ربما لم تطرق كلمة «روهنجيا» الأسماع العربية قبل أقل من عقد، فالمشكلة على كل حال تغلي على بعد عشرات الآلاف من الأميال من العالم العربي الغارق أصلًا في مشاكله، بيد أن عنفًا مستفحلًا منذ سنوات عدة جعل من أزمة الروهنجيا مادة شبه يومية للأخبار.

وخلف كلمة «روهنجيا»، يكمن تاريخ طويل، امتزجت عبره النزعات المذهبية والوطنية الفاشية وعسكرة السياسة، معطوفة على تراث ممتد من التشكك والارتياب المتبادل بين التيار الرئيسي من القومية البورمية، التي تحتل البوذية مكانة مركزية فيها، ومسلمي الروهنجيا، الذين عوملوا كجسم زائد مطلوب التخلص من وجوده.


الجغرافيا

ميانمار أو بورما هي إحدى دول الإقليم المعروف باسم الهند الصينية، أحد مسارح الصراع الاستعماري البريطاني الفرنسي في القرن التاسع عشر، ثم صراع النفوذ الإقليمي الصيني الهندي منذ حقبة التحرر أواسط القرن العشرين، ويسكنها نحو 54 مليون نسمة، منهم نحو 5% من المسلمين،موزعين على ولايات رانجون وماندلاي وميكتيلا وكاين داينج وآراكان، وليسوا كلهم من الروهنجيا.

يتركز الروهنجيا في شريط ساحلي ضيق يقع غربي البلاد، يتنازعون أمر تسميته مع السلطات، فبينما يسميه الروهنجيا (آراكان) تصر السلطات على تسميته (راخين)، فيما هو معزل مغلق، يُمنع عليهم مغادرته إلى أي نقطة أخرى داخل ميانمار دون تصريح حكومي يصدر بشق الأنفس، وبالرشوة في معظم الأحيان، ولا يتمتع بالحد الأدنى من الخدمات ووسائل الإعاشة.

يتركز الروهنجيا في شريط ساحلي ضيق يقع غربي البلاد، هو معزل مغلق، يُمنع عليهم مغادرته إلى أي نقطة أخرى داخل ميانمار دون تصريح.

يبلغ سكان آراكان 4 ملايين نسمة، وفي الوقت الحالي يعيش نحو 1.1 مليون من الروهنجيا في آراكان، منهم 150 ألفًا يعيشون في مخيمات داخل البلاد، وإن كان العدد في تناقص مستمر نتيجة سياسات الإبادة والطرد، وهم مجموعة إثنية من بين 135 مجموعة إثنية أخرى في البلاد، وإن كانوا لا يتمتعون بحقوق المجموعات الأخرى، فقد جُردوا من الجنسية الميانمارية، وحقوق المواطنة تاليًا، منذ العام 1982.

عندما وفد مسلمو الروهنجيا من بنجلاديش تزاوجوا وامتزجوا بمجموعات محلية من المسلمين مثل الكامان، لكن هذا، وبدلًا من أن يؤدي إلى استيعابهم في القومية البورمية الحديثة كمجموعة مستقرة منذ نحو قرنين، أدى إلى تغريب وإقصاء المجموعات المسلمة المحلية وإطلاق لفظ (البنغال) على مسلمي آراكان بلا تمييز، إذ النظام العسكري الحاكم والمتشددين البوذيين والمتعصبين القوميين يرفضون تسمية (الروهينجا).


التاريخ

ظهر الإسلام في ميانمار منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وفي بعض المراجع منذ القرن التاسع، واعتنقته قلة من سكان البلاد الأصليين، بجانب عدد قليل من التجار العرب والفرس والأتراك الذين استقروا في ولاية راخين، التي كانت مملكة آراكان المستقلة وقتها، قبل أن تتعرض للغزو على يد البورميين البوذيين عام 1784.

غير أنه على مدى نحو قرن وربع القرن من الاحتلال البريطاني، بين عامي 1824 و1948،وفدت موجات من المهاجرين الروهنجيا من الهند وما تُعرف الآن ببنجلاديش، واستوطنوا شريط آراكان الساحلي الضيق طلبًا للرزق، وعملت الأغلبية منهم كفلاحين مأجورين.

إبان الاحتلال البريطاني وفدت موجات من المهاجرين الروهنجيا من الهند وما تُعرف الآن ببنجلاديش، واستوطنوا شريط آراكان الساحلي الضيق طلبًا للرزق.

غير أن ميانمار أو بورما في ذلك الوقت، وبنجلاديش أيضًا، كانت جزءًا عضويًا من مستعمرة الهند البريطانية ككتلة واحدة، ومن ثم عُد وفود الروهنجيا إلى آراكان بمثابة هجرة داخلية، وإن لم تذب الفوارق بينهم وبين السكان الأصليين، الذين اعتبروا، ولا يزالون، الروهنجيا من أبناء القومية البنغالية.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية والقرار البريطاني التاريخي بالانسحاب من مستعمرات شرق الكرة الأرضية (مستعمرات شرق السويس)، نالت ميانمار استقلالها في العام 1948، نفس العام الذي استقلت فيه الهند ومستعمرات آسيوية أخرى، وفيه أيضًا صيغ قانون المواطنة الموحد.

استبعد القانون الروهنجيا من حقوق المواطنة والجنسية الممنوحة لـ 135 جماعة إثنية أخرى، غير أن القانون انطوى على استثناء ضيق، فمنح بطاقات هوية لمن كانت عائلاتهم وفدت واستقرت في ميانمار قبل جيلين على الأقل من إعلان الاستقلال.

عُدل القانون في أعقاب انقلاب عسكري عام 1962، وألغى بطاقات الهوية الوطنية لمن كان حصل عليها من الروهنجيا، ثم منحهم جميعًا بطاقات هوية باعتبارهم (أجانب)، حارمًا إياهم من معظم حقوق التعليم والعلاج والعمل، وفي 1982 صدر تعديل آخر يتيح للروهنجي التمتع بوضع المجنس، شريطة أن تكون عائلته استقرت في ميانمار قبل الاحتلال البريطاني، وأن يتحدث إحدى اللهجات المحلية بطلاقة، ولم يكن هذان الشرطان ينطبقان على الأغلبية الساحقة من الروهنجيا.


الرواية الرسمية

يرى النظام الحاكم في ميانمار ذو الصبغة العسكرية الزاعقة أن مسلمي الروهنجيا هم من بقايا العهد الاستعماري البريطاني، ولا ينسى المتشددون البوذيون أن السلطات البريطانية عاملت الوافدين البنغال المسلمين في بورما بشيء من المحاباة على حساب البوذيين المتحالفين مع الإمبراطورية اليابانية وقتها.

تلقي الحكومة الميانمارية مسئولية العنف والتصعيد في آراكان على عاتق جيش إنقاذ روهنجيا آراكان، وهو عبارة عن مجموعة فقيرة الإعداد والتسليح، أعلنت مسئوليتها عن بعض الهجمات التي استهدفت مراكز للشرطة والجيش الميانماريين، ردًا على القمع الوحشي الذي يتعرض له الروهنجيا.

تتهم الحكومة جيش الإنقاذ ومسلمي الروهنجيا بشكل عام أيضًا بارتكاب أعمال عنف وإرهاب ضد سكان ولاية آراكان من غير المسلمين؛ أي البوذيين والهندوس بالأساس، وتستعين بشهادة بعضهم ممن فروا من نقاط العنف على تعرضهم للعنف من جانب مجموعات من المسلمين.

تتهم الحكومة جيش الإنقاذ ومسلمي الروهنجيا بشكل عام أيضًا بارتكاب أعمال عنف وإرهاب ضد سكان ولاية آراكان من غير المسلمين.

بيد أن معظم شهادات الهندوس تُتلى أمام الصحفيين الأجانب في حضور ضباط الشرطة العسكرية الميانمارية، الأمر الذي يقيد ألسنتهم ويلحق بعض الشوائب برواياتهم، خاصة وأن بعض الهندوس ممن فروا إلى بنجلاديش يقدمون شهادات أكثر تحررًا عن الفظائع التي ترتكبها السلطات بحق مسلمي الروهنجيا، بل وهندوس آراكان الذين قد يبدون بعض التعاطف مع هؤلاء.

وتزعم الحكومة أن جيش إنقاذ روهنجيا أراكان يسيطر على قرى المسلمين في الولاية، ويجبر كل عائلة على تقديم مقاتلين، ويضرم النار في بيوت العائلات التي ترفض إلحاق أبنائها بصفوفه.

صحفيون قلائل ممن استطاعوا الوصول إلى قرى المسلمين في آراكان رأوا روايات الحكومة الميانمارية مطعمة بالكثير من التلفيق،ورووا ما عاينوه بأنفسهم من إضرام مجموعات من الشباب البوذيين النار في مساكن المسلمين، وتمزيقهم بالسيوف ومناجل الحصاد، والشاهد هنا أن كل ذلك –حسب اعتراف أحد المهاجمين البوذيين- يتم بضوء أخضر ومساعدة من قوات الأمن والجيش.


السياسة والعنف واللجوء

بعد استقلال ميانمار عام 1948،بدأت نزعات انفصالية تظهر لدى مجموعات من المسلمين الروهنجيا، الذين طالبوا باكستان –وكانت مع بنجلاديش تشكل دولة واحدة آنذاك- بضم ولاية آراكان إلى أراضيها، وبعد رفض باكستان حمل بعضهم السلاح في وجه الدولة مطالبين بالحكم الذاتي، الأمر الذي ساهم في تعزيز رؤية القوميين البورميين للروهينجا باعتبارهم دخلاء أجانب يبغون سلخ ولاية آراكان عن أراضي الدولة.

منذ العام 1978، بدأت السلطات العسكرية في ميانمار حملات قمع وتضييق ضد مسلمي الروهنجيا استمرت بشكل شبه متواصل حتى أوائل عقد التسعينيات، دفعت بعشرات الآلاف منهم للنزوح خارج ولاية آراكان والاستقرار في مناطق أخرى داخل ميانمار، فيما فر عشرات آلاف آخرون خارج البلاد، لجأت أغلبيتهم الساحقة إلى بنجلاديش عبر شريط الحدود الضيق شمالي آراكان.

في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2005، أُجريت أول انتخابات برلمانية ديمقراطية في ميانمار منذ الانقلاب العسكري عام 1962، ومع أن الروهنجيا مُنعوا من التصويت، كونهم (أجانب) بحسب الرواية الرسمية، إلا أن مجموعات إثنية ميانمارية مسلمة أخرى سُمح لها بالتصويت، وترشح 28 مسلمًا من أحزاب صغيرة، لم يفز أي منهم بمقعد.

صوّت معظم الناخبين من أبناء الأقلية المسلمة في البلاد لصالح حزب المعارضة الرئيسي –آنذاك- الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، معلقين آمالاً كبرى على تاريخه النضالي والقيم الديمقراطية التعددية التي يروج لها، ونال الحزب كذلك أغلبية أصوات الميانماريين على اختلاف خلفياتهم الإثنية والدينية، وتبوأت زعيمة الحزب أونج سان سو تشي منصب المستشارية.

لكن سرعان ما تكشف مدى عجز المؤسسات المدنية عن مقارعة النفوذ الكاسح للمؤسسة العسكرية، فالجيش الميانماري يملك حق شغل ربع مقاعد البرلمان، والدستور ينص على أن القوانين والتعديلات لا تمر سوى بموافقة 75%+1 من النواب، ويعني ذلك –عمليًا- أن ثلاثة أرباع مقاعد البرلمان تبدو بلا قيمة أمام صوت واحد من نواب الجيش.

عام 2012 وقع تهجير 140 ألفًا من مسلمي الروهنجيا من سيتوي عاصمة ولاية أراكان وضواحيها، بعد نشوب أعمال عنف من جانب متشددين بوذيين بمساندة من وحدات الشرطة والجيش، إثر اتهام ثلاثة مسلمين بخطف واغتصاب امرأة بوذية.

فجرت تلك الواقعة بالذات موجة من العنف شبه المتواصل ضد مسلمي الروهنجيا، يغذيه مزيج من السعار المنفلت لدى المتشددين البوذيين، الذين وقعوا أسرى خطاب مذهبي عجيب يروج لتوجس من تمدد إسلامي يجعل من ميانمار ماليزيا أخرى، ونزعة وطنية فاشية لدى القوميين البورميين، هي بنت النظام العسكري المؤبد منذ أكثر من نصف قرن، فلا يلبث أن يهدأ العنف حتى تشتعل جذوته من جديد.

وفي 25 أغسطس/آب الماضي، تعرضت مراكز للشرطة في ولاية أراكان لهجمات نفذها جيش إنقاذ روهنجيا أراكان، أسفرت عن مصرع 30 شخصًا، بينهم ضباط بالشرطة، وأطلقت موجة غير مسبوقة من العنف، تلعب فيها قوات الجيش والشرطة الدور الرئيسي هذه المرة.


الحل النهائي

بعد انتخابات 2005 الديمقراطية، سرعان ما تكشف مدى عجز المؤسسات المدنية عن مقارعة النفوذ الكاسح للمؤسسة العسكرية.

هذه المرة أيضًا بدا أن السلطات حسمت أمرها في اتجاه ما يشبه (الحل النهائي) النازي للمشكلة، وهو إفراغ ولاية أراكان تمامًا من المسلمين الروهنجيا، تشي بذلك الأعداد المفزعة للاجئين الفارين إلى بنجلاديش وحدها منذ بداية الأزمة الحالية في 25 أغسطس/آب، والتي تجاوزت نصف المليون لاجئ؛ أي ما يقرب من نصف عدد الروهنجيا في ميانمار، كما أُخليت 235 قرية من قرى الروهنجيا، منها 62 قرية أُحرقت بالكامل.

الأمر الآخر الجدير بالملاحظة هو أن عدد اللاجئين الروهنجيا إلى بنجلاديش منذ الأزمة الأخيرة قد رفع العدد الإجمالي للاجئين الروهنجيا في بنجلاديش إلى 800-900 ألف لاجئ؛ أي أن عدد الفارين خلال الأزمة الاخيرة وحدها يفوق عدد اللاجئين في بنجلاديش الذين فروا على مدى سنوات.

إن إقليم أراكان موطن ثروات معدنية وفيرة، وهو غني بالغاز نوعًا ما، ومن ثم فهو موطن لمصالح وشراكات اقتصادية صينية وهندية مع النظام العسكري الحاكم، وهذا الأمر ينبئ أن موجة الهوس البوذي والقومي الأخيرة ليست وليدة غيرة أصيلة على الدين أو الوطن.

ثمة ما يشي بأن الإقليم يجري إعداده لمشروع اقتصادي ضخم، قائم على استثمارات أجنبية كبيرة الحجم بالشراكة مع المؤسسات الاقتصادية الوطنية الرئيسية، الخاضعة لتحكم الطغمة العسكرية المهيمنة، ومشروع كهذا لا يمكن إقامته في قلب معقل لأقلية دينية وقومية محل شك قديم ومستمر.