كانت الشعوب تتوق لاستعادة حياتها القديمة، دون خريطة طريق واضحة، ووسط آمال الشعوب التي تنتظر العالم الجديد اجتمع المفاوضون في باريس؛ لإعادة رسم خريطة العالم، وتبادل الأقاليم مثل السجاد المستعمل في السوق، وبعد قرن، لا يزال الشرق الأوسط وأفريقيا والعالم يعاني من القرارات المتخذة عام 1919.
الكاتب الأمريكي «تيد فيدمر» في مقاله «1919: عام الانهيار»

المئوية 1919: حازم إمام وعام تقرير المصير

السلام الكاذب في فرساي

بعد أربعة أعوام من الحرب العظمى، وبعد أقل من 6 أشهر على تقسيم غنائم المنهزمين في «مؤتمر باريس»، التقى زعماء الحرب في قصر فرساي الفرنسي، في 28 يونيو/حزيران 1919؛ لصياغة مبادئ السلام العالمي، التي عُرفت باسم «معاهدة فرساي»، والتي افتتح مؤتمرها «أبو الانتصار»، الفرنسي جورج كليمنصو،بقوله:

من السهل شن حرب على إقامة سلام.

ليشهد العالم بزوغ صراع عالمي جديد، اندلع عام 1939، وتصاعد قوة عالمية استعمارية جديدة، يقودها صاحب المبادئ الأربعة عشر، وودرو ويلسون، الذي اصطدمت مبادئه برفض الكونجرس الأمريكي مرتين للمعاهدة. والذي رفض كذلك دخول الولايات المتحدة في عصبة الأمم، والتي كانت نقطة ويلسون الرابعة عشر.

وقد كُب الفشل على هذه المنظمة قبل تأسيسها بسبب طبيعة تكوينها، التي استثنت الدول المهزومة في الحرب، وعلى رأسها ألمانيا المُعاقبة دوليًا، والتي قادها انتقام النازية لتكون سببًا في اندلاع حرب عالمية ثانية.

وخارج قاعات فرساي، نشأت حركات الاستقلال في جميع أنحاء العالم، وعبرت رياح التغيير والتحرر حدود القارات والدول،وبدأت أشكال جديدة من الترفيه تهيمن على الاهتمامات، حيث نشطت الإذاعات، واستمرت (هوليوود) في النمو، وبدأت الرياضة تنمو كعمل تجاري كبير، وتضاعفت مبيعات السيارات، وازدهرت حلقات السباقات.

رياح التغيير في أوروبا

انتشرت حمّى الثورة والحرية في أجواء ذلك العام، وبدأت في 5 يناير/كانون الثاني 1919، حيث واجهت الحكومة الألمانية إضراب حوالي 100 ألف عامل وتظاهرهم في وسط برلين، تحت مُسمى «انتفاضة سبارتاكوس» التي قادها مجموعة من الثوريين الشيوعيين، الذين دعوا إلى تقاسم السلطة والثروة بالتساوي، متأثرين بالثورة الروسية، فقاموا بالاستيلاء على مباني الصحف والاتصالات، وتسليح المتظاهرين، فوظفت الحكومة الـ «Freikorps»، وهم جنود مرتزقة يمينيون يكرهون الشيوعية، فقضوا على الإضرابات واعتقلوا وأعدموا زعماء الثورة بوحشية.

لتنتهي الانتفاضة التي كان محكومًا عليها بالفشل منذ البداية؛لافتقار قادتها ومؤيديها إلى الوحدة والتدريب العسكري والمعدات، ولم يتبق منها إلا تصاعد معاداة الشيوعية، والمخاوف من ثورة بنكهة روسية.

ثم انتقلت رياح الثورة بين أنحاء أوروبا، ففي 21 يناير/كانون الثاني 1919، سجّل كمين للشرطة في سولوهدبج الأيرلندية بداية استقلال البلاد، حين شهد مقتل اثنين من رجال الشرطة البريطانية، في أول خطوة تصعيدية تنتج عن الصراع الذي نشأ في ديسمبر/كانون الأول 1918، عندما فاز حزب الجمهوريين الأيرلندي (Sinn Féin) بانتصار ساحق، لينهي سيطرة الحزب القومي الأيرلندي، ويُشكل برلمانًا خاليًا من السيطرة البريطانية.

ثم بدأت حرب استنزاف استمرت عامين تقريبًا، وانتهت بتشكيل دولة أيرلندية حرة في يوليو/تموز 1921، بعد كفاح مُشرّف للجنود والمدنيين على الرغم من التسليح الضعيف في مقابل قوة الإمبراطورية البريطانية، التي لم تحمِها القوانين العرفية، والمحاكمات العسكرية، والإعدامات، بل كانت جذوات نيران للثورة.

ومن أيرلندا انتقلت حمى الثورة إلى إستونيا التي أرادت التأكيد على استقلالها بعد انهيار الإمبراطورية الروسية عقب الحرب العالمية الأولى، فناضلت للمحافظة على الاستقلال، في ظل توسع السوفييت والألمان.

انتفاضات القارة الصفراء

ومن القارة العجوز انتقلت رياح التغيير إلى القارة الصفراء، ففي الأول من مارس/آذار 1919، نزل عشرات الآلاف من الكوريين إلى الشوارع؛ احتجاجًا على الحكم الاستعماري الياباني لشبه الجزيرة الآسيوية، لكن المستعمرين اليابانيين سحقوا هذا التمرد المدني، وخلّفوا آلاف الضحايا.

لاحقًا حاولت اليابان الضغط على كوريا للتخلي عن المطالبة بتعويضات لهؤلاء الضحايا، في مقابل 800 مليون دولار أمريكي كمنح وقروض، وذلك وفقًا لوثائق نشرتها الحكومة الكورية في يناير/كانون الثاني 2005؛ لتستنكر التغاضي عن الضحايا الذين عاملهم اليابانيون كعبيد، فأرغموهم على العمل في المصانع اليابانية، والقتال في الصفوف الأمامية للجيش الياباني، فضلًا عن قرابة 200 ألف امرأة أرغمن على تقديم المتعة الجنسية للقوات اليابانية.

وبعد أيام من احتلال اليونان لبلدة إزمير بتحريض من البريطانيين والفرنسيين، وصل مصطفى كمال أتاتورك في أواخر مايو 1919 إلى بلدة سامسون على الساحل الأناضولي، لتبدأ الشرارة الأولى لحرب الاستقلال التركية، التي نجح بفضلها أتاتورك في توحيد الأناضول، وقيادة مجموعة من الثوريين الأتراك؛ لتأسيس جمهورية تركية ذات سيادة داخل حدود جديدة، تضم تراقيا الشرقية، والأناضول، وتمتد إلى الأقاليم السورية الشمالية، بعد التخلص من احتلال يوناني لم يبرّره إلا وعد بريطاني بمكاسب إقليمية على حساب الدولة العثمانية.

ثم انتقلت رياح التحرر إلى أفغانستان، حين انتهت الحرب البريطانية الأفغانية الثالثة في 8 أغسطس/آب 1919، بتوقيع «معاهدة روالبندي»، والتي تخلصت فيها أفغانستان من الوصاية البريطانية.

الثورة المصرية

على هامش مؤتمر السلام بباريس بدأت فترة حاسمة من تاريخ مصر، حيث انتقلت إليها رياح التغيير وتقرير المصير، فارتفعت أصوات الاستقلال والدستور، وآمن الشعب بالحرية للدرجة التي جعلتهم يسمون مواليد العام باسمها، فكان منهم «يحيى الحرية إمام»، عميد العائلة الزملكاوية الشهيرة، والذي سُمي تيمنًا بثورة 1919.

ورغم حجم التضحيات التي بذلها المصريون تعثرت كل النتائج السياسية؛ فالجلاء لم يحدث، والدستور لم يُحترم، غير أن البيئة العامة كلها تغيرت في مصر، بداية بالمقابلة التي تمت بين 3 من أقطاب الحركة الوطنية آنذاك والمعتمد البريطاني السير وينجت، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، والتي تعد البذرة الأولى للثورة، حيث طالب سعد زغلول، وعلي شعراوي، وعبد العزيز فهمي بالاستقلال، واصطدم مطلبهم بالرفض البريطاني لسفر الوفد المصري إلى لندن، وقمع الشرارات الثورية، وبلغ الأمر ذروته باعتقال سعد وصحبه، ونفيهم إلى جزيرة مالطا.

اندلعت عاصفة جارفة حاشدة لم يُجدِ معها الترهيب والتخويف، بل قوبلا بطوفان مظاهرات جارف متتابع، بدأ في 9 مارس/آذار 1919، إلى أن تم الإفراج عن سعد وصاحبيه في إبريل/نيسان، ليسافر الوفد المصري إلى باريس حيث مؤتمر الصلح، الذي أوصد أبوابه، فشعرت بريطانيا بانتصارها؛ نظرًا لضعف التأييد الذي واجهه الوفد، لكنها لم تكن تعلم أنها بصدد حركة ثورية ستغير مجريات التاريخ المصري لأكثر من قرن قادم، تلك الثورة التي ألهمت غاندي، والتي لم تكن اجتهادية أو عشوائية لكنها كانت مخططة ومتقنة،قادها رجل عسكري متمرس، هو عبد الرحمن بك فهمي، الذي أدى تنسيقه مع سعد زغلول إلى ضبط مجريات الثورة، من خلال مكاتبات كثيرة بينهما.


اليوبيل الماسي 1944: ما قبل نهاية الدمار العالمي الثاني

إنزال النورماندي

في 6 يونيو/حزيران 1944، قاد الجنرال الأمريكي دوايت أيزنهاور -الذي سيصبح فيما بعد رئيسًا لبلاده- العملية الكودية «overlord»، وهي أكبر هجوم برمائي في التاريخ، حيث ضمّ قوات 14 دولة، وشمل إنزال أكثر من 150 ألف جندي، من مليون جندي تم حشدهم، وآلاف الطائرات والدبابات والمظليين، و5000 سفينة حربية، وحوالي 4200 قارب، في أكبر عملية إنزال جنود ومعدات بالتاريخ العسكري ضد الجيش النازي على شواطئ النورماندي الفرنسية، والتي مثّلت مرحلة مفصلية في معارك الحرب العالمية الثانية.

إذ تعد بداية العد العكسي للحرب؛ لتبدأ نهاية الحرب بانتصار الحلفاء وهزيمة محور الوفاق بقيادة هتلر، الذي أسعده «إنزال النورماندي»،فقال:

لكنه خسر الحرب بعد 11 شهرًا فقط.

انتفاضة وارسو

في الأول من أغسطس/آب 1944، ومع دقات الخامسة مساءً، نظّم حوالي 53 ألفًا من سكان مدينة وارسو البولندية أنفسهم في ساحة المدينة؛ لمقاومة احتلال ألمانيا النازية لبلادهم، وسط توقّعهم بتدخل الروس لمساعدتهم على تحرير بلادهم ودحر النازية عدو روسيا، لكن أملهم خاب.

إذ لم يتدخل «الجيش الأحمر» لأكثر من 3 شهور؛ لرفض الزعيم الروسي جوزيف ستالين المشاركة؛ خوفًا من أن تكبر شوكة المعارضة بعد الحرب، لتُطالب بالاستقلال وتؤسس حكومة مناهضة للشيوعية. كذلك رفضت بريطانيا نقل القوات البولندية التي رغبت في الانضمام إلى بلادها للكفاح مع المواطنين. لذا قمع النازيون الانتفاضة بدموية ووحشية، وقاموا باعتقال عشرات الآلاف من البولنديين، وقتلوا نحو 200 ألف أغلبهم من المدنيين.

جدير بالذكر أن أحد الصحافيين البولنديين أثار جدلًا واسعًا، بإعادة تقييم تلك الفترة من خلال كتابه (جنون 1944)، الذي وصف فيه الانتفاضة بأنها «تضحية عظيمة عديمة الجدوى».


اليوبيل الذهبي 1969: عام «الفتنمة»

«فتنمة» العار الأمريكي

بعدما تسببت سياسات الرئيس الأمريكي «ليندون جونسون» في استنزاف قوى البلاد المادية والبشرية في فيتنام، وبعد 6 أشهر من تولي خلفه الرئيس نيكسون لمنصبه-اندلعت مظاهرات في جميع أنحاء البلاد، في ظل وجود نصف مليون جندي أمريكي في جنوب فيتنام، وهو ما دفع نيكسون للبحث عن مخرج بإعلان خطته التي سُميت «مبدأ نيكسون»، وعُرفت فيما بعد بسياسة «الفتنمة» (Vietnamization).

اعتمد نيكسون هذه الخطة في 25 يوليو/تموز 1969؛ وذلك لإنهاء التدخل الأمريكي في حرب فيتنام، وذلك ب تصدير الحرب للفيتناميين، فتتولى فيتنام الجنوبية المحمية من الولايات المتحدة مسئوليتها في مواجهة فيتنام الشمالية التي كان يرعاها حينئذ من الاتحاد السوفييتي والصين، وذلك بتجهيز وتدريب القوات؛ لبناء جيش قتالي قادر على الدفاع، مع سحب جميع القوات القتالية الأمريكية تدريجيًا، بعد نزاع ألحق العار بالأمريكان، وأودى بحياة أكثر من 58 ألف جندي أمريكي بأيدي ثوار «الفيتكونج» في أدغال فيتنام، فضلًا عن ازدياد تعاطي المخدرات -وبخاصة الماريجوانا والهيروين- بين القوات الأمريكية، حيث اتُّهم 1084 جنديًا باستخدام الهيروين أو حيازته، وبقى بعد ذلك مبدأ نيكسون، وما زال يُطبّق، من خلال الدعم الأمريكي لأنظمة تحمي مصالحها.

ثورة «الفاتح الجذّافي»

كانت ليبيا تحت حكم الملك السنوسي، حتى الأول من سبتمبر/أيلول 1969، حينما ظهر معمر القذافي، الذي أعلن في هذا اليوم ما سُمي «ثورة الفاتح من سبتمبر»، والتي تغيرت معها ليبيا، بعد أن تحولت إلى جمهورية حكمها القذافي لقرابة 42 عامًا، بدأها كقائد لحركة الضباط الوحدويين في الجيش الليبي، التي سيطرت على السلطة، بينما كان الملك السنوسي فى رحلة علاجية بتركيا.

تغير بعدها تاريخ ليبيا، حيث تبنى رئيسها نظامًا غريبًا، لا هو جمهوري ولا هو ملكي،يقوم على الإسلام والاشتراكية والإنسانية والتقدم، بحسب وجهة نظره التي دونها في «الكتاب الأخضر» الذي صار دستورًا للبلاد؛ إذ لم يكن لها دستور طوال «عصر الجذّافي»، حتى أطاحت الثورة به في 15 فبراير/شباط 2011، ثم قتله متظاهرون فى مدينة سرت يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام.


اليوبيل الفضي 1994: «عام السلام» والتحرر من العنصرية

السلام الأردني الإسرائيلي

وُقعت في معبر وادي عربة، يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 1994، معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية؛ بناءً على إعلان واشنطن في 25 يوليو/تموز 1994؛ وذلك لإنهاء حالة العداء بين البلدين، وتحقيق سلام دائم في الشرق الأوسط.

وهي الاتفاقية التي فاجأت الأردنيين باحتلال الإسرائيليين لمنطقتي (الباقورة) و(الغمر)، واللتين نصت الاتفاقية حق الإسرائيليين في التصرف في أراضيهما لمدة 25 عامًا، ويتجدد الحق تلقائيًا في حال لم تعلن الحكومة الأردنية عن رغبتها في استعادتهما قبل عام من انتهاء المدة. وقبل أيام من تجديد تأجيرهما أعلن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2018، إلغاء ملحقي تأجير (الباقورة) و(الغمر) من اتفاقية السلام، وهو ما شكل مفاجأة غير متوقعة، دفعت نتنياهو، رئيس وزراء الإسرائيليين، إلى التفاوض مع الأردن لتمديد المدة؛ لكونهما منطقتين حدوديتين بمقتضى اتفاقية السلام.

أول انتخابات ديموقراطية في جنوب أفريقيا

أخيرًا يمكن التغلب على الإنجليز.

رفض نيلسون مانديلا خروجًا من سجنه مشروطًا بتخلّيه عن الكفاح المسلّح، وفي عام 1990 أُطلق سراحه، بعد أكثر من 27 عامًا في السجن، بتهم الأعمال التخريبية، والانقلاب، والعنف.

وعقب خروجه بدأ مانديلا المفاوضات مع رئيس جنوب أفريقيا «فريدريك دي كليرك»؛ لإنهاء التمييز العنصري، فتم منحهما جائزة نوبل للسلام لعام 1993 بشكل مشترك؛لعملهما من أجل الإنهاء السلمي لنظام الفصل العنصري، وإرساء أسس الديمقراطية.

وفي عام 1994، أجرت جنوب أفريقيا أول انتخابات ديمقراطية، وانتُخب مانديلا رئيسًا للبلاد، كأول رئيس ديمقراطي منتخب، ليصبح أول رئيس من العرق الأسود، وينقل البلاد من حكم الأقلية والتمييز العنصري إلى حكم الأغلبية السوداء.