وُلد الفيلسوف «ريتشارد رورتي» عام 1931 لعائلة تتبنى أفكار اليسار الإصلاحي المناهض للشيوعية المتأثّر بالنزعة الوطنية الأمريكية والفلسفة البراجماتية. تلقى تعليمه بجامعة شيكاجو حيث تتلمذ على يد الفلاسفة رودولف كارناب وتشارلز هارتشورن وريتشارد ماكيون وبول فايس.

قام رورتي بتطوير نوع مميز وخلافي من الفلسفة البراجماتية، حيث قام بدمج الإنجازات الهامة لجون ديوي مع أفكار هيجل وداروين[1]، وقد جمع رورتي بين براجماتية/ذرائعية ديوي التي تقول بأن المعرفة أداة للعمل ووسيلة للتجربة وبين فلسفة فيتجنشتاين اللغوية،وبالتحديد أفكار فيتجنشتاين عن أن المعنى هو منتج اجتماعي-لغوي، وعن أن الجُمل لا تتصل بالعالم من خلال تطابقها معه (أي أن الجمل مجرد انعكاس للعالم الطبيعي) كما في التصور السائد مستهلًا بذلك نقده للابستمولوجيا (نظرية المعرفة) الغربية.

تحول رورتي مع بداية الثمانينيات أكثر نحو التقاليد الفينومينولوجية وما بعد البنيوية، أو ما يُوصف بالتقليد الفلسفي «القاري»، متأثرًا بأفكار هايدجر حول الوجود والميتافيزيقا، ومساءلات نيتشه بشأن الابستمولوجيا (المعرفة)، وكذلك بأفكار جاك دريدا حول اللغة.

طبيعة الأخلاق

يستعيد رورتي المبدأ النفعي الكلاسيكي الذي ينص على أن معيار تقييم الأخلاق هو «تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر قدر من الناس»، وهو يتضمن القول بأن الإلزام الأخلاقي الوحيد لدينا هو مساعدة بعضنا البعض على تلبية رغباتنا، حيث يمكن أن نحقق أكبر قدر من السعادة.

يُحيل رورتي إلى الفيسلوف الإسباني جورج سانتيانا الذي يعتقد أن المثل الأخلاقية ليست سوى منتجات للخيال البشري، يجب ألا تكون لها مرجعية سوى الكائن البشري نفسه، فليست الأخلاق هي مرجعية الأخلاق، لأن الأخلاق ليست نتاج عالم مُفارق يتجاوزنا، فهي ليست أزلية أو ذات طبيعة خالدة وسابقة على الوجود الطبيعي والتاريخي، وإنما هي من إنتاجنا أنفسنا، وهي في خدمتنا، وتصبح غير ذات قيمة إن كانت لها غاية أخرى تتجاوز الوجود الإنساني المرتبط بالطبيعة والتاريخ.

حاولت الفلسفة الغربية في الجزء الأكبر من تاريخها التماس شيء أهم وأكبر من الإنسان، وذلك بالبحث عن أسس مطلقة ومتعالية على تاريخه والطبيعة المحيطة به، بحيث يقوم عليها حسه الوجودي ومُثله الأخلاقية، وبالبحث عن قواعد معرفية مطلقة بغرض تأكيد حسه ومُثله تلك. وهكذا انشغلت الميتافيزيقا الغربية بأسئلة تشبه تلك التي قد ينشغل بها أحدهم لحظة وقوعه في الحب، أي «لماذا أحب هذا الإنسان دون غيره؟»، أو «ما الأسس التي يقوم عليها حبي له؟»، و«هل ذلك الإنسان هو أفضل من علي الوقوع في حبه؟». بينما يتوجب عليه في  رأي رورتي أن يتوقف عن مثل تلك الأسئلة، لأنها تعني تطلعه إلى أساس يقوم عليه الحب، أكبر من ذلك المتمثل في تحقّق مشاعر الحب نفسها داخله.

من وجهة نظر رورتية، فإنني أقع في حب «س» من الأشخاص، ببساطة لأنني أحبه وليس عليّ الرجوع إلى أساس آخر سوى نفسي لتبرير ذلك الحب، أو للكشف عن ماهيته، وليس الرجوع إلى المثال الأفلاطوني المتعالي الذي من شأنه أن يرشدني إلى ماهية للحب أسمى مما أشعر به داخل نفسي. صحيح أنني قد أتوقف عن حب س يومًا ما، وأقع في حب آخر، إلا أنني لم أحب الأول ولا الثاني نتيجة لأن هنالك مرجعية مجاوزة لي، لتاريخي والطبيعة المحيطة بي كإنسان، تُلزمني بذلك.

فلا وجود لتلك المرجعية الماورائية التي تلزمني بحب إنسان دون آخر، أو بتفضيل سلوك عن آخر. تلك المرجعية التي تلهمني تصورًا يتجاوز تصوراتي وحالاتي الذهنية والجسدية التي أختبرها كإنسان غير موجودة، وحتى إن وُجدت تلك المرجعية، فإنها لن تكون في النهاية سوى نفسي، بشقيها الواعي واللاواعي. فعالم التجربة الإنسانية «يقع في الطبيعة والتاريخ، وعلى هذا النحو، يجب استيعابها (أي التجربة الإنسانية) مثلها مثل جميع المضامين الإنسانية الأخرى، أي كعناصر للعالم المبني اجتماعيًا»[2].

يتبني رورتي موقفًا نسبويًا تجاه الأخلاق،وهو موقف لا يتمسك بمبادئ متعالية أو بمصدر أخلاقي متعالٍ (إله، عقل … إلخ) يملي علينا قوانين أزلية، ويمنعنا مناقشة أو قبول اقتراح أخلاقي مخالف يثبت أفضلية على مستوى الفعل، أو انسجامًا مع الحرية الفردية، كما يثبت فاعلية أكبر في تحسين الحياة البشرية.

يعتبر رورتي النسبوية الأخلاقية كالأصولية الأخلاقية، أي منتجات للخيال البشري، فليست إحداهما موافقة للحقيقة أكثر من الأخرى، إلا أن النسبوية تفتح الطريق أمام ما قد يسهِم في تعزيز السعادة، أو أمام ما قد يُحوّل انطباعات البشر حول بعض أشكال الحياة والسلوك الفردي أو الجماعي نحو مزيد من التعاطف والتسامح والإنصاف؛ على عكس الأصولية التي تقوم على أساس صلاحية مجموعة من القواعد الخالدة لتقييم السلوك البشري في كل العصور، وتهمل واقعة أن قواعدها تلك كانت ذات يوم مُجرد مقترحات أخرى لتحسين السلوك البشري.

لا تُوجد إذًا رغبات شريرة في ذاتها بقدر ما تُوجد بعض الرغبات التي قد ينبغي ضبطها ذاتيًا، وفقًا لما يقتضيه تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. والنسبوية الحقة ليست تلك التي تعتقد بتكافؤ الأخلاق، أي بأن كل قناعة أخلاقية جيدة بقدر أي قناعة أخرى[3]، فهي على العكس تعتقد التمايز الأخلاقي، أي أفضلية قناعة على أخرى ضمن سياقات معينة، إلا أنها لا تعتنق قناعة بدعوى أن مصدرها أكبر من أن تتم مُساءلته بشأن القواعد التي يُمليها دون مناقشة،كما يملي تصوره الخاص للطبيعة البشرية بصفته تصورًا مُوحدًا.

تعتنق النسبوية القناعات الأخلاقية بصفتها في المقام الأول مُجرد مقترحات (مُعرضة للقبول أو الرفض) لضمان الحرية، وتحسين الحياة البشرية التي غايتها الإنسان لا أي شيء آخر، بينما مصدر شرعيتها الوحيد هو أن تثبت عبر التجربة أنها كفء لذلك، وليس أن تفترض قبليًا صلاحيتها استنادًا لسلطة مصدرها طبيعة بشرية ثابتة.

مشكلة الأصولية أنها تمنع الحوار الجدلي بشأن أشكال الحياة والسلوك. يشترك رورتي مع هابرماس كما يشير إليجا دان في التأكيد على «لا عصمة» الفلسفة التي تتبنى الموقف النسبوي[4]،حيث إن تلك الفلسفة تضمن عبر ذلك فرصة النقاش الحر داخل المجال العام، في مقابل جمود خطاب ومعايير المؤسسات الدينية المستندة إلى وحي أو نص أزلي ومحسوم المعايير، وكذلك الفلسفات الثيولوجية الآخذة بنمط البحث عن الأسس الأخلاقية والمعرفية المُطلقة والنهائية لتقييم السلوك البشري، بداية من أفلاطون الباحث عن “المُثل” العليا المُبرِرة لظلال السلوك الإنساني.

لكن لا يعني ذلك بالنسبة لرورتي منع المتدينين من الإدلاء بآرائهم وقناعاتهم الأخلاقية في المجال العام، فبعضها قد يكون صالحًا، والبعض الآخر ليس كذلك، مثل أية قناعات أخرى، لكن المهم ألا يَتكلوا في تبرير تلك القناعات على سلطة النص الديني المُجردة، أو الحكمة الإلهية الخفية السابقة على العقل والتجربة الإنسانية، وإنما عبر تعريضها للاختبار السياسي، وتقديم مبررات واقعية للدفاع عنها من قبل معتنقيها، تُبرِز منافع هذا القناعة أو تلك للفرد والمجتمع، أو تبرز مساوئ ذلك السلوك الذي تنبذه (على المستوى العملي). يتوافق ذلك مع مبدأ رورتي البراجماتي في اختبار الاعتقادات عبر «أنماط الفعل» الناتجة عنها، وليس عبر دقة تعبيرها عن العالم وما نتخيل أنه الحقيقة المطلقة[5].

اقتراح لأخلاق اليوم

ما هي أخلاق اليوم التي يقترحها رورتي؟ إنها أخلاق تجد جذورها في التقليد النفعي، أي أخلاق معيارها الأول هو تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، فهي أخلاق من يضع في الاعتبار حق الآخرين في تحقيق رغباتهم، حينما يُفكر في تحقيق رغباته.

هنا، يستدل رورتي بالفيلسوف الأسترالي بيتر سنجر الذي يقترح توسيع نطاق «نحن»، بمعنى آخر توسيع نطاق من نفكر فيهم كأنهم جزء منا. بحيث يؤدي اتباع تلك الطريقة إلى أن يفكر الرجال بالنساء، والمغايرين بالمثليين جنسيًا، بحيث يتفهمون، ويستوعبون اختياراتهم/هن وسلوكهم/هن بطريقة أفضل. فكل رغبة لها الحق في التحقق طالما أنها لا تمس بمساعي الآخرين في تحقيق رغباتهم؛ وطالما أن رغبات الطرفين هي رغبات خاصة، تهدف لإشباع الذات عبر تطويرها وتحققها، ولا تهدف إلى مجرد السيطرة على الآخرين.

ينسجم ذلك بصورة عامة مع النسبوية الأخلاقية التي لا تُوكّل فردًا أو جماعة تمتلك قناعة أخلاقية ما سلطة فرضها على غير المقتنعين أو الراضين بها، ففي المُحصلة يتفق رورتي مع مِل وجيمس وهابرماس على أن ذلك هو جوهر الديمقراطية المتمثل في نفي ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة التي يكون لها الحق بالتالي في قمع رغبات وتصورات الآخرين، وإنما يكون لكل تصور أو رغبة أو مصلحة الحق بالتعبير عن نفسها، وللناس حق النقاش والجدال بشأنها، واختبارها عبر التطبيق، بحيث يتواصلون ويصلون إما إلى استبدالها تمامًا، أو مقاربة حل وسط بشأنها.

الفرق بين الأصولية والنسبوية إذًا هو أن الأولى تمثل «صعودًا رأسيًا تجاه شيء (مُفارق وغير واقعي) أعظم من الإنسان»، في حين تمثل الثانية «تقدمًا أفقيًا تجاه رخاء واقعي وتعاوني مشترك»[6]، لا يتكل على الاعتقاد بقوة خارقة (عناية إلهية أو كونية ما) تقف إلى جانبنا، وإنما تعتمد فقط على توسيع إمكانيات تعاوننا المشترك، بهدف واقعي هو تحسين حيواتنا، وليس بهدف إفناء ذواتنا في تحقيق أوامر مثال أو كائن متعالٍ، والاعتقاد فيه كغاية تعطلنا عن غايتنا الواقعية، والمتمثلة في مجتمع أفضل.

يُعيد رورتي تعريف الروحانية بحيث لا تعبر عن تطلع إلى الإلهي/المطلق/غير المُدرك، ولكن لتُعبر عن التفكير والتطلع إلى الإمكانات المتجددة لحياة البشر التي يمكن السعي إليها ومقاربتها عمليًا، تلك الإمكانات التي تُحرك آمالهم بحياة أكثر سعادة من الحياة في الوقت الحاضر. هكذا يصير الإله من وجهة نظر علمانية غاية أكثر منه موضوعًا وموجودًا واقعيًا، ففي الثانية، تتقيد الحياة البشرية بالقيود التي فرضتها المؤسسة الدينية التي تستمد شرعيتها في المقام الأول من ذلك الوجود، بينما في الأولى يصير الإله دالًا على كل ما يمثل خيرًا متحققًا للحياة والحرية البشرية، وتنتفي قيوده المُحتملة على تبني قناعات أخلاقية جديدة، حيث يمكن الاعتقاد بأنه سيقبلها ما دامت في صالح تحسين الحياة، وتعزيز التسامح والرفاهية البشرية.

يُعبر إليجا دان عن تلك النزعة، حين يقرأ الإنجيل ليس بصفته نصًا معصومًا، أو مجرد إملاء لحقائق أخلاقية أو تاريخية أو حتى علمية، وإنما كنص للحكمة، يخاطب الوضع الإنساني، ويغذي خياله، مُحفزًا إياه لتخيل إمكانيات جديدة للحياة البشرية[7]. صحيح أن عواقب اختفاء العزاء الديني ضد الموت، والمتمثل في خلود آخر، تظل غير مضمونة، وهي لا توفر بالإضافة إلى ذلك مكانة مميزة للبشر الذين يصيرون إذا ما نفينا الحياة الأخرى كائنات وحيوانات مُعرضة كغيرها للفناء الأبدي؛ إلا أنه يمكن تخطي ذلك في رأي رورتي باستلهام تذكير نيتشه حول كم كان البشر «حيوانات ذكية، ذكية لأنهم، على عكس الحيوانات الأخرى، تعلموا كيفية التعاون مع بعضهم البعض من أجل تلبية رغبات بعضهم البعض بشكل أفضل».

إننا أيضًا كما يضيف رورتي «اكتسبنا رغبات جديدة، وأصبحنا مختلفين تمامًا عن أسلافنا من الحيوانات، لأن ذكاءنا لم يُمكننا من ضبط الوسائل لتحقيق الغايات فحسب، بل مكننا من تخيل غايات جديدة، والحلم بمثل عليا جديدة»[8]، مثّل الدين ذات يوم أبرز تجليات تلك الأحلام.

المراجع
  1. ريتشارد رورتي، موسوعة ستانفورد للفلسفة، ترجمة محمد جديدي
  2. Tom Berger, The Sacred Canopy, 88,89.
  3. AN ethics for today, Richard Rorty, 11.
  4. Philosophy, religion, and religious belief after Rorty, Elijah Dann.
  5. Philosophy, religion, and religious belief after Rorty, Elijah Dann.
  6. AN ethics for today, Richard Rorty, 17.
  7. Philosophy, religion, and religious belief after Rorty, Elijah Dann.
  8. AN ethics for today, Richard Rorty, 13.