من ذا الذي ينكر أن المجتمع المسلم يكابد من التحديات المعنوية مقدار ما يكابده من التحديات المادية. ويتصدر التحديات المعنوية ما يواجهه من تيه فكري، متمثل في فتنة مفهومية كبرى لا يعرف كيف يخرج منها، إذ لا تفتأ تتوارد عليه كثرة متكاثرة من المفاهيم التي تضعها المجتمعات الأخرى، فيأخذ في التخبط في معاقدها ومغالقها، بل في متاهاتها وأحابيلها، لا قدرة له على استيعابها، ولا طاقة له على صرفها. والواقع أن المجتمع المسلم ما لم يهتد إلى إبداع مفاهيمه أو إعادة إبداع مفاهيم غيره، حتى كأنها من إبداعه ابتداء، فلا مطمع في أن يخرج من هذا التيه الفكري الذي أصاب العقول فيه.[1]

ومن المعضلات التي أهمت كل معتن بالشأن الإسلامي في الآونة الأخيرة ما اصطلح على تسميته بـ”تجديد الخطاب الديني”. والقضية وإن كان يظن بعض المشتغلين بها أنها حديثة الطرح؛ إلا أن القضية قديمة في مضمونها ومدلولاتها، ومتجددة مع عصور الإسلام المختلفة، ولعل السبب الأكثر شهرة في طرح القضية -على اختلاف العصور- ما تتجدد في كل زمان من نوازل وقضايا فقهية وعقدية وفكرية. ولكنها اليوم ليست كذي قبل، بل اليوم اتسعت نطاقاتها ودوائرها، إذ الرقعة الفكرية اتسعت، وباتت تضم المختصين وغير المختصين، وتنطلق من خلفية -في غالبها- ليست إسلامية ذات ثقل معرفي، بل تنطلق -في أكثر أحايينها- من خلفيات حداثية وعلمانية، والتي لم تعي التراث بكامل صنوفه وعلومه.

وقبل الولوج في صلب الموضوع نقف وقفة مع موقف الباحثين تجاه هذه القضية. والباحثون تجاه قضيتنا طرفان ووسط: طرف يرفض تجديد لخطاب، ويراه صيحة حداثية تنطلق من زي العلمانية المبغض للدين. ونقيضه يجعل من تجديد الخطاب الديني حتمية تاريخية لا مناص منها، بل ويحمل على مخالفيه بألقاب كالرجعية والتخلف والمكوث في عصور ما قبل النور. وفئة وسط بين هذين، يجعلون من تجديد الخطاب الديني حتمية وسبيلا للتعبير عن الإسلام الصالح لكل زمان ومكان، فهم يشتركون مع الفئة السابقة في حتمية التجديد، ويختلفون في الطريقة. ولكل من الفئات السابقة حججه التي يراها دامغة من وجهة نظره، ثم ليحسن تصورنا للقضية لابد وأن نقف وقفة خفيفة مع واقع الخطاب الديني المعاصر، لا سيما بعد ثورات الربيع العربي.

واقع الخطاب الديني المعاصر:

لا يختلف اثنان أن فضاء الحرية الذي نعمت به مجتمعات ما بعد الثورات، والتي أتاحت لكثير من الدعاة -هكذا يطلقون على أنفسهم- مساحة ليست بالقليلة أن يعبروا عن أطروحاتهم بشكل فردي أو جماعي، مما أثار حفيظة المشتغلين بالمجال الفكري والمعرفي، بل وعامة الناس، على خلفية بعض الفتاوى التي شغلت الرأي العام حينها، وأيضا للطرح الغير مكتمل للإسلام، مما رسخ لدى المتلقين للخطاب الديني صورة قاتمة للرؤية الإسلامية لمستجدات القضايا. ولا نغفل في هذا المقام ما للفاعل الإعلامي من أثر سلبي في تضخيم بعض الفتاوى الشاذة، وتصديرها للناس على أنها هي الواقع الكلي للخطاب الديني؛ وأيضا ما للعنترية الجوفاء التي تمسك بها بعض المتصدرين للخطاب الديني في مسائل لم يحكموا ضبطها علميا كالعلمانية والحداثة ونظم الحكم وغير ذلك، من أثر أظهر لدى خصوم الإسلام الضعف البنيوي لدى هؤلاء المتصدرين للخطاب الديني. والأمر الأكثر سلبية، بل ولعله القشة التي قسمت ظهر البعير، هو: الاختزال المخل للإسلام -برؤيته الشمولية للإنسان والحياة- في صورة مسائل جزئية لا ترقى كي تكون هي محور الخطاب الديني. وأيضا من الأسباب التي آلت بالخطاب الديني إلى واقعه الحالي ما خلا منه الخطاب الديني من المزج بين مخاطبة العقل والروح معا.

هذا هو واقع الخطاب الديني الآني.

وخروجا من تلك الدائرة الضيقة للقضية، وبحثا عن معالجة آثارها السلبية، كان لزاما على المشتغلين بالفكر الإسلامي أن ينفضوا عن أنفسهم غبار الركون إلى استقبال نقدهم من خارج حظيرتهم الفكرية.

تجديد عرض الإسلام بات اليوم القضية الأكثر أهمية في الحقل المعرفي الإسلامي، بل وفي دوائر المعارف على اختلاف منطلقاتها وبنيتها؛ لما شاب الإسلام -بعد ثورات الربيع لعربي- من أطروحات ابتعدت كل البعد من معقولية الطرح، فضلا عن تعلقها بمنهاج القرآن والسنة الذي شرعه الله لعباده.

كي يؤتي التجديد المرجو مقصده الأسمى في تعريف الناس بالإسلام في ثوبه القشيب النقي لابد وأن نفهم أولا معطيات الواقع (السياسية – الاجتماعية – الاقتصادية – الثقافية)، ومن ثم نسج خيوط الخطاب، كي لا نصطدم بواقع لا يلائمه الطرح المصنوع.

تجديد الخطاب الديني ليس بدعا من القول كما قد يظنه معارضوه، بل هو الشغل الشاغل للعلماء المحققين منذ فجر تدوين السنة النبوية. وكان مقصد التجديد في كل حقب التاريخ الإسلامي هو: تخليص الإسلام مما شابه من الخرافات والبدع، وإلى جانب ذلك، عرض الإسلام بصورة تناسب العصر -بما لا يخل بأصول الإسلام-.

تجديد الخطاب الديني الآن ليس كذي قبل، بل لابد الآن من التمييز بين أمرين، الخلط بينهما يضر بكليهما، بين الدين، الذي هو ثابت لا يتغير، وبين أنماط التدين، والتي قد تختلف في بعض جزئياتها باختلاف الزمان والمكان والحال.

لا بد وأن يركز الخطاب الديني على كليات الدين ومقاصده، لا سيما التي تمثل صورة مشوهة في نظر البعض عن الإسلام، كنظرة الإسلام للإنسان والوجود والحياة، ونظرة الإسلام للعقل وحرية التفكير. وأيضا لا بد من التركيز على مقاصد الدين العقدية، والتي رأسها وذرة سنامها تخليص الإنسان من عبوديته لذاته ولنظائره من الخلق إلى عبوديته لله وحده. ولا نغفل في هذا المقام التنبيه على ضرورة اشتمال الخطاب الديني على مزجه بين مخاطبة العقل والروح معا، لا التركيز على جانب واحد.

ختاما:

لابد وأن نعي جميعا أن تجديد الخطاب الديني لا يعني التنصل من ثوابت وأصول الإسلام، بل إننا ننطلق في تجديدنا من ثوابت وأصول الإسلام، وأن هذا التجديد لا يعني مسايرة أهل الباطل في زعمهم عجز التراث الإسلامي عن الأخذ بزمام التجديد، بل لا بد وأن نعرف الجميع بقدرة تراثنا على بث روح التجديد في كل عصر وفي كل مصر.


[1] د. طه عبد الرحمن، روح الحداثة، طبعة: المركز الثقافي العربي، (ص: 11)، ط: 1، 2006م.


اقرأ المزيد:

تجديد الخطاب الديني.. مشروع لا يمكن إنجازه

دار الافتاء: الحجاب فرض.. وتجديد الخطاب الديني لا يخذف الثوابت

الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن.. نقد للحداثة وتأسيس للأخلاقيات الإسلامية