يصبح لعلم الأديان دورا شديد الأهمية في نقاشاتنا المستمرة حول معنى «التنوير» ومآل «الدين».


علوم الأديان والتأريخ للتنوير المضاد

حين ننظر لهذه المحاولة التي قام بها مرسيا إلياد من موقعه كمؤرخ وعالم للأديان، في التأريخ لحضور الدراسات الدينية في الفكر الغربي منذ النهضة الإيطالية في كتابه «البحث عن التاريخ والمعنى في الدين»، فسنجد أننا وبوضوح كبير أمام تأريخ يلتفت لتلك الأجزاء التي لا تذكر في التأريخ للتنوير بالصورة الكلاسيكية – ولا كذلك التأريخ للتنوير المحمل بالأماني والصورة المسبقة والذي يشيع في الكتابات العربية- وهذا لأنه أقرب ما يكون تأريخًا لـ«التنوير المضاد» أو «ضد-التنوير» بتعبير إيزايا برلين، ولتطوراته لاحقا [4]، ولتشابكاته وصراعاته مع غيره من تيارات التنوير «المعتدل» و«الراديكالي»، ولقيمه الخاصة التي ينازع فيها غيره، خصوصًا رؤيته لمركزية الفكر الغربي حيث يرفض هذه المركزية نحو رؤية تعترف بمنطق التقدم الخاص للثقافات، وكذلك رؤيته لدور المناهج التي تتخطى صرامة العقل وموضوعيته، هذه «الموضوعية» التي وكما يرى برلين كانت من أهم ما رفضته «ضد –التنوير».

فهذا التأريخ من إلياد يبتدئ بلفت النظر لجزء من تاريخ النهضة غير الملفت إليه وإلى أهميته؛ هو تاريخ الاهتمام بـ«الديانات الهرمسية» مع فيتشينو ومرسيليو، فهذا الاهتمام والذي يعبر في رأي إلياد عن حنين وبحث عن «وحي أولاني»، «لا يحتوي موسى والقبالاه فحسب، بل على أفلاطون أيضًا»[5] كان جزءًا رئيسًا من تطور النهضة الإيطالية ومبلورًا أساس لرؤيتها تجاه لاهوت العصور الوسطى.

وعلينا التذكير هنا بما لا يخفى من تأثير هذا «الوحي الأولاني» على بعض العلماء المؤثرين في مسيرة العلم الحديث مثل كوبرنيكوس وكبلر ورؤيتهم السحرية للشمس و«للترييض الأنطولوجي» للعالم، هؤلاء الذين يعتبرهم سالم يفوت رواد «العلم الموازي»[6]، فالأمر وكما يقول يفوت، لم يكن أن الجبهة المناهضة للعلم الإسكولائي ولفيزياء أرسطو وفلكه موحدة أو لها نفس المواقف والرؤى للكون، بل وقف في هذه الجبهة وتبادل السكوت والنقد تياران مختلفان، الأفلاطونيون المحدثون من جهة، والميكانيكيون من جهة أخرى على كل ما بينهم من اختلافات متصلة تماما بماهية الدين.

بل إن هذا الحنين – وفقا لإلياد- يقف حتى وراء كثير من النزعات «الوضعية» والميكانيكية اللاحقة، والتي – وإن كانت لا تعترف بوجود إله إلا أنها- كانت تجد في المادة وأصليتها إشباعا لهذا الحنين للأولاني، فضلا عن أن هذه الوضعية لم تستطع التخلص من الاهتمام الروحاني بالمرة، بل ظهر ما يعتبره إلياد «روحانيات ذات نظرة عامة وضعية»، في «الجمعية الإشراقية» التي تثبت صحة العقيدة الإشراقية بأدلة مادية، وفي «بحوث الباراسيكولوجي» التي تنتهج لإثبات التجارب الروحية وإثبات خلود الروح نفس الطرق التجريبية المستخدمة في علوم الطبيعة [7]؛ مما يعني أن الاهتمام الروحي ظل ماثلا حتى في قلب الاهتمام الوضعي، مؤثرا فيه، وبالطبع، متشكلا عبره.

وإذا تركنا النهضة والتنوير الكلاسيكي لما بعدها، فسنجد تثمينا كبيرا من إلياد لما أسماه «النهضة الثانية»؛ أي مرحلة الانفتاح على الديانات الهندية، والتي لم تثمر كثيرا في رأيه بسبب غياب «تأويل خلاق» لها مماثل لما تم في النهضة الأولى. يأسف إلياد كثيرا لغياب هذه الفرصة، فانفتاح تأويلي كهذا كانت ستكون له وإلى جانب القدرة على تجاوز المركزية الغربية ومركزية أديانها «مركزية العقل الغربي ثابت تنويري في التنويرين المعتدل والراديكالي»، القدرة على القيام بتجديد طرق الوصول للحقيقة، خصوصًا في تناول الظاهرة الدينية، والخروج بها من مأزق المقاربات الاختزالية -والتي شاعت بعد انتصار التيار الميكانيكي وسيادة رؤيته المعرفية كـ«علم سوي» يفترض للتوافق معه إقصاء مغلف لكل البدائل النظرية كما يرى بول فيير ابند [8]-.

فهذا «التأويل الخلاق» الذي هو أقرب «للعمل الفني منه للمنوغرافيا العلمية» هو جزء هام من عدة مؤرخ الأديان عند إلياد، ومهمته ليست فحسب أكاديمية أو مرتبطة فقط بعلم الأديان، بل له عنده مهمة فوق معرفية، هي مهمة إيقاظ قارئه، مهمة تغيير الإنسان، تغيير نوعية الوجود [9]، وبالنسبة للفلسفة الغربية مركز الفكر الغربي، مهمة إثرائها [10]، في حديث يذكرنا بحديث ريكور عن حاجة الفلسفة للإثراء «عن طريق ربطها بالرموز الكبرى التي كيفت الفكر البشري»[11].

بسبب هذه النظرة العميقة لدور «الانفتاح التأويلي الخلاق» على الأديان غير الغربية في تطوير الفكر الغربي كتكرار لما حدث في «النهضة الأولى» المشكلة لأحد أساسات التنوير والتي تعد «حدثا مهما في تاريخ الفكر؛ لأن ما أنتجه «مؤولوها» كان أهم مما أنتجه كتابها»[12]، فإن إلياد يهتم لأدوار ماسينون وكوربان في تجديد الفكر الغربي بانفتاحهم التأويلي على التراث الإسلامي من موقعهم كلاهوتيين وذوي اهتمامات روحية، بل يعتبر إلياد أن فلاسفة ومفكري النهضة الأولى ونيتشة وأمثال ماسينون وكوربان يشكلون نموذجا على مؤرخ الأديان احتذاؤه، حيث أن المهمة الرئيسة لتاريخ الأديان عنده ليست فحسب أكاديمية، أو منحصرة في مجال محدد، بل مهمة ثقافية شاملة، كما أنها ليست محددة فحسب بالخروج من مركزية الأديان الغربية وفهم الأديان والظواهر الروحية والفنية غير الغربية بل الوصول للينابيع الروحية للظواهر الدينة والفنية في الذات نفسها»[13].

فكأن إلياد بتأريخه الاهتمام للدراسات الدينية في الغرب لا يرى الاهتمام الروحي جزءا أصيلا في تطور الفكر الغربي فحسب، بل يرى – وفقا لهذا التاريخ- أنه لا سبيل لتجدد هذا الفكر إلا بمزيد من الانفتاح على الينابيع الروحية.


علوم الأديان، والمجتمع المعاصر، ودعاوى التنويرين الراديكالي والمعتدل

وفقا لإلياد، فلتاريخ الأديان مهمة ثقافية معنية بالخروج من مركزية الأديان الغربية والوصول للينابيع الروحية للظواهر الدينة والفنية في الذات نفسها

بالنسبة للمحور الثاني الذي نريد الحديث عنه هنا وهو رؤية علوم الأديان للحضور المعاصر لتشكلات حديثة لبنى التجربة الدينية، فيفسر تيليش هذا الحضور عبر تفريقه بين «الإيمان الذاتي» و«الإيمان الموضوعي»، الإيمان ذاته أو تجربة التعلق بموضوع هم أقصى، قائم دوما حيث هو محايث للإنسان ذاته، فلا إنسان يحيا دون موضوعات لهمه الأقصى تتركز حوله الشخصية في شمولها، ما يتغير فحسب هو موضوع هذا الإيمان.

لم تتغير مركزية الأسطورة في عالمنا المعاصر، وإنما اتخذت لظهورها في عصرنا فضاءات وأشكالا حديثة؛ مثل العرق النبيل والأصل النقي والسيارة الحديثة.

في عالمنا المعاصر يستمر «الإيمان الذاتي» عبر مواضيع كثيرة تشكل موضوعات هم أقصى «زائفة كما يقول تيليش»؛ الأمة، التاريخ، بل النجاح الشخصي [14]، والمهم أن الإيمان بهذه الموضوعات يكشف عن نفس «بواعث الإيمان» في أي دين كان، فلهذه «الأديان المعاصرة» أيضا بنيتها الأساس من طقوس وعقائد وأساطير ورموز.

يرصد إلياد هذه الأشكال الحديثة لبنى الدين في المجتمع المعاصر، من مدخل خاص هو «الأسطورة» كبعد من أبعاد «بنية الدين الأساس»، فيتحدث عن استمرار الأسطورة في العالم الحديث، وشديد الأهمية أنه يدقق حكمه على هذا الاستمرار بأننا «لسنا بصدد رواسب لعقلية قديمة، بل يمكن القول إن بعضا من ملامح، ومن وظائف الفكر الأسطوري، تدخل في بنيان الكائن البشري»[15].

هذه المركزية للأسطورة مرتبطة بالطبع بكونها جزءًا من بنية الدين، الذي يراه إلياد كموقف حدي للإنسان، لا يختلف فيه «المتدين» عن غيره، حيث هو توسل تجربة الحقيقة والمعنى وكسر عادية الزمان والمكان وإعادة تأسيس العالم للعيش فيه [16].

فبسبب هذه العلاقة بين الأسطورة والدين ومدى مركزيتها في الوعي البشري، فإن موقع الأسطورة لم يتغير في عالمنا المعاصر، فرغم كل دعاوى العلمنة ونقود العقلنة للأسطورة، ورميها بالخرافة والخيال والكذب الذي يشوش «النور الفطري»، فقد استمرت الأساطير محققة وظائفها ومعبرة عن مركزية الشعور الديني ومعينة للإنسان على فهم القضايا التي لا تحل «برهانا» أو «تجريبا»، بل تحتاج «للسرد» هذا المعبر الوحيد عن بصمات المقدس كما يرى ريكور.

ووفقا لإلياد فإن القضية المركزية التي تدور حولها الأساطير الحديثة هي «الأعياد» التي تكشف عن نفس الميل القديم «إلى بداية مطلقة، يحس بها المرء إحساسا غامضا، وإلى أن يبدأ حياة جديدة؛ أي إلى أن يبعث انبعاثا شاملا»[17].

وإذا كانت النظرة لمجتمعاتنا الحديثة تجعلنا نشعر بغياب الأسطورة حتى لنعتبرها مجتمعات مجردة من الأسطورة، فهذا ليس لاندثارها وإنما لكونها قد «بدلت ملامحها وموهت وظائفها»[18]، فقد اتخذت الأساطير لظهورها في عصرنا فضاءات وأشكالا حديثة؛ مثل العرق النبيل والأصل النقي والسيارة الحديثة.

وكذلك السينما وكتب الكوميكس والأفلام البوليسية [19]، حيث تسرد هذه الأعمال ما كانت تسرده الأساطير قديما، صراع الخير والشر، أسئلة أصل الحياة ومعنى الغد ووجود اليوتوبيا، صراع الأبطال مع الموت، لا زالت هذه الموضوعات التي شكلت محور أساطير كل الشعوب تكرر على شاشات سينما الكوميكس والأبطال الخارقين، ولا يزال الإنسان يجد في هذا «السرد» ما عجز العقل الحديث بصرامته عن قراءته، لا يزال يحن لما تحققه تجربة القراءة أو دخول السينما من «وظيفة أسطورية» حيث تعد هذه التجربة خروجا من الزمان وكسرا لديمومة الزمن العادي و«هروبا وانفلاتا» نحو «زمن كثيف»[20] بدئي، وإذا كان الإنسان الحديث يفعل بعض هذه الأمور دون الوعي بمضامينها، إلا أن ما يبدو أنها «لا يزال لها صدى غامض، لكن عميق في كيانه كله»[21].

للسينما ديانة حديثة متكاملة، لها آلهتها«النجوم السينمائيون»، وطقوسها «مجلات، صور، حج، بريد النجوم»، وأساطيرها، وأعيادها «المهرجانات».. إنها مجرد ديانة معدّلة

في نفس هذا الإطار، إطار كشف التشكلات الحديثة للبنى الدينية شديدة العمق في الوعي البشري، تأتي محاولة الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع الفرنسي «إدغار موران» شديدة التميز، وهذا لأنها من ناحية لم تقتصر على أحد جوانب البنية الرئيسة للدين –كما عند إلياد في تناوله للأسطورة- بل تخطت هذا للكشف عن ديانة حديثة متكاملة لها آلهتها وطقوسها وأساطيرها وأعيادها، ومن ناحية أخرى أنها تناولت جانبا مختلفا عن ديانات عبادة الزعيم والدولة ونهاية التاريخ والذي كتب فيه الكثيرون من علماء أديان وأنثروبولوجي وعلماء نفس، ولاهوتيين، فالديانة التي يتناولها موران هي «ديانة السينما».

فالسينما عند موران ظاهرة جمالية دينية وسحرية، لذا فإنه لم يقتصر على دراسة موضوعات السينما – وهي التي تعرض لبعضها إلياد كما ذكرنا مذ قليل -، بل قام بالنفاذ لهذا الدين الجديد من أفضل موقع على الإطلاق، وهو موقع ميلاد آلهتها، «نجوم السينما»، فموران يعتبر أن هذه الديانة مركزها هو ميلاد النجم، فهو محور التقديس الذي تدور حوله «الأسطورة» و«الطقوس» و«الأعياد»، وفقا لإلياد كتاب الكوميكس – أو شاشة السينما أو المسرح – هي موضع الأسطورة، أما بالنسبة لموران فالأسطورة ومجمل أبعاد هذه الديانة موضعها هو ما بين السينما «شخصيات النجوم» و«واقع النجوم» «واقع المشاهد»، في هذا الخلط، في «أسلبة الواقع»، وكسر الحدود بينه وبين الخيال، في ظواهر التماهي، التي وكما يقوم بها الممثل يقوم بها المشاهد.

ما يذكره موران عن علاقة بين المشاهدين ونجومهم يجعلنا بالفعل أمام ديانة متكاملة من طقوس وأساطير وأعياد وعقائد.

فلهذه العبادة أماكنها المقدسة «ونوادي النجوم هي المعابد التي تمارس فيها طقوس العبادات»[22]، وأعيادها «المهرجانات»، وطقوسها «مجلات، صور، حج، بريد النجوم».

وهي عبادة تقوم مثل كل عبادة على «عدم التبادل، وإنما تخضع للثواب»[23]، وللهبة فيها مكان أصيل، فالعابد يهب الورد والشموع وحاملات الشموع، هدايا رمزية أو طقوسية، بل وحتى جزءا من جسده، وهذا ما حدث بالفعل حين منح أحد متعصبي النجوم جزءا من جلده لنجمه و كأننا أمام ختان معاصر لإله سام جديد، ويحتفظ بصورة نجمه وتوقيعاته، على الجسد أحيانا، كأنها طواطم لهم [24]!.

فضلا عن مركزية الأعياد في هذه العبادة، فلأن الأعياد هي مواضع تجديد العهد، هي أيام الآلهة، تأتي أهمية المهرجانات والاحتفالات، على النجوم فيها أن يخالطوا معبوديهم كآلهة أولومبية سعيدة.

مهم أيضًا أن نشير هنا لكون السينما لا تجسد فحسب أساطير بشرية موغلة في القدم وكونية كما أشار إلياد لأبطال الكوميكس الخارقين، وموران «لأسطورة الحب التأليهية»، بل تجسد كذلك بعض الأساطير المعاصرة، مثل تجسيدها لأسطورة «المراقبة»، «كملمح أساس للحداثة»، ففي بعض الأفلام تحضر المراقبة عبر«الكاميرا كنسخة مطابقة للنظرة الدينية – التسامي المقدس الذي لن يموت في الخيال الحديث – لكن دون تسامٍ».[25]

إلياد ليس راضيا عن التشكلات الدينية الحديثة، بل إنه يصفها بالكاريكاتورية أحيانا، كما يعتبرها موران بلاهة، لكن وكما يقول «بلاهة ينبغي التعامل معها بجدية»، حيث أنه وراء هذه البلاهة، وراء حماقة المعجبين ومؤامرات المنتجين، «هناك فؤاد العالم، هناك الحب، تلك البلاهة الأخرى، تلك الإنسانية العميقة الأخرى»[26] ولو أخذنا بتفريق تيليش الذي ذكرناه في الأعلى فسنقول إن هذه البلاهة ليست بلاهة «الإيمان الذاتي»، بل بلاهة «مواضيع الإيمان»، فالإيمان الذاتي كامن في «تلك الإنسانية العميقة».

إذا أردنا الآن إذن تحديد العلاقة بين ما تكشفه علوم الأديان من دراستها للمجتمع المعاصر وبين تنبؤات تيارات التنوير لمآل الدين، فيمكن القول إن ما كشفته، عبر دراستها للمجتمع المعاصر، من استمرار للوعي الديني بمجمل أبعاده، يضعها من مسألة الدين في موقف معارض للتنوير «المعتدل» كما «الراديكالي»، حيث أن هذه الدراسة للمجتمع المعاصر لم تكشف عن محض وجود للدين يجعلها فحسب ضد ادعاءات «التنوير الراديكالي» بزواله، بل كشفت عن وجود له مخالف للصورة التي تصور عليها «التنوير المعتدل» مآله، كدين معدل محذوفة منه كل أبعاده اللاعقلانية والفردية والتفكيكية والمدمرة، مبقيًا فحسب على دين عمومي واضح وعقلاني خال من الأساطير ومن الطقوس، فكأنه قد بدا أن الدين لا يمكنه أن يصير عقلانيًا، وأن المتدين يتدين بكل وجوده لا بالعقل فحسب، والإيمان هو الفعل المتركز للشخصية في شمولها وليس فعلا عقليا، فكأن علوم الأديان بهذا تقول إن كثيرًا مما تحدث عنه «التنوير المضاد» من صفات للدين هو أقرب لطبيعته مما ظن التنويران «الراديكالي» و«المعتدل».

إن نظرة مغايرة للتنوير وتعدد تياراته وللدين وماهيته ودوره ومصيره، كتلك التي تحدثنا عنها علوم الأديان – التي هي نفسها مدينة في تطوراتها لطريق مغاير هو «التنوير المضاد» كما أشرنا -، لشديدة الأهمية لوضع كثير من تساؤلاتنا وأجوبتنا الجاهزة وتصوراتنا المسبقة وثنائياتنا الصلبة موضع اختبار، فقد صارت هذه الأحاديث المكرورة عن التقدم الخطي للتاريخ نحو مثال «متخيل» وضرورة «عقلنة» الدين – بحذف ما يشكل بنيته الأساس أحيانا مثل النظام الشعائري والسردي ورسم العوالم القدسية، جملة واحدة أو على مراحل- للتوافق مع هذا المثال، أساطيرنا وطقوسنا المعاصرة الخاصة، لكنها أساطير وطقوس عاطلة عن تحيين أو خلق من جديد، حيث لا تسرد في حقيقة الأمر إلا الخواء.


[1] علينا أولًا الإشارة لكوننا نستخدم هنا في حديثنا عن «التنوير»، هذا التحقيب الثلاثي الذي طوره صالح مصباح عبر الاستفادة من تلك المراجعات المعاصرة لتاريخ التنوير الأوروبي، وهي التي تعود أهمها لثلاثينيات القرن الماضي؛ تلك التي تؤكد على الطابع المعقد والدينامكي والتاريخي للتنوير، ومنها تأريخات هانز بروان، وأعضاء مدرسة فرانكفورت، وجوناثان إسرائيل، ثم وخصوصا نص شتراوس الشهير «موجات الحداثة الثلاثة»: «الذي يعتبر بمثابة وصية نظرية».فللتنوير وفقا لهذا التحقيب ثلاثة برامج: تنوير راديكالي، وتنوير معتدل، وتنوير مضاد. وفقًا لما يهمنا هنا، فإن هذه البرامج الثلاثة، وكما يخبرنا صالح مصباح، تختلف عن بعضها من حيث رؤيتها لموقع الدين وأهميته للإنسان، وبالتالي لمصير الدين مع تزايد معدلات العقلنة. فالتنوير الراديكالي، يرفض الاعتراف بأي قوى غيبية أو سحرية أو أرواح لاجسمية، يستند أنطولوجيًا إلى رؤية ربوبية قدرية على أقل تقدير، إن لم تكن مادية و إلحاد واضحين، أو إلى قول بواحدية أنطولوجية، أو رؤية إلحادية جلية.أما المعتدل فقد كان صراعه قائمًا على هزيمة الجهل والخرافة على نحو يحفظ ما كان يعتبر العناصر الأساسية في البنى القديمة، وذلك بإنجاز تأليف صلب يوفق بين القديم والجديد، بين العقل والإيمان.أما التنوير المضاد، وهو ربما أكثر المراحل الثلاثة تنوعًا، وهو الذي يحتفي بعبارة فيكو النبوية في تأكيده على الخبرة والمخيلة الشعرية والدين في مواجهة «بربرية العقل»، كعنوان عليه، فقد كانوا يرون للدين أهمية كبيرة، فحسب هردر «تحتاج العقلانية المعرفية إلي الدين»، فرومانسيا لابد من تأسيس العقلانية على اللاعقلانية، لإقامة تصور دنيوي يجمع بين العقل والإيمان على نحو مكين، يتجاوز مجرد الفصل الكانطي (التنوير المعتدل) بين المعرفة والإيمان، ويتخطى دوغمائية التنوير الراديكالي في نقده للدين. [انظر: صالح مصباح، مباحث في التنوير موجودا ومنشودا، الفصل الأول «القول في تاريخية التنوير الأوروبي الحديث وتعدده»] فظننا أن هذا التقسيم يفيدنا كثيرا في الخروج من الكلام المطلق عن «تنوير» هو غالبا صورة ذهنية مركبة من آمال وطموحات وتبشيرات تخفي تعقدات كثيرة في تاريخ هذا التنوير، وتغطي على مواقف متبانية له عن قضايا طالما اعتبر رأيه فيها حاسما وعلى رأسها قضية الدين، تلك التي «تختزل التنوير عموما في الهجوم على الدين واعتباره «ولادة ثانية للوثنية» [نفسه، ص32]ومن خلال هذا التحقيب الثلاثي للتنوير، ومن خلال موقع الدين من الفكر البشري في رؤاه، سنقرأ رؤية علوم الأديان وما تستطيع أن تقدمه في مواجهة هذه الرؤى الثلاثة للدين ودوره في حياة الموجود البشري أنطولوجيًا ومعرفيًا، ومصيره.[2] الأديان العامة في العالم الحديث، خوسيه كازانوفا، ص31.[3] نفسه، ص34.[4] الانعطافة المعاصرة في علوم الأديان مدينة في جزء كبير من مناهجها ونظرتها للظاهرة الدينية لرموز التنوير المضاد، وعلى رأسهم شلايماخر الذي بنى أهم كتاب في هذه الانعطافة «فكرة القدسي» لأوتو كامتداد وحوار مع أفكاره.[5] البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، مرسيا إلياد، ص110.[6] الفلسفة والعلم في العصر الكلاسيكي، سالم يفوت، ص51.[7] البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص118، 119.[8] الفلسفة والعلم في العصر الكلاسيكي، ص99.[9] البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص146.[10] نفسه، ص148.[11] الانتقاد والاعتقاد، قراءة في فسلفة الدين عند ريكور، السيد ولد أباه.[12] البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ص145.[13] الأساطير والأحلام، مرسيا إلياد، ص44.[14] بواعث الإيمان، بول تيليش، ص18.[15] ملامح من الأسطورة، مرسيا إلياد، ص217.[16] البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، مرسيا إلياد، ص39.[17] الأساطير والأحلام، ص29.[18] نفسه، ص28.[19] ملامح من الأسطورة، ص220.[20] الأساطير والأحلام، ص39.[21] نفسه، ص29.[22] نجوم السينما، إدغار موران، ص82.[23] نفسه، ص85.[24] نفسه، ص94.[25] السينما والحداثة، جون أور، ص87، 114.[26] نجوم السينما، ص114.