«لكن ربيب موائد القمار وبلطجي النساء كان يحلم باسترداد هيبته، يحلم بأيام أبيه إسماعيل الذي كانت كلمته لا ترد، والذي كان حاكم مصر حقًا، ها هو في قصر عابدين يحلم ببعث سطوة أسرة محمد علي من جديد، كان قد تولى العرش في أثناء الحرب، والسلطة كلها في يد المندوب السامي البريطاني، وظل ينتظر في صبر أن تضع الحرب أوزارها لكي يبني ملكه القوي، ويفرض كلمته، لكن الحرب انتهت لتشب الثورة عاصفة مدمرة لا تُبقي ولا تذر»
الكاتب والمؤرخ صلاح عيسى متحدثًا عن الملك فؤاد

في مطلع القرن العشرين، كانت طاولة قمار السياسة المصرية جاهزة لاستقبال لعبة جديدة، صنعتها الصدفة والضمير، الصدفة التي وضعت «أحمد فؤاد» سلطانًا على مصر، والضمير الذي جعل سعد زغلول في سن الستين يقود ثورة، ولا يبني مقبرة.

ذلك الصراع بوجهه الخارجي كانت محركاته دوافع سياسية ومصالح متعارضة، وداخليًا كانت له أبعاد أخرى تؤجِّجه، فالرجلان اختلفا في كل شيء، ولم يجمعهما سوى حب القِمَار الذي جعل كلٌّ منهما يُتقن استخدام أوراقه، الباشا سليل أسرة محمد علي التي بسطت سلطانها على مصر أكثر من قرن، والزعيم فلاح مصري ترأّس وزارتها، ووقف في مكتب سلطانها ندًا له، يرفض ويندد ويشير إليه لما يتوجب عليه فعله.

مثّل صراع السلطة بين فؤاد وسعد صراعًا طبقيًا بين العائلة المالكة في مصر وعبيد إحسانها شعب مصر، الذي انحاز بسائر طوائفه خلف زعيمه يهتف له: «سعد سعد.. يحيا سعد».

سكون أصوات المدافع

في نهاية عام 1917م، توفي السلطان «حسين كامل»، والذي عُين حاكمًا على مصر، بعد أن خلع الإنجليز سلفه «عباس حلمي الثاني» بسبب مناهضته لسياساتهم ودعمه الحركة الوطنية أحيانًا، وشهد عصر «حسين» نيله لقب سلطان بدلًا من خديوي، للإعلان بذلك عن انتهاء تبعة مصر للسلطان العثماني، وليصبح حاكم مصري سلطانًا بحد ذاته.

وبتعيين حسين كامل عاد العرش ليكون في أبناء «الخديوي إسماعيل»، وفي تلك الأثناء كان فؤاد الابن الأصغر للخديوي إسماعيل مبتعدًا عن أي دور في الحياة السياسية منذ رفض تعيينه ملكًا على «ألبانيا» 1913م، وكان مفترضًا أن يتولّى العرش بعد السلطان حسين الأمير «كمال الدين» الذي أعلن زهده عن الحُكم فجاءت مصر لفؤاد دون أن يسعى إليها.

أما سعد فلم يكن ابنًا لخديوي، أو لقصر، بل كان ابنًا لقرية «إبيانة»، فلاح مصري سلك طريقه في التعليم من الأزهر، تردَّد على جماعة الأفغاني ومحمد عبده، تحمَّس وخرج ثائرًا وراء عرابي، وانتهى به الحال ليكون من فلول الثورة الذين نُكل بهم وذاقوا مرارة السجن، فخرج مرددًا جملة أستاذه محمد عبده: «لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائس ومسوس» واتجه إلى دراسة القانون، وتعرَّف في صالون «الأميرة نازلي»[1]على شريكة عمره «صفية» كريمة رئيس الوزراء «مصطفى فهمي باشا» ليعرف سعد طريقه إلى الحياة السياسية في مصر بالمحسوبية.

ترددت مواقفه بين رجلٍ للإنجليز يساعدهم في تمرير قرارات، أو يدافع عنها، ويبكي صديقه اللورد كرومر عند مغادرته مصر، أو ممثل لأحلام طبقته، كما عُرف عنه شغفه الهائل بالقمار الذي كاد يُنهي حياته مفلسًا، لولا أن سكنت أصوات مدافع الحرب العالمية الأولى، وبزغ فجر مؤتمر الصلح.

الطريق إلى 8 مارس

كانت مبادئ الرئيس الأمريكي «ودرو ويلسون» الأربعة عشر لدخول الحرب، تنطوي على حق كل دولة مهما صغر حجمها، في أن تحدد مصيرها، مما دعا الحالمين الساعين للتحرر للسفر إلى باريس، وطلب حقوق بلادهم في مؤتمر الصلح، وعلى هامش المؤتمر جرى الاحتكاك الأول بين فؤاد وسعد.

طمح السلطان فؤاد في أن يكون ملكًا مستقلًا بشكل مطلق، لذلك رأى أن الحل في زحزحة الاحتلال الذي يقبض على كل شيء بين يديه[2]، إلا أن المعتدلين في سياسة التفاهم مع بريطانيا داخل بلاطه، أوعزوا إلى صدره، بأن تكون أحلامه دائرة في فلك الحماية البريطانية، لا بالانفصال عنها، فانتوى أن يترأس وفدًا من وزرائه يذهب إلى لندن يطالب بالاستقلال، وانتهت الفكرة لأن يتزعم الوفد الأمير «عمر طوسون» الدبلوماسي الأبرز في الأسرة العلوية.

وصلت هذه الفكرة إلى آذان سعد زغلول، الذي بُويع لرئاسة وفدٍ شعبي يحاول السفر بالنيابة عن الأمة إلى مؤتمر الصلح، فاتصل بوفد الملك باحثًا عن تنسيق مشترك[3]، ولم يخفِ سعد تخوفه من الهوى التركي لطوسون باشا واعتداله مع الإنجليز، وأن تؤثر شخصيته على مطالب مصر القومية، ووصلت حركة الوفد إلى مسامع رئيس الوزراء «حسين رشدي» الذي طلب من السلطان أن يقوم بالسفر إلى لندن بالنيابة عن الحركة وفوضه السلطان إلى القيام بذلك.

تقدَّم رئيس الوزراء «حسين رشدي» بطلب تصريح السفر للوفد، وحاول المندوب السامي البريطاني أن يحدد مهمة الوفد ومطالبه في نطاق الحماية البريطانية، فكان رأيه أن يسمح لهم بالسفر: «إن كنتم تريدون تقديم اقتراحات بخصوص كيفية الحكم في مصر بما لا يخرج عن الخطة التي رسمتها حكومة جلالة الملك- أي بريطانيا- من قبل..»[4] ومن دون مرافقة سعد وأصحابه، الأمر الذي رفضه سعد، بحجة أنه «لا أحد يملي علينا ما تحتاجه الأمة»، ورفض المندوب السامي السماح للوفد بالسفر، مما دفع برئيس الوزراء لتقديم استقالته اعتراضًا، رفضها السلطان فؤاد عدة مرات، لأن قبولها يضعف من موقفه أمام الشعب، ويثير الظنون حول تعاونه مع الإنجليز، إذا وافق على إقالة رئيس الوزراء الوطني.

في النهاية، رفض السُلطان فؤاد ضغوط حسين رشدي وإصراره على الاستقالة، ما أحدث شقاقًا بينه وبين موقف الشعب المطالب بالاستقلال، ووضع صورة السلطان في موضع الشك كونه دمية أخرى يحرك الإنجليز خيوطها في الكواليس.

هنا وقع الصدام الأول بين السلطان فؤاد وسعد، فكان الوفد قد شعر بالخطر من أن يكون هناك تحول من موقف السلطان في تأييد حركتهم، وخشى من تشكيل حكومة أخرى تعيق خطواته في السعي إلى الاستقلال، فقد كان يسير مطمئنًا إلى عون حكومة رشدي باشا وتأييدها له، مما دفع سعد إلى أن يرسل إلى السلطان فؤاد بيانًا شديد في لهجته، فحواه:

«لقد كان الناس يظنون في وقفة رشدي وعدلي باشا دفاعًا عن الحرية عضدًا قويًا من نفحات عظمتكم، لذلك لم يكن ليتوقع أحد في مصر أن يكون آخر حل لمسألة سفر الوفد قبول استقالة الوزيرين، لأن في ذلك متابعة للطامعين في إذلالنا، وتمكينًا للعقبة التي ألقيت في سبيل الإدلاء بحجة الأمل إلى المؤتمر، وإيذانًا بالرضى بحكم الأجنبي علينا إلى الأبد، قد نعلم أن عظمتكم ربما كنتم مضطرين لاعتبارات عائلية أن تقبلوا العرش ولكن الامة من جهة أخرى كانت تعتقد أن قبولكم لهذا العرش في زمن الحماية الوقتية الباطلة- رعاية لتلك الظروف العائلية- ليس من شأنه أن يصرفكم عن العمل لاستقلال بلادكم!»[5]

صنع ذلك الخطاب من سعد ثائرًا، فقد كانت لهجته أحدَّ من تلك التي خاطب بها عرابي من قبل توفيق، وتوالت بيانات واحتجاجات سعد التي أعاقت السلطان عن تشكيل حكومته الجديدة، وانتشرت الإضرابات في البلاد كالنار في الهشيم، ونظرًا لأن مصر وقتئذ كانت تحت الأحكام العسكرية، استدعى القائد العام للقوات البريطانية رجال الوفد، وقدَّم لهم إنذارًا يفيد بأنهم يقيمون العقبات في سير الحكومة المصرية تحت الحماية بالسعي في منع تأليفها، وهو ما يعرضهم لملاحقة قانونية بموجب هذه الأحكام.

رفع سعد برقية شديدة اللهجة إلى الحكومة البريطانية اعتراضًا ورفضًا للإنذار الذي وُجِّه لهم، فصدر أمرٌ بِاعتقالهم ونفيهم إلى الخارج وعلى رأسهم سعد باشا وإسماعيل صدقي[6]، الأمر الذي دفع قيادات الوفد الأخرى بالداخل إلى تقديم اعتراض للسلطان، طالبين منه الضغط على سلطة الاحتلال ليعيد الزعماء، إلا أن السلطان تجاهل البيان، ولم يرد عليهم، واحترقت البلاد في ثورة 8 مارس 1919م.[7]

جورج الخامس يُفاوض جورج الخامس

انفجرت الثورة بنفي سعد وأصحابه، وأُفرج عنهم بضغط المظاهرات في 17 من أبريل، ومن منفاهم بمالطة استعدّوا للسفر إلى باريس لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام المنعقد هناك، إلا أنهم اكتشفوا زيف مبادئ ويسلون الأربعة عشر، حيث اعترف الرئيس الأمريكي ويلسون بالحماية البريطانية على مصر.[8] ومُنيت حركة الوفد الأولى بالفشل، والانقسام فوق ذلك، ففريق اختار أن تدور المطالب في فلك الحماية البريطانية، قاده عدلي يكن وإسماعيل صدقي وحسين رشدي، وفريق سعد الذي التزم طريق الشعب بالاستقلال التام أو الموت الزؤام.

وبقي الشارع المصري في حالة فوران، وسعت بريطانيا إلى التقارب مع المنشقين عن سعد وفريقه، فأصدرت بيانًا فحواه أنها تعتقد أن الحماية أصبحت علاقة غير مرضية، ودعت فيه السلطان فؤاد إلى تكوين وفد رسمي يفاوض انجلترا، وكلف السلطان «عدلي يكن» في مارس 1921م، بتشكيل حكومة، تلخص برنامجها في أنها: «ستقوم بتحديد العلاقات الجديدة بين مصر وبريطانيا للوصول إلى اتفاق يحقق استقلال مصر». [9]

إذن أصبح عدلي هو وجه السلطان على طاولة التفاوض، ويعود سعد زغلول إلى أرض الوطن وتلتفُّ الجماهير حوله، كانت سياسة عدلي أن يصنع تقاربًا بينه وبين وفد سعد، وهنا حدَّد سعد شرطه لأن يقبل خوض المفاوضات مع عدلي، وهو أن تكون على أساس إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال، وأن يكون رئيسًا للوفد الذي سيخوض المفاوضات، وأن تلغى الأحكام العرفية على البلاد والرقابة على الصحف أثناء ذلك كله، إلا أن شروط سعد قوبلت بالرفض بداعي أنه لا يجوز أن يكون رئيس الوزراء مرؤوسًا من شخص آخر على طاولة المفاوضات، لينقسم الوفد المصري والشارع المصري بالتبعة بين «سعديون» و«عدليون».

اشتدت حجة العدليون بأن يكون رئيسهم هو رجل المفاوضات، بحكم أنه رئيس الوزراء المعين من السلطان، ومن هذا المنطلق وقع الصدام الآخر بين السلطان وسعد، الذي رد على تلك المزاعم قائلًا: «إن ذلك يجوز في بلد دستوري يكون رئيس وزرائها منتخبًا من الشعب، أما في مصر فإن رئيس الوزراء معين من السلطان، والسلطان يعينه الإنجليز، فمفاوضة رئيس الوزارة للإنجليز معناها أن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس[10]».

استمر سعد في معاداته لحزب السلطان، وظلَّ يُعلن الحرب صراحةً على عدلي، ويُسمِّي خصومه «برادع الإنجليز» ويؤكد أن الوزارة في مصر باطلة، لأنها لم تُنتخب من الشعب، بل عيّنها السلطان، أي أن المندوب السامي هو من عينها، ورئيس الوزارة ليس إلا موظفًا من موظفي الحكومة الإنجليزية، يسقط ويرتفع بإشارة من المندوب السامي.

إلا أن خطب سعد الرنانة لم تمنع من بدء خط المفاوضات «عدلي-كيرزون» رغم معارضة الرأي العام لها، وحين سافر عدلي إلى بريطانيا، حمل كلمات السلطان لبريطانيا بأنه لن يرضى بتشكيل أي وزارة يرأسها سعد أو تمت إليه بأي صلة.[11] ومُنيت مفاوضات «عدلي-كيرزون» بالفشل، فوفقًا لإسماعيل صدقي في مذكراته، جاء الإنجليز بمشروع لا يُحقق مطالب مصر، ولا يحلُّ المسألة المصرية[12]؛ بعد ما طلبت لندن الاحتفاظ بمنصب المندوب السامي، ومنْح مصر استقلالها بشرط أن تتفق سياستها الخارجية مع سياسة بريطانية الخارجية.

عاد عدلي إلى مصر وقدم استقالته إلى السلطان، والتي رُفضت فورًا، وكان سعد الفائز الأكبر من هذا الفشل التفاوضي، حتى أن اللورد «أللنبي» مندوب بريطانيا السامي، وجَّه إنذارًا إلى خارجية بلاده يفيد بأن سعد قد وصل إلى حالة من الزهو والترفع لا يبعد معها أن يهمَّ بضربة كضربة عرابي.

وجَّهت السلطة الإنجليزية إنذارًا إلى سعد وأعضاء الوفد بأن يكفوا عن نشاطهم السياسي، وأن يغادروا القاهرة إلى قراهم في الريف، وهو الإنذار الذي قُوبِل بالرفض فورًا، فنُفي سعد مرة أخرى. تلك المرة إلى سيشيل- منفى عرابي من قبله- ليتدبَّر من مصير سلفه إن كان من أولي الألباب، وفي تلك الأثناء يقبل السلطان استقالة عدلي من منصبه، إلا أنه يعجز عن تشكيل حكومة ثانية، بسبب سياسة المقاومة السلبية التي اتبعها الشعب بتحريض من الوفد ضد الاحتلال الإنجليزي.

في سيشيل، كانت الأخبار تتواتر حول علاقة سعد والخديوي المخلوع عباس الثاني، فقد وصل إلى مسامع السلطان فؤاد أن عباس عرض على سعد أن يساعد الوفد ماليًا، على أن تكون من مطالبه إعادته إلى العرش، مما أشعل الحقد في صدر السلطان فؤاد.[13]

في الآونة ذاتها، كان اللورد أللنبي يتباحث مع السلطان فؤاد حول تشكيل وزارة جديدة من المعتدلين، ويوافي حكومته بشأن تلك المباحثات ليستحثها على إصدار تصريح يجعل لمصر استقلالًا، يضمن لحلفائه أن يكون لهم وزنًا سياسيًا يمكنهم من حكم البلاد لصالح العلاقات الودية مع بريطانيا[14]، وانتهى ذلك إلى إصدار تصريح 28 فبراير 1922م جاء بمقتضاه إعلان إنجلترا انتهاء الحماية، والاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، مع التحفظات الأربع بتأمين مواصلات الإمبراطورية، والدفاع عن مصر، وحماية مصالح الأقليات، وقضية السودان، التي أُجِّل التفاوض بشأنها حتى ينتخب الشعب برلمانًا، ويصدر الدستور، وتقوم الوزارة البرلمانية باستكمال المفاوضات، وبناء على هذا التصريح، نودي بالسلطان فؤاد، ملكًا لمصر، وكلف «عبدالخالق ثروت» بتشكيل وزارة، وأمره بتأليف لجنة لوضع الدستور، عُرفت بلجنة الثلاثين.[15]

في منفاه واصل سعد شنَّ حربه على السُلطان، وأعلن أن تصريح فبراير هو أكبر نكبة على تاريخ البلاد، وهاجم لجنة وضع الدستور، مسميًّا إيّاها «لجنة الأشقياء»، ومع إعلان اللورد أللنبي إلغاء الأحكام العرفية عن البلاد، سُمح لسعد باشا بأن يعود إلى مصر، ليضع قدمه الأولى في الطريق إلى القصر.

يعيش الملك، ويحيا سعد

كانت العلاقة المباشرة بين سعد وفؤاد فتيلًا قابلًا للاشتعال في كل لحظة ففؤاد العنيد المعتز بسلالته من جهة، وسعد الذي أدرك في محطاته الأخيرة، أن العزة الحقيقية هي الركون إلى صفوف الشعب، صنعت حالة من التعجرف يشوب علاقتهما.

إن ابتعدنا عن السياسة، نجد أن أواصر الكراهية بين الرجلين ممتدة إلى خارج حبائل معارك الحُكم والسُلطة، فزيجة فؤاد الثانية من الملكة نازلي، أصابت سعدًا بالمرارة، لأنه انتوى خطبتها لأخيه سعيد زغلول[16].

وحتى عندما أراد السُلطان مجاملة سعد كانت النتيجة مزيدًا من الشقاق، فحينما حاول الملك أن ينعم على سعد بلقب أمير، رفض سعد اللقب، معتبرًا أن البلاد بها سبعة عشر أميرًا، وليس بها إلا سعدًا واحدًا![17]

كان دستور 23 يحمل في طياته المواد التي تقوضه، فقد ناور الملك كثيرًا اللجان التي أشرفت عليه، ففاز بالمادة 38 و39 بأن جعل له سلطة تنفيذية تفوق السلطة التشريعية، فمن حق الملك أن يقيل رئيس الوزراء، ويحل البرلمان، أو يؤجل انعقاده كما يحلو له، وقد خسر حينما لم يغير حقيقة أن النص على أن «الأمة مصدر السلطات» والتي رأى أن فيها جرحًا كبيرًا لكرامته، أفضاه إلى السياسي المصري البارز يوسف نحاس باشا، الذي ذكره في مذكراته[18]: «إنها لكبيرة على نفسي ما يعتزمونه الآن من إنشاء برلمان يملي عليَّ إرادته».

ورغم معارضة سعد للجنة الدستور، فإنه نَعِمَ بثمار الحياة الدستورية الناتجة عنها، فعند عودته من منفاه خاص انتخابات العام 1924م، وسحق فيها رجل الملك «يحيى باشا إبراهيم»، واستطاع أن يصل إلى البرلمان ومنه إلى كرسي الوزارة ليشكل ما سُمِّي وقتها «وزارة الشعب».

وقّع فؤاد بيديه الخطاب الذي يكلف سعد بتشكيل الوزارة، رغم قسمه من سنين أمام خاصته بألا يعين وزارة لها صلة بسعد، وجاء خطاب سعد يؤكد أنه آت بإرادة الأمة وحدها، ولن يسمح لأي كان أن يستخف بالروح الدستورية، ووضع برنامجه تطبيقًا لما تريده الأمة وليس الملك!

 ولوحظ عليه أنه قال: «شاكر نعمتكم وخادم سدتكم» ولم يقل كما جرت عادة التشريف «عبدكم الخاضع أو خادمكم المطيع»[19] ما أشعل الغضب في صدر فؤاد منذ يوم سعد الوزاري الأول، فاعتبر فؤاد أنه لا يحتاج استشارة رئيس الوزراء وبرلمانه في شيء، ووصفهم بأنهم قطيع من الغنم يصلح فقط للقيادة.

أثار وجود ذلك الفلاح في القصر تقزز الملك، وعرف فؤاد أن فكرة الرجل الأوحد لن تتحقق بوجود سعد إلى جواره، كانت العادة أن تهتف الجماهير عند رؤية الملك «لتحيا مصر، وليحيا الملك» ويوم ذهاب الملك وسعد إلى افتتاح أولى جلسات البرلمان، سمعهم جلالته يهتفون «يعيش الملك، ويحيا سعد».[20]

كانت المواجهة حامية الوطيس، سعد متدرعًا بأمته مصدر السلطات، والملك بعرشه الموروث عن جده العلوي، وسريعًا بدأت أولى المعارك بين الرجلين حول أحقية تعيين أعضاء مجلس الشيوخ الخمسين الذين نصَّ عليهم الدستور، أرادها سعد للوزارة وأرادها الملك للقصر، وهو الصراع الذي اعتبر فؤاد أن مجرد وجوده إهانة له، فلم يستطع أبدًا ابتلاع ذلك الفلاح الذي يدخل مكتبه ويقول له: «لا.. باسم الشعب»[21]

«مسيو فان دن بوش» البلجيكي، النائب العام في مصر، وقتئذٍ، يروي لنا كواليس الصراع، وكان نص المادة 74 هو محل الخلاف، ويُمكن تلخيص التعارض بين الرجلين في سؤالٍ واحد، هو «هل المادة تنص في أن حق الملك في التعيين لا يكون مرتبطًا بشخصه وحده ولا يباشره دون دخل من وزرائه» أم أنه مرتبط بالمادة 48 التي تقرر أن الملك يباشر سلطاته عن طريق وزرائه؟

يحكي «مسيو فان دن بوش»، أنه دخل عليهما المكتب فوجد الملك باديًا عليه الاضطراب ويعالج قلقه بلعب الورق، وسعد باشا قباله مسيطر على نفسه يتكلم ببطء هادئ، يصف المشهد قائلًا: «دار النقاش بينهما أمامي فأدركت من فوري أهمية النزاع وخطورة نتائجه، ففي جانب، ملك نشأ في أحضان التقاليد الشرقية التي تسند السلطة إلى شخصه، وهو اليوم يحاول أن يستبقي لنفسه آخر رمق فيها. وفي جانب، رئيس الوزراء معتد كل الاعتداد بالحقوق التي منحها له الدستور، في أثناء الجلسة اشتدت حدة النقاش، ونطق زغلول باشا مهددًا بهذه الكلمات «لو أننا استشرنا الشعب…[22]».

وقبل الملك بتحكيم المستشار البلجيكي، الذي انتصر لرأي سعد، فأسرّها فؤاد في نفسه، وبعد شهور اندلعت أزمة أخرى، بعد ما اعترض سعد على أن يكون تعيين رجال القصر من حق الملك لا من حق الوزارة، فثار الملك وغضب، واجتمعا لتسوية الخلاف، وامتلأ ميدان عابدين بعشرات الألوف من المصريين، وأبَى الملك في تلك المرة أن يستسلم أمام اعتداد سعد بجماهيره، فقال له سعد: «إذن أستقيل»[23] وقام سعد ليفتح النافذة متعللًا بحرارة الجو، فإذا بالجماهير محتشدة تهتف: «سعد أو الثورة».[24] وقبل فؤاد بأن يُسلِّم مرة أخرى، وأخيرة.

كانت تلك الكراهية لا تخلو من طرافة أحيانًا، فحين تعرض سعد لمحاولة إغتيال على يد أحد الطلاب، استدعى الملك كبير الأمناء وقال له: «اذهب لزيارة سعد فإذا كانت إصابته قاتلة فلا تلغي التشريفات، أما إذا كانت غير قاتلة فالغها» أي لو كان سعد سيموت فليذهب للجحيم، أما اذا كان سينجو فلا مفر من مجاملته، وإظهار الحزن بإلغاء التشريفات.[25]

ملك لا يحكم

كان سعد قبل الثورة دومًا يقول لا بد للبلاد من قارعة حتى نتحرر، وقارعة تلك المرة كانت وبالًا عليه، في العشرين من نوفمبر 1924 اغتيل «السير لي ستاك» سرادار الجيش المصري وحاكم السودان، المؤمنون بالمؤامرة يقولون إن بريطانيا دبرت الحادث لتسقط تجربة مصر الوليدة، وإن لم يصح ذلك، فمن الأكيد أن البريطانيين والملك قد صلوا ودعوا كثيرًا من أجل حدوث كارثة كتلك.

قدَّمت بريطانيا إنذارًا فجًا للحكومة المصرية برئاسة سعد، يطالبها بدفع نصف مليون جنيه غرامة، والاعتذار، ومنع كل مظاهرات شعبية، وإرجاع الوحدات المصرية من السودان، وزيادة مساحة الأطيان التي تزرع في السودان إلى عدد غير محدود، وقامت بريطانية بمظاهرة حربية، فأصدرت الأمر إلى الفرقة الضاربة بالجيش البريطاني في مالطة بالسفر الفوري إلى مصر، لحفظ النظام، وتحركت بارجتان إلى بورسعيد والإسكندرية، واحتلت قناة السويس، ومشت القوات البريطانية في شوارع القاهرة في مظاهرة حربية لم يسبق للقاهرة أن شهدت مثلها.

في كل ذلك، رأى سعد مصير عرابي يلوح في الأفق أمامه من جديد، فقرر أن يرفض الإنذار ويستقيل، ويعلن أن أغلبيته في البرلمان ستؤيد أي وزارة أخرى ترعى مصالح الوطن[26]، فقد فطن أن الإنذار البريطاني شكلًا، وتلك المظاهرات، لا تروم غير إقالته، أو إعادة احتلال مصر بشكلٍ واسع.[27]

في أعقاب الحادث، اجتمع لورد أللنبي بالملك فؤاد، ووجده مستعدًا للاشتراك إلى آخر مدى في سياسة التخلص من زغلول، فقد ضاق ذرعه بالبرلمان والدستور، وبإصرار سعد على أن الملك يملك ولا يحكم، اتفق مع أللنبي على أن يشكل وزارة جديدة يرأسها أحمد زيور باشا، بعد تعهده بقبول جميع طلبات الإنجليز، وأن يتلقى أوامره من المندوب السامي مباشرةً، واتفق أللنبي مع الملك على التخلص من رجال سعد وإدانتهم.

تم حل البرلمان، وأصدر أللنبي أمرًا بالقبض على عبدالرحمن فهمي ومحمود النقراشي ومكرم عبيد، ووضعهم في المعسكر البريطاني في القلعة، وأن يضرب الثلاثة بالرصاص فورًا إذا تم الاعتداء على ضابط أو جندي إنجليزي في شوارع القاهرة، وأمر أللنبي بأن تجمع كل الأدلة التي تثبت أن سعد هو الذي دبَّر لحادث قتل السردار، ليقدم إلى محكمة عسكرية تحكم عليه بالإعدام، ويُشنق.[28]

باءت مساعي أللنبي والملك بالفشل، لم يدن سعد، ولم يعتزل السياسة، وعقدت انتخابات برلمان 1925م، اتهمت فيها حكومة الملك بالتزوير، ومع ذلك لم تمنع سعد من دخول البرلمان، بل وفوزه برئاسته، ضاق الملك فؤاد بتلك المهزلة، فتدخل وبموجب «الدستور» قام بحل البرلمان بعد ساعات قليلة من انعقاده، بداعي أن وجود أعضاء الوفد، وعلى رأسهم سعد، سيعقِّد مسألة تحقيق الهدوء مع بريطانيا، وبهذا تم حل المجلس رعاية للمصلحة الوطنية العليا، وفي محاولة لخلق مناخ يسوده التفاهم وعدم العنف![29]

في 1926م، جاء اللورد جورج لويد خلفًا لأللنبي، وكانت سياسته تعتمد على تحجيم نفوذ القصر، وذلك عن طريق إعادة الحياة النيابية من جديد ولكن بشكلٍ محدود أيضًا؛ برلمان مؤتلف من جميع الأحزاب، يحول دون انفراد القصر بالسلطة، ودون انفراد سعد بالوزارة والبرلمان.[30]

وتذرعت إنجلترا باتهام الوفد القائم في مقتل السير لي ستاك، لتمنع سعد من تأليف الحكومة، بعد فوزه في انتخابات برلمان 1926م، فتنازل عنها لصالح «عدلي يكن» ورضي برئاسة البرلمان، واكتفى من خوض المعارك.

أصابت سعد حالة من الفتور بسبب ضيق الأفق السياسي، وفي عزلته قال لأصدقائه ملخصًا تجربة وزارة الشعب: «كانت غلطتنا أننا صدقنا أننا مستقلون!»[31]، وتكالبت عليه الأمراض وخفت بريقه حتى كاد يخفت، ورأى بأمِّ عينيه كافة الثوابت السياسية التي أشعل الحروب الضروس لأجلها تنهار أمام عينيه، بعد ما أُطيح بتلميذه النجيب مصطفى النحاس من الوزارة وحلَّ بدلاً منه إسماعيل صدقي، الذي ألَّف وزارة 1930م، كانت سياستها «محو الماضي لما له وما عليه» وتنظيم الحياة النيابية تنظيمًا جديدًا، بموجب دستور يسمح للملك بأن «يملك ويحكم» لأول مرة بعد سبع سنوات تقلّصت فيها سُلطة الملك لأبعد حدِّ.[32]

مات سعد، ورغم ذلك لم تمت كراهيته في نفس الملك فؤاد حتى وهو في قبره، فعندما اقترح أحد الوزراء تخليد ذكرى سعد بنحت تمثالين له، وتنصيبهما في الميادين، وحينما أحيل القرار إلى الملك فؤاد ليوقعه، استدعى ثروت باشا رئيس وزرائه إلى مقر اصطيافه بفيشي وقال له: «كيف يقام لرجل من الرعية تمثالًا وأبي إسماعيل ليس له تمثال واحد؟»، وأمر بإقالة الوزير صاحب الاقتراح، وأن يُدفن التمثالان في مخازن وزارة الأشغال[33].

المراجع
  1. حكايات من دفتر الوطن: صلاح عيسى، الكرمة، ص242
  2. أيام لها تاريخ: أحمد بهاء الدين، الشروق، ص119
  3. مذكراتي: إسماعيل صدقي، هنداوي، ص34
  4. أيام لها تاريخ: أحمد بهاء الدين، الشروق، ص120
  5. ثورة1919: تاريخ مصرالقومي من سنة 1914 الى سنة 1921، عبدالرحمن الرافعي، المعارف، ص185
  6. مذكراتي: إسماعيل صدقي، المعارف، ص 36
  7. ثورة1919: تاريخ مصرالقومي من سنة 1914 الى سنة 1921، عبدالرحمن الرافعي، المعارف، ص190
  8. سعد زغلول يفاوض الإستعمار، طارق البشري، الشروق، ص29
  9. مذكراتي: إسماعيل صدقي، هنداوي، ص41
  10. أيام لها تاريخ: أحمد بهاء الدين، الشروق، ص134
  11. أيام لها تاريخ: أحمد بهاء الدين، الشروق، ص143
  12. مذكراتي: إسماعيل صدقي، هنداوي، 43
  13. فاروق ملكًا: أحمد بهاء الدين، ص84
  14. سعد زغلول يفاوض الإستعمار: طارق البشري، ص50
  15. أيام لها تاريخ: أحمد بهاء الدين، الشروق، ص148
  16. حريم في حياة الزعيم سعد زغلول: أشرف مصطفى توفيق، ص34
  17. أسرار ثورة 19: مصطفى أمين، ص20
  18. أسرار ثورة 19: مصطفى أمين، ص25
  19. سعد زغلول زعيم ثورة: عباس العقاد، ص109
  20. سعد زغلول زعيم ثورة: عباس العقاد، ص112
  21. فاروق ملكًا: أحمد بهاء الدين، ص 374
  22. صفحات من تاريخ مصر: يحيى حقي، ص246
  23. أسرار ثورة 19: مصطفى أمين: ص22
  24. حكايات من دفتر الوطن: صلاح عيسى، ص374
  25. فاورق ملكًا: أحمد بهاء الدين، ص84
  26. أيام لها تاريخ: أحمد بهاء الدين، ص155
  27. أسرار ثورة 19: مصطفى أمين، ص25
  28. أسرار ثورة 19: مصطفى أمين، ص26
  29. مذكراتي: إسماعيل صدقي، ص55
  30. سعد زغلول زعيم ثورة: عباس العقاد، ص140
  31. أيام لها تاريخ: أحمد بهاء الدين، ص156
  32. مذكراتي: إسماعيل صدقي، ص73
  33. حريم في حياة الزعيم سعد زغلول: أشرف مصطفى توفيق، ص202