هاجرت القبائل اليمينة إلى بلاد الشام وشمال إفريقيا بعد انهيار سد مأرب عام 150 ق.م، كما أن القبائل القحطانية ببطونها وفروعها هاجرت إلى مصر واستقرت حول وادي النيل والدلتا ولم تكن الهجرات هامشية، بل كانت هجرات متتابعة، أضفت على مصر الوجه العربي، قبل فتح عمرو بن العاص لها[1].

بهذه الهجرات لعبت القبائل اليمنية دورًا بارزًا في مجال الفتح الإسلامي لمصر، فكانت عماد جيش عمرو بن العاص الفاتح، كما أنها أسهمت في بناء مدينة الفسطاط العريقة.

عمرو بن العاص والجنود العربية اليمنية

بعد فتح عمرو بن العاص بيت المقدس وفرار قائدها أريطيون إلى مصر، وإعلان بطريركها «صفرونيوس» الاستسلام، عرض على العرب أن يأتي «عمر بن الخطاب» ويقرر بنفسه شروط تسليمها، وبالفعل خرج «عمر بن الخطاب» من المدينة والتقى بجيشه في الجابية بالقرب من دمشق ثم سار إلى بيت المقدس سنة 636م – 15 هجريًا، ثم عاد بيت المقدس سالمًا إلى يد المسلمين.

أدرك وقتها عمرو بن العاص ضرورة فتح مصر، فاقترح على عمر أن يرسله إلى مصر، يقول «ألفريد بتلر» وهو مُؤرِّخ بريطاني، وباحث في التاريخ المصري في كتابه «فتح العرب لمصر»: «ولعل عمر قد أفضى إليه برأيه في فتح مصر منذ كانا في بيت المقدس، ولكن الخليفة رأى أن وقت ذلك الفتح لم يحِن بعد. فلما ظهر العرب وانتهت الحرب أو كادت، عاد عمرو إلى عرض رأيه» ثم بعد ثلاث سنوات، خرج «عمرو بن العاص» ومعه أربعة آلاف جندي مقاتل من فلسطين إلى مصر، كما جاء في كتاب فتوح مصر والمغرب لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، وهو مؤرخ مصري من علماء الحديث.

ويروي «الكندي» وهو من أشهر فلاسفة العرب في كتابه «الولاة والقضاة»، أن نواة جيش عمرو بن العاص كانوا من القبائل اليمنية بخاصة قبيلة «غاسق»، وغاسق هي بطن من بطون قلبية عك وعك من قبيلة الأزد اليمينية.

ويقول «بتلر» قبل المضي في الحديث عن خطوات الفتح الإسلامي لمصر يجدر بنا الإجابة على سؤال مهم هو كيف نفسر حشد سائر جيش عمر بن العاص من قبيلة عك اليمنية؟ فيفسر لنا «ابن هشام» في كتابه «التاريخ السياسي للدولة العربية»، أن العديد من الهجرات العربية من جنوب الجزيرة قد نزحت نحو الشمال حتى وصلت أرض الشام، واستقرت فيها وعرفوا باسم قحطان، ويحدثنا ابن هشام عن أصل العرب، فإنهم من ولد إسماعيل وقحطان وأن عك صارت في دار اليمن بسبب التزاوج من الأشعريين وإقامتهم بينهم، وذكر أن الأشعريين يتصل نسبهم إلى «يعرب بن قحطان» وقد خرجت هذه القبيلة كما ذكرنا سلفًا بعد انهيار سد مأرب.

أجمعت المصادر التاريخية على ذِكر أسماء بعض القبائل اليمنية في هذا الجيش الفاتح بقيادة «عمرو بن العاص» وأن معظم هؤلاء الجنود كانوا من أصل يمني، ولم يكد يصل «عمرو بن العاص» إلى العريش في ذي الحجة سنة 18 هجريًا حتى هرعت إليه قبائل من «لخم وراشدة» وقد توطنت هذه القبائل اليمنية قبل الإسلام في هذا الموضع وقد أدى ذلك إلى سهولة فتح هذه المدينة رغم تحصينها الشديد.

من المشاركين مع عمرو بن العاص أثناء دخوله فسطاط؛ نذكر بعض الأسماء: عبد الله بن كليب ومالك بن عمر الأجدع وغيرهم من القبائل اليمنية، كما ذكرهم دكتور «السيد طه أبو سيدره» أستاذ في كلية الآداب بقنا جامعة أسيوط، في كتابه «القبائل اليمنية في مصر منذ الفتح العربي حتى نهاية العصر الأموي».

حصار بابليون

بعد أن وصل «عمرو بن العاص» القاهرة وعسكر عند حصن بابليون الذي احتمى به الروم آنذاك، وشد الحصار عليهم طلب من أمير المؤمنين «عمر بن الخطاب» أن يرسل له مدد من الجنود على جزأين، كان أساس المد الأول والثاني القبائل اليمنية التي استقرت في الشام قبل الفتوحات الإسلامية.

ذكر «ابن الحكم» نقلًا عن أحد رواته: «أنه سمع رجلًا من قبيلة لخم اليمنية جاء إلى عمرو بن العاص وطلب أن يندب معه بعض الفرسان، فأخرج معه 500 فارس، فساروا من وراء الحصن وكان الروم واشتركوا في قِتال حامية «عين شمس» وكانت مدينة متصلة بمصر القديمة»، وتختلف الروايات عن موقعة «عين شمس»، فيما يذهب فريق إلى أن معظم حاميتها كانوا من القبط ومن أهل النوبة وأنهم هم الذين قاتلوا العرب حتى أشرفوا على الهلكة، ولكنهم سلموا أخيرًا، والبعض الآخر يرجح أنهم من الروم.

كما أخبرنا «ابن الحكم» أن سبب تقرب «عمرو بن العاص» ووقوفه تحت راية «بلي» وهي من القبائل اليمنية التي تنسب إلى قبيلة الأزد، بأن والدته كانت من ذات القبيلة، وكانت قبيلة «بلي» إحدى البطون التي استقرت بالشام وشاركت بشكل جلي وواضح في فتح مصر مع عمر بن العاص، ويقال إنه دخل معه من تلك القبيلة سبعون رجلًا.

وفدت تباعًا كلٌّ من قبائل همدان وبلي والصدف في الإمدادات التي طلبها عمرو بن العاص من أمير المؤمنين، ويقول المقريزي: «فوصلوا إليه حتى بلغ عدد الجيش إلى اثني عشر ألفًا»، وشاركت أيضًا قبيلة «تجيب» وهي إحدى البطون اليمنية في محاصرة حصن «بابليون»، أطلقوا على هذا الحصار اسم قصر الشمع، كما قال الكندي.

فتح الدلتا والصعيد

يذكر لنا المستشرق البريطاني «ستالني لان بولي» في كتابه «History of Egypt in the middle ages» أن حصار العرب للإسكندرية طال بسبب مناعتها، فظل الحصار قرابة أربعة عشر شهرًا، واضطر عمرو أن يترك جنوده أمامها وأن يأخذ معه سرية ويفتح بعض مدن الصعيد، وذكر «بتلر» أن عمرو بن العاص أثناء حصاره الإسكندرية سار على رأس فرقة من جيشه نحو الدلتا ليشعرها بوجوده ومر بعدة مدن مثل: البحيرة ودمنهور وقرية سخا وطوخ، والعديد من مدن وقرى الدلتا.

ويكمل «بتلر» أن صعيد مصر آنذاك انقسم إلى قسمين، قسم أيد مساعدة الروم، وقسم يساعد العرب، وبعد الكثير من الترقب والانتظار استطاع «عمرو بن العاص» عقد صلح مع المقوقس رئيس القبط آنذاك، وأرسل فرقة من الجنود إلى الفيوم ليفتحها هي الأخرى، وكان على رأس هذه الفرقة القائد «ربيعة بن حبيش الصدفي» والصدف هي بطن من بطون قبيلة حضرموت اليمنية.

أما بلاد الصعيد الأوسط والأقصى، فقد سار إليها «عبد الله بن سعد بن أبي سرح» وكان عدة جيشه نحو عشرين ألفًا، وأجمعت الروايات أن غالبية الجنود كانوا من القبائل اليمنية التي بدأت في النزوح تباعًا إلى مصر في أعقاب فتح الإسكندرية.

القبائل اليمنية وتخطيط مدينة الفسطاط

روى «ابن عبد الحكم» عن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها المتفرد، أراد أن يسكن بها، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في ذلك، ورد عليه عمر، هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال: «نعم» يا أمير المؤمنين، فكتب له عمر: أني لا أحب أن أنزل منزلًا يحول الماء بيني وبين المسلمين سواء شتاء أو صيف، فتحول عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط، ذكر السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة» أن رغبة عمر في ألا يحول بينه وبين المسلمين ماء، لم يكن مقصورًا على مصر فقط، ولكن في كل البلاد التي فتحها العرب.  

مِنْ ثَمَّ قصد عمرو بن العاص الفسطاط شمال حصن بابليون، وقام بتأسيس المدينة لتكون مركز البلاد وإدارة الإمارة الإسلامية في مصر، كما وضح المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار .

اختطَ عمرو بن العاص الجامع العتيق، ثم اختطت القبائل العربية من حوله، وكانت تلك القبائل من القبائل اليمنية وقبائل عرب الجنوب، ونظرًا لأن الفكر القبلي كان موجودًا قبل الإسلام، وكانت كل قبيلة تتكون من عشائر وبطون يربطها النسب وصلة الدم، فعندما اختطت القبائل العربية اليمنية بوجه الخصوص، ومعها أقلية من عرب الشمال في فسطاط فإنهم تنافسوا في تخطيطها بحسب القبائل وبطونها، كما روى السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة».

لذلك اختار عمرو بن العاص أربعة من شيوخ اليمن يمثلون القبائل للفصل في ذلك التنافس وتنظيم التخطيط، وكان من بينهم: «معاوية بن حديج النجيبي»، «شريك بن سمي الغطيفي»، «عمرو بن محزم الخولاني»، «جبريل بن ناشرة المعافري»، فكانوا هم من فصلوا بين القبائل وكان ذلك عام 21 هجريًا، كما وضح المؤرخ العربي بن دقماق، في كتابه «الانتصار لواسطة عقد الأمصار».

بينما ينفي «بتلر» قيام اليمنيين باختطاط الفسطاط، وأن من قام بذلك هم الصحابة الذين شاركوا في الفتح، مثل: «الزبير بن العوام»، و«سعد بن أبي الوقاص»، و«المقداد بن أبي الأسود»، وغيرهم، وروى «البلاذري» في كتابه «فتوح البلدان»، ولكن نجد أن السيوطي ينسب اختطاط الفسطاط إلى الأقباط؛ وذلك لدرايتهم بفن العمارة، وردًا على ذلك ذكر «ديتلف نيلسن» في كتابه «التاريخ العربي القديم» الذي تُرجم إلى العربية على يد «فؤاد حسين علي» و«زكي محمد حسن»، أن مسألة تخطيط الفسطاط ومسألة الفصل بين القبائل لم تكن من التعقيد بحيث يحتاج إلى معماريين مهرة، فعرب الجنوب من أهل اليمن كانوا أهل حضارة وقد اشتهروا بفنهم الراقي في البناء والعمارة قبل ظهور الإسلام بقرون طويلة؛ حيث وصف الرحالة الغربيون آثار بلاد اليمن قبل الإسلام ومعابدها وما نُحتت بهم من نقوش أثرية وكتابات برهنت على تفوقهم في الفنون والعمارة.

ثم توالت فترات الحكم الإسلامي، واستمرت عديد القبائل في المشاركة في التخطيط الفسطاط والهجرة إلى مصر، ولكن مع انتهاء العصر الفاطمي وتولى المماليك الحكم، توقفت الهجرات العربية، بل إنه حدث فرار من مصر؛ بسبب اضطهاد المماليك للعناصر العربية.

المراجع
  1. [1] نقلًا عن أستاذ مجاهد الجندي، أستاذ الحضارة والتاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر، في بحث نُشره له في مجلة التواصل العلمية.