بين مطرقة الانقسام والتفكك الداخلي وسندان قمع النظام ومقصلته، تنجح جماعة الإخوان في جذب الأنظار إليها مرة أخرى، هذه المرة من خلال خطوة لطالما انتظرها وتوقعها كثير من الباحثين، وهي خطوة إجراء «مراجعات» بعد 30 يونيو، وبالرغم من تأخر تلك المراجعات، إلا أن بنية ومضمون وأهداف ما أعلنت عنه الجماعة، يثير العديد من الأطروحات والتساؤلات حول مدى جدية القائمين على تلك المراجعات.


ماذا حملت مراجعات الإخوان الأخيرة؟

فما بين ذنوب الماضي وتطلعات المستقبل أصدرت الجماعة أوراق تقييمات تحت عنوان «تقييمات ما قبل الرؤية»، شملت تلك الأوراق أربعة محاور أساسية تمثل ركيزة اهتمام عمل الجماعة خلال السنوات الماضية، وفي السطور القادمة، نعرض أهم ماجاءت به تلك المحاور.

المحور الأول : غياب ترتيب الأولويات

وفيه تسعى التقييمات إلى محاولة إزالة الغطاء عن الأسباب التي دفعت إلى إفشال تجربة الإخوان المسلمين وانحراف مسارها السياسي في السنوات القليلة الماضية والتي تتمثل في تركيز الجماعة على العمل المجتمعي، فيما افتقدت الجماعة إلى إقامة علاقات متوازنة مع الكيانات المجتمعية الأخرى.

كما غاب عنها وضع مشروع سياسي متكامل للتغيير وإدارة الدولة، كما تجاهلت الجماعة التحليل العلمي والأكاديمي للمعلومات الوفيرة التي كان باستطاعتها الاعتماد عليها.

المحور الثاني: العلاقة مع الدولة

تنتقل الأوراق التي قدمها المراجعون من نقد الرؤية والأولويات التي تبنتها الجماعة إلى نقد علاقة الجماعة بالنظام المصري خاصة في حقبة مبارك، خاصة نهج العمل في حدود المساحة التي حددتها الدولة للجماعة وعدم وجود مؤشرات أو رغبة طامحة لتجاوز تلك المساحة، بالإضافة إلى الرضا بكون جماعة الإخوان ملفًا أمنيًا وليس سياسيًا بالنسبة للدولة.

كما أن الجماعة قد أضاعت فرص الانفتاح والتمدد، ناهيك عن عدم سعي الجماعة إلى تمكين المنتسبين لها بالمؤسسات الرسمية حتى ينالوا خبرة العمل السياسي.

المحور الثالث: الممارسة الحزبية

ينتقل المراجعون إلى المحور الأبرز في التقييمات وهو تقييم الممارسة الحزبية للجماعة، يشير المراجعون إلى أن تجربة حزب الحرية والعدالة نتيجة تداخله مع كيان الجماعة قد جعل منه أسيرًا للجماعة ومنفذًا لتكليفات الجماعة بآليات الجماعة، مما فرغه من مضمونه الحزبي.

ومن هنا يرى القائمون على تلك الاوراق أن هناك عددًا من الأسباب التي دفعت إلى تفريغ الحزب من مضمونه تمثلت في التداخل الوظيفي والمقاصدي بين الحزبي والدعوي، وكذلك التقصير في إعداد الكوادر والقيادات الحزبية، بالإضافة إلى التقصير في إعداد رؤية لإدارة الدولة، وأخيرًا الوقوع في مصيدة الأخونة.

المحور الرابع: الموقف من الثورة

أحد أبرز المواقف الفارقة في تاريخ الجماعات هو مواقفها من الأحداث الكبرى مثل الثورات، فقد كان موقف جماعة الإخوان قبيل الثورة وأثناء بداياتها مثيرًا للدهشة والاستغراب، وهو ما دفع إلى مزيد من الجدل والامتعاض حتى بعد أن شاركوا فيها واغتنموا من ورائها السلطة.

هنا تشرح الأوراق المقدمة الأسباب التي دفعت إلى اتخاذ مثل هذا الموقف مؤكدة على أن الجماعة قبيل الثورة كانت تعاني من ضعف التصورات الفكرية والسياسية تجاه الثورة، وهو ما دفع أيضًا إلى اضطراب الخطاب الإعلامي ليس فقط قبل وأثناء الثورة، ولكن استمر لمرحلة ما بعد الثورة، فيما لم تستفد الجماعة من العناصر الثورية لديها وعملت على تمكين التنظيميين على حساب الثوريين، بالإضافة إلى غياب جاهزية الجماعة لإدارة مرحلة ما بعد الثورة، وأخيرًا عدم انتباهها إلى خطورة انفراد «العسكر» بوضع الأسس الحاكمة للمرحلة الانتقالية.


من يجري تلك المراجعات؟

وفيما يغلو النظام سطوته على الحياة السياسية في مصر، وتعج سجونه بنشطاء إسلاميين وغير إسلاميين، تعمق الصراع في الداخل الإخواني، فانعكس بدوره على التقييمات.

يأتي الحديث عن إجراء تقييمات ومراجعات للجماعة في ظل سياق ظرفي يكاد يعصف بوجودية وقوة الجماعة التاريخية، فمنذ إسقاط نظام مرسي في 2013، واعتقال قيادات الصف الأول والثاني والثالث، وتشهد الجماعة حالة من الانقسام الشديد بين «القيادات التاريخية» والعليا للجماعة، و«القيادات الشبابية» التي رأت في الأخرى سببًا فيما آلت إليه أوضاع الجماعة، وهنا بات في البيت الإخواني جناحان متصارعان جناح يتزعمه القائم بأعمال المرشد محمود عزت، والآخر كان يتزعمه الفقيد محمد كمال، فيما يتعرض البعض لوجود جناح ثالث مناوئ للآخرين ولسياستهما.

فالجناح التاريخي يميل إلى السياسة التقليدية في التعامل مع الدولة، فيما يميل تيار الشباب إلى النهج الثوري ورفض المصالحة مع النظام القائم.

وبالعودة إلى التقييمات المطروحة نجد أن الصراع والانقسام الدائر بين الجناحين قد طال تلك التقييمات، فقد صدرت من خلال بيان «محمد منتصر» المتحدث الرسمي باسم الجماعة بجناح محمد كمال «الجبهة الشبابية» والموقع الخاص بالجبهة، بينما سارع موقع «الجماعة التاريخية» – جبهة محمود عزت – بنفي أن يكون قد صدرت أي مراجعات أو أوراق لتقييمات من أي مؤسسة تابعة للجماعة.


على هامش المراجعات: لماذا لا يتراجع الإخوان؟

بالرغم من أن القراءة الأولى للمحاور التي أوردتها تقييمات الجماعة تعطي انطباعًا إيجابيًا عن نهج سياسي يجمع بين الإصلاح التنظيمي داخل الجماعة وتبني الخيار الثوري في مواجهة النظام، إلا أن تلك التقييمات قد شابها العديد الملاحظات نوردها كالآتي:

مراجعات جزئية

تتسم التقييمات التي قدمها المراجعون بميلها إلى التعبير عن تيار إصلاحي تنظيمي للخط السياسي للجماعة فقط، فالبرغم من الحديث عن قصور وضعف الحالة التنظيرية لدى الجماعة في الآونة الأخيرة، إلا أن التقييمات لا تعبر عن نية لإحداث مراجعة فكرية مفاهيمية أو مراجعة فقهية أو نظرية للمبادئ الحاكمة لأيديولوجية الجماعة.

بالرغم من تأكيد الأوراق المقدمة في ديباجتها على أنها تقييم لمواقف الجماعة خلال الأعوام فيما بعد ثورة الخامس والعشرين، إلا أنه يلاحظ غياب تقييم لمواقف الجماعة فيما بعد 30 يونيو ومرحلة العنف المصاحبة فيما بعد فض اعتصام رابعة، فيبدو أن هناك تحفظًا ملموسًا في التطرق إلى حقبة نظام ما بعد 30 يونيو والذي لم يذكر إلا مرة واحدة في الأوراق المطروحة تحت مسمى الانقلاب على الرئيس مرسي في حين تم التركيز على حقبة مبارك في أكثر من موضع.

ربما نموذج مراجعات الجماعة الإسلامية ليس ببعيد عن قيادات وشباب الجماعة، فالبرغم من حالة الجدل والتشكيك في مدى جدية تلك المراجعات، إلا أنها راعت أن تكون شاملة للناحية الفكرية والمنهجية التنظيمية، وهو ما يعكسه منهج الجماعة في التعامل مع الحياة السياسية فيما بعد 2011.

مظلومية لا تنتهي

تتنازع الرؤية الإخوانية في تقييماتها للسنوات الماضية ثلاثة فواعل أساسية مؤثرة على النهج والخط السياسي والتنظيمي للجماعة، وهي، الدولة والقوى المناوئة للجماعة -المعارضة العلمانية- والقيادات العليا للجماعة.

وبالرغم من محاولات الموازنة في التقييمات بين نسب الضرر التي تسبب فيها كل فاعل من تلك الفواعل، إلا أن الفواعل الخارجية مثل النظام والقوى العلمانية، وفقًا للجماعة تعتبر المتسبب الأكبر في إعوجاج الخط السياسي والتنظيمي للجماعة، وهو ما يفسر حالة المظلومية التي حملتها تلك التقييمات.

بل ذهب كاتبو التقييمات في محور الثورة إلى التاكيد على أن أحد العوامل المؤثرة في موقف الجماعة من الثورة إنما أتى من الخارج فيقول «وهكذا أسهم رفقاء الثورة في انتصار فكر التنظيم داخل الجماعة على فكر الثورة» مؤكدًا على أن أحد أسباب الانحراف الثوري الذي شهدته مصر مابعد 2011 إنما يعود لضعف التصورات الفكرية لدى الجماعة ورفقاء الثورة معًا.

مراجعات بلا توافق

لم تتطرق تلك الأوراق المنشورة إلى حالة الانقسام الحاد الذي تشهده الجماعة، ومدى تأثيره على مستقبل الجماعة وتيار الإسلام السياسي بشكل عام، كما أن مثل هذه التقييمات تثير العديد من التساؤلات أهمها مدى التوافق والتواصل بين القائمين عليها وقيادات الجماعة التاريخيين في السجن.

فعلى سبيل المثال كان أحد أبرز سمات مراجعات الجماعة الإسلامية أنها كانت جماعية، وتمت بوجود حالة من التوافقية بين القيادات التاريخية في السجن.

توقيت غير مناسب

فإن كانت الثورة قد قامت على الظلم فأكثر الفئات التي تعرضت للظلم هي جماعة الإخوان، إلا أننا كنا بصدد حالة نكران غريبة تمثلت في دعاوى واتهامات بالاستحواذ والاتهام بالأخونة.

الحديث عن جدوى أو فعالية تلك المراجعات لا يجب أن يغفل الإجابة عن عدد من الأسئلة المهمة وهي لماذا تتم هذه المراجعات؟

فإذا كانت تجرى لإعادة تصحيح مسار الجماعة في الداخل فإذن لا بد وأن تجرى بعيدًا عن حالة الانقسام والتشظي الذي تعيشه الجماعة.

أما إذا كان الهدف منه الدخول في حالة من التفاوض وفتح قنوات تواصل مع كيانات الدولة أو كيانات المجتمع المدني، فلابد من قراءة سياق الموقف الرسمي للتعامل مع الجماعة فهي المستفيد من حالة تشظي الجماعة، فعلى عكس مراجعات الجماعة الإسلامية والتي كانت برعاية الدولة مما أعطى لها قبولاً لدى مؤسسات الدولة، تأتي مراجعات الجماعة خارج زنازين السجون، وخارج أروقة الدولة وهو ما قد يعطي لها ميزة استقلالية عن سابقتها، ولكنها قد لا تحصل على الدعم الرسمي كما حصلت مراجعات الجماعة الإسلامية.

أما عن فتح قنوات تواصل مع كيانات المجتمع المدني، فإنه لا بد من مراعاة فقدان تلك الكيانات للثقة بأي مبادرات تخرج من الجماعة خاصة فيما بعد انتهازية الجماعة للسلطة بعد 2011، كما أن كيانات المجتمع المدني نفسها تعاني كما تعاني الجماعة من بطش النظام الذي نجح في تفكيك المجتمع المدني وتهمشيه بشكل أساسي.

وبالرغم من أن محاولة المراجعة جاءت متأخرة وفي سياق زمني يشهد فيه الإسلام السياسي بشكل عام تراجعًا على المستوى المحلي والدولي، إلا أنه مازال هناك حاجة ماسة لإنجازها وتطبيقها وفقًا للمقتضيات الظرفية المتغيرة.