في محاولة لتأسيس مشروعية العنف الثوري لشعب سلبت أرضه وطورد وحوصر عالميًا، وجرى تشويه نضاله، قدّم المؤرخ المصري محمود حسن إسماعيل كتابه «الحركات السرية في الإسلام»، حيث يحاول الكاتب تحليل أفكار وممارسات بعض الحركات التي ظهرت خلال حكم بني أمية وبعض الدول الإسلامية، واتخذت من العمل السري المنظم وسيلة لإحداث تغييرات اجتماعية.

صدرت الطبعة الأولى للكتاب على إثر عملية ميونخ التي نفّذتها منظمة أيلول الأسود عام 1972 بهدف الإفراج عن 236 معتقلًا في السجون الإسرائيلية، والتي انتهت بمقتل 11 رياضيًا إسرائيليًا و5 من منفذي العملية الفلسطينيين وشرطي وطيار مروحية ألمانييْن، ورأى فيها محمود إسماعيل حافزًا لإصدار الكتاب بعد وصف العملية عالميًا بأنها عمل إرهابي، على عكس رؤيته التي نظرت إليها بوصفها عملًا فدائيًا عظيمًا.

يشير محمود حسن إسماعيل إلى أن إصداره للكتاب كان له هدفان:

الأول نضالي، عن طريق العودة إلى التراث الثوري الإسلامي، مع ذكر بعض قوى المعارضة في الإسلام من خلال وصف للظروف التي واكبتها اجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا وسياسيًا، وكيف اتجهوا بعد عدة مراحل إلى العمل السري المنظّم تمهيدًا لثورات اجتماعية.

أما الثاني، فهو هدم الرؤى التقليدية التي حولت التاريخ إلى أساطير وغيبيات وكرامات ومعجزات ومآثر ومناقب، على حد وصفه.

خرج محمود إسماعيل خارج الإطار التقليدي في تقييمه للخوارج، المرجئة، المعتزلة، القرامطة؛ ويمكننا القول إنه حاول إخضاع تلك الفترة إلى نوع من المراجعة، وفقًا للتصنيفات السياسية المتداولة، لتكون أقرب في التناول وأسهل في الإيضاح، فيضع الخوارج تحت بند أحزاب اليسار، والمرجئة مع أحزاب الوسط التي لم تتسم بالثورية في بداية الأمر، ثم مرت بمراحل عدة حتى وصلت إلى العمل السري، والمعتزلة كوسط بين السلطة والمعارضة، ثم القرامطة بوصفهم أصحاب تجربة رائدة في الاشتراكية.


الخوارج: الحركات الثورية اليسارية

قد يشوب البدايات شيء من انعدام النضج قبل أن يتشكّل تدريجيًا مع تراكم الخبرات ومرور الزمن. مرّ الخوارج بشيء من هذا، فقد اتخذ حراكهم شكل العنف الثوري في بدايته، ثم اتجهوا في النهاية إلى الدعوة السرية المنظمة. انتمى الخوارج في معظمهم إلى عرب الشمال، وخاصة قبيلة تميم التي هجرت البادية واستقرت في مصري الكوفة والبصرة. صنفهم محمود إسماعيل كحزب سياسي ثوري يتبنى مبدأ العدالة الاجتماعية رغم مسوحه الدينية وفقًا لما رآه في تاريخهم منذ بدايته حتى أواخر العصر الأموي من مبادئ تميل إلى التطرف والثورية المتصاعدة.

اتجهت أولى ثوراتهم ضد عثمان بن عفان (رضي الله عنه) عندما آلت إمرة الكثير من الأمصار إلى رجال بني أمية أقارب عثمان؛ الأمر الذي أدى إلى تشكل طبقة أرستقراطية في الأمصار المفتوحة التي أعادت الصراع السابق بين بني أمية وبني هاشم، كما رأى محمود إسماعيل. ثم ثاروا ضد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إذ إنّهم رفضوا مبدأ التحكيم من أساسه، حيث وجدوا فيه تشكيكًا في شرعية وعدالة موقف علي بن أبي طالب، وقد رأوا استمرار القتال في معركة صفين رافضين استغلال جيش بني أمية المصاحف برفعها على أسنة الرماح، ومن ثم فقد خرجوا على علي بن أبى طالب لرفضه استمرار القتال.

واستمرت ثوراتهم بعد مقتل علي حتى وجدوا أنفسهم في مواجهة بني أمية ببطشهم الشديد، فأرسلت الجيوش لتتقفّى آثارهم حتى وصلوا في أواخر القرن الأول الهجري إلى حالة من الضعف استحال معها استمرارهم على نفس النهج، فسلكوا مسلك العمل السري والدعوة المستترة، ونقلوا ميادينهم إلى الأطراف بعيدًا عن قبضة الدولة.

ولمسايرة الظرف الجديد، مروا بمراجعات وتحولات فكرية عدة نراها في العزوف عن آرائهم المتطرفة كمبدأ تكفير المخالفين، وقبلوا معاشرتهم والزاوج منهم. كذلك، نرى اتخاذهم بمبدأ التقية، وهو إظهار غير ما يبطنون اتقاء للأخطار ودرءًا للمتاعب على عكس السابق عندما تشبثوا قديمًا بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنْ أدى بهم إلى الموت.

وقد وصفهم محمود إسماعيل بالديمقراطية نظرًا لموقفهم في مسألة الإمامة؛ فقد نادوا بأحقية الإمامة لكل مسلم دون النظر إلى أصله أو عصبيته، على عكس ما كان شائعًا من قصرها على قريش من قبل السنة، وجعلها حكرًا على آل البيت من قبل الشيعة.

نجحت إحدى فرق الخوارج، وهم الإباضية، في الوصول بدعوتهم إلى عُمان، وتمكّنوا من الزحف نحو اليمن، ثم تحرّكوا إلى الحجاز، وخطب أبو حمزة الخارجي على منبر رسول الله خطبة شهيرة، إلا أن جيوش الأمويين تحركت إليهم من الشام، وأرجعتهم إلى حدود عُمان فقط. ثم نزحت بعض الجماعات الإباضية من عمان إلى شمال أفريقيا، وساهموا في نشر الإسلام بين السكان هناك، وسيطروا بالمذهب الصفري على بلاد المغرب إلى أن هزمهم العباسيون. ولا تزال جماعات من الإباضية تقيم في تنزانيا إلى الآن.


المرجئة: من المعتقدات التبريرية إلى الأيديولوجيات الثورية

سميت فرقة المرجئة بهذا الاسم لموقفها المحايد في أواخر عصر عثمان، وعدم المساهمة في الثورة عليه والعزوف عن الاشتراك في أحداث ما بعد مقتل عثمان للأخذ بثأره، فقد آثروا التريث الحذر انتظارًا لما سيسفر عنه الصراع من نتائج، فأطلق عليهم نافع بن الأزرق (أحد أشد زعماء الخوارج تطرفًا) المرجئة.

افتقر المرجئة إلى وجود زعامة قوية تستطيع أن تنافس على الصدارة بين اليمين الأموي واليسار المعتدل والمتطرف، لذا لم يحفلوا كثيرًا بتغيير الوضع القائم بقدر اهتمامهم بالحفاظ على مصالحهم كعادة أحزاب الوسط. وفي بداية ثورات اليسار على اليمين أبدوا تعاطفًا مع اليمين دون انضمام صريح. وبعد انتصار اليمين انحازوا له وبرّروا وجوده ولم يشاركوا اليسار معارضته في فترة اتسموا فيها بالتبريرية.

وقد نعم شيوخ المرجئة في تلك الفترة بالإقامة في البصرة دون خطر، على عكس باقي الحركات التي لاقت ألوان الأذى، وكان لرأي المرجئة في التوقف عن إصدار الأحكام وإرجاء الأمر لله أثر مقبول في تلك الفترة، نظرًا للويلات التى لاقاها المجتمع إزاء مرحلة المعارك المحتدمة صفين والجمل والنخيلة، كما رأوا فيه مهدئاً لغلواء المذاهب المتطرفة التي لم تلاقِ القبول.

ومع اشتداد ضربات اليسار، واستشعار المرجئة تحول الموقف لصالح اليسار، أظهروا تعاطفًا مع التيارات الثورية الجديدة، فتحوّلوا من التبريرية إلى دعوات الإصلاح بمطالبتهم بالعمل بالقرآن والسنة، والأخذ بمبدأ الشورى، وتبنيهم لمبادئ القدرية في الحرية الإنسانية.

ومع نهاية القرن الأول الهجري تخلّوا عن معتقداتهم التبريرية السابقة التي تفصل العمل عن الإيمان، وشاركوا أحزاب المعارضة القول بأن الإمامة لا تثبت إلا باجماع الأمة؛ الأمر الذي يقضي بإسقاط شرعية بني أمية لعدم الإجماع عليهم. ومن ثمّ، أصبحت المرجئة ذات قوة كبيرة بعد انضمام الموالي إليهم وإلى عقائدهم، فانحازوا بمن تبعهم إلى ثورة عبدالرحمن بن الأشعث التي تمكن الحجاج من إخمادها.

وبنهاية القرن الثاني للهجرة انتشر الإرجاء في الأقاليم الشرقية من دولة بني أمية، فكان عدد من انضموا إلى جيش ابن سريج الذي ثار على بني أمية بخراسان يصل لسبعين ألفًا، رافعين مطالب إقامة العدل ونشر التسامح وتطبيق الشريعة. لذلك لم يتورّع الثوار عن وقف القتال حينما أكد الخليفة الاستجابة لمطالبهم، ولم يتقاعسوا لما أدركوا تنكره لوعوده، فكانت ثورتهم عاقلة لا تهدف إلى سفك الدماء دون الوصول لحل. وبالفعل حقّقت هذه الثورة الكثير من أهدافها، فنعلم أن الحكومة الأموية بعد مقتل الحارث اضطرّت إلى التنازل عن كثير من الإجراءات المالية الجائرة، واتبعت سياسة أكثر لينًا واعتدالًا.


المعتزلة: الوسط بين السلطة والمعارضة

ظهر المعتزلة في البصرة عام 100هـ كفرقة كلامية لها آراؤها المميزة على يد واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، فعُرفوا بالواصلية أو المعتزلة، ويرى البغدادي أن تسميتهم بالمعتزلة جاءت نتيجة اعتزالهم لإجماع الأمة.

ويؤكد فكر المعتزلة السياسي طابعهم في الاعتدال المستنير، فما قاله واصل بن عطاء في أمر الإمامة مصداقًا لتلك الحقيقة، إذ وافق الخوارج في مبدأ اختيار الأمة لإمامها من قريش أو من غيرها، كما اقترب من الشيعة حين قال بأن وجود إمام مسلم واجب على أهل كل عصر. ويبدو أن عدالتهم السياسية لاقت إعجابًا كبيرًا بين فئة الموالي، وهم المسلمون من غير العرب، إذ إن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد مؤسسي المذهب من الموالي، والجاحظ العالم المعتزلي الأشهر كان من الموالي، لذلك فقد اعتنق كثير من الموالي هذا المذهب.

وأما عن عداء المعتزلة لبني أمية، فمرجعه أنهم في نظرهم جبّارون مغتصبون للخلافة فارضون لها بحد السيف، فينقل محمود إسماعيل عن أحمد أمين أن شيوخ المعتزلة جميعًا كانوا مؤيدين لوجهة نظر علي في حربه لمعاوية، بل رمى بعض شيوخ المعتزلة معاوية بالكفر. وأما عن الخروج على الحاكم، فقد رأوا بخلاف الشيعة والخوارج أن هناك شروطًا لهذا الخروج:

1. أن يكون الخارجون جماعة متماسكة.

2. يكون الغالب عندهم أن عددهم كافٍ ضد مخالفيهم.

3. أن يكون على رأس الخروج إمام عادل.

هذه الشروط «العاقلة» في الإعداد لثورة هي ما جعلهم يلتمسون الأعذار لتوقف الصحابة والتابعين وأهل العدل عن مناوءة بني أمية. وقد أسفرت دعوتهم عن تكوين جماعات متماسكة كأقليات في بقاع مختلفة من الأرض، لكنهم لم يوفّقوا في تأسيس دولة تدين بالاعتزال شأن الفرق الأخرى.


القرامطة: تجربة اشتراكية رائدة

وفقًا لابن الجوزي، فهم أصناف من أهل السواد (شمال العراق) والأكراد وجفاة الأعاجم، فضلًا عن جفاة العرب، ولفظة جفاة تعني أنهم من الأسافل أو العامة، ولهذا اللفظ دلالة على الطبقة الاجتماعية التي انبثقت منها تلك الحركة، فهم الفلاحون وفقراء الزنج والهنود والأكراد.

أجمعت المؤلفات السنية والشيعية على إبطالهم للتكاليف الشرعية، ويرى محمود إسماعيل أن هذا الإجماع مدعاة للشك أكثر منه قرينة على اليقين، بل يؤكّد محمود إسماعيل في المقابل التزامهم الديني وعدم إنقاصهم شيئًا من العبادات، ويصفهم بالإيمان بالله ونصرة دينه والثورة من أجل الإصلاح.

وكان الظرف الاجتماعي المصاحب لنشأتهم هو الإقطاع العسكري من قبل الترك، حيث تعرّض الأهالي للسلب والنهب والابتزاز من قبل جند الأتراك، وضعفت السلطة السياسية وعمت الفوضى بلاد العراق مما هيّأ لهم أن يكونوا نواة لدعوة جديدة لمواجهة الوضع القائم، ولم تتسم تلك الدعوة بالقومية، فقد احتوت كل طبقات المستضعفين على اختلاف أعراقهم.

بدأت حركة القرامطة مرتبطة بالحركة الإسماعيلية في البداية، وكان أول رجالها هو حمدان بن الأشعث الملقّب بـ «قرمط»، الذي انفصل عن الإسماعيلية بعدما نشر الدعوة في العراق والبحرين واستشعر قوتها وقدرتها على الانفصال، وشكّل القرامطة شوكة في جنبي الخلافتين العباسية والفاطمية ما يزيد على القرن ونصف.

اعتمد القرامطة في حراكهم وثورتهم على الأساتذة، وهم رؤساء الحرف، فيما يشبه فكرة النقابات حاليًا، واستخدموهم لبث الدعوة بين الجماهير العمّالية. ومع تفاقم الأوضاع، تهيّأ المجتمع لقبول الدعوة القرمطية، والتفوا حولها، وعملوا على إسقاط السلطة وإقامة مجتمع جديد.

وعندما آلت إليهم مقاليد السلطة اجتهد حمدان بن الأشعث لتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية، فنتج عن ذلك نظام الألفة: «يتنازل كل فرد عما يملك للجماعة، ويحصل فقط على قدر ما يفيده ويبذله في خدمة ونصرة الجماعة». وظلّ القرامطة لقرن ونصف القرن، حركة ودولة قوية ذات شأن في العراق والبحرين.