إذ يسفك الإنسان دمًا، أية انفعالات تهيج بها نفسه؟ متى يضغط إصبعه الزناد؟ متى ترتفع يده بالشفرة الحادة؟ متى يُراكم الجثث؟ متى تستبد به شهوة الدم، دم الآخرين، دمه هو، في بحثه عن الخلاص، عن التطهير، عن القوة، عن الحقيقة؟

إن أردتَ الصدق، أقول لك: أنا لا أعرف عن الإنسان غير نُزرٍ، إن كنت أعرف عنه شيئًا. بل إن منْ وقفوا حيواتهم ليفهموا من أمره، ما انتهى علمهم إلا إلى ضروب من الافتراض، والتخمين. كأن القائل صدق حينما «ظن في الإنسان شيئًا لا نقدر أن نختزله فنفهمه».

لكني أريد أن أفهم كيف يعبر المرء إلى الضفة الأخرى عبر بحيرة من دم سخين لزج؟ كيف يستحيل قاتلًا ولا يستبد به الجنون؟ وما يدريني لعل الجنون ضارب بعقله قبل أن يغمس يديه في السائل قاني اللون. ولعل الجنون دافعه للجريمة، لا الجنون ذهاب العقل، بل الجنون فكرة تطرق الرأس وتبعثر أجزاءها، أو الجنون رغبة في سبيلها احتراق الأرض بمن فيها ثمن بخس. أريد الفهم، وأريد الوضوح، وأدرك امتناعهما عن العقل العاجز عن معرفة ذاته.

أفكر كثيرًا في العنف بصوره شتى، لا القتل أو الاعتداء بسلاح أو بالإيذاء الجنسي وحسب، لكن أيضًا الغضب الذي يتملك الإنسان فيُحيله كائنًا شرسًا يصيب بالأذى منْ حوله، ولو بغير إرادة. وما أشق حديثًا عن الإرادة! أأحرار فيما نأتي أم عرائس يحركها القدر، أو تحركها حتمية كون ميكانيكي، أو نفس لا اختيار لها؟ لكن لندع هذا لموضع يليق به.

للعنف دوافع نستطيع الإفاضة فيها، وإن يعوزنا الدليل القاطع في كل ما نزعم. هنا لا تعنيني إلا صورة واحدة للعنف، وهي «العنف المقدس».

ماذا يجمع مُحققو الكنيسة في العصور الوسطى ليحرقوا الهراطقة والساحرات، وذلك مع فرسان الصليب، وجيوش الفتح العظيمة، والخوارج، وجيوش الاستعمار التي تحمل منجزات الرجل الأبيض من أدوات فتك لا تخيب، والتنظيمات الشيوعية التي تشق طريقًا للتغيير عبر الجثث، وهؤلاء الذين يحرقون الناس أحياء وينشرون الخراب والدمار والرعب وهم يهتفون للإله؟

يجمعهم فيما أظن حب الحقيقة، وتجمعهم رغبة لا سبيل لكبحها، رغبة في المطلق، وفي الوحدة التي هي منتهى طلب العقل، وقصوى غاياته.

حقٌ مكتفٍ بذاته

قد تعترضك يومًا وأنت تقرأ عبارةُ: أن الفكر العادي يرى في الأشياء الكثرة، خلاف الفكر الفلسفي الذي يطلب الوحدة. لا يُعبِّر هذا عن سعي الإنسانية بغير انقطاع في سبيل الواحد الواهب، المعنى والغاية. كلنا -النابه فينا والأحمق على السواء- نشتهي حقيقة واحدة، نشتهي حقًا قائمًا بذاته مكتفيًا بها، لا حاجة به إلى تفسير. الفلسفة كما الدين تجلّيان لمطلب العقل، مطلب دونه جنون محض، الجنون تيه العقل في صحراء قاحلة، ودونه العدم، بل دونه رصاصة في الرأس، ودونه لا فرق بين حياة وموت.

عن الدين والمطلق لا حاجة لنا بكثير الكلام؛ فالدين موضوعه المطلق، وغايته النهائي. يقصدهما من غير طريق العقل الفلسفي، لكن من طريق الإيمان والتسليم. وحاجة الناس إلى الدين حاجتهم إلى الوضوح المبهر. هذا ما نطلب جميعًا، وما يقدمه لنا الدين إجابة تروي الظمأ. نقلت الفلسفة هذه الرغبة المطمورة في بنيان العقل إلى مجال الوعي، فبات السبيل إلى إدراك الوحدة، سبيل عقلي.

ولنا في هيراقليطس (540-480 ق.م) وأناكساغوراس (500-428 ق.م) مثالان واضحان؛ الأول قدّم مفهوم الكلمة أو اللوغوس «Logos»، والثاني قدّم مفهوم العقل أو النوس «Nous»، باعتبارهما مبادئ لا مادية للوجود. فالمادة لا تقدر أن تمنحنا تفسيرًا بدائيًا، ولا وحدة شاملة كالتي نريد، فالمادة متغيرة دومًا.

مهّد هذا سبيل الفكر من النظرة المادية إلى النظرة الميتافيزيقية، طبعًا قبل أن يَكفر الفكر الفلسفي بالميتافيزيقا إثر ثورة كانط (1724-1804) التي بدّلت كل شيء.

ولا عجب، إذ إن أول منْ اقترح مبدأ فوق مادي كان فيلسوف الصيرورة هيراقليطس، الذي أدرك أن الكون يخضع إلى تغيير لا يتوقف، وهو من كتب فلسفته في عبارات مُكثفة غامضة. مشهور منها: «أنت لا تنزل نفس النهر مرتين».

لام أرسطو هيراقليطس لأسلوبه الغامض، والمتجاهل لترقيم الجمل، فيترك القارئ في حيرة من أمره. أمّا أنا فأجد في أسلوبه الغامض براعة فريدة. وعلينا إذن أن نرضى بما فيه من غموض يسمح بتأويله بحسب ما يظنه كل واحد. بأي حال تقترح فلسفته أحد أمرين:

  1. يبقى من ينزل النهر على حاله ويتغير النهر بتغير المياه فيه، فشرط ثباتك أن يحدث التغيير حولك.
  2. يبقى النهر على حاله بتغير المياه فيه، فالتغير يحدث في إطار من ثبات.

في الحالين يظهر أن هيراقليطس يرى وراء التغيير ديمومة وسكونًا، ولعل اللوغوس (الكلمة) هو السكون والمطلق الدائم الذي لا يتغير.

لم يبنِ هيراقليطس نسقًا، إنما كان هادم أنساق، حتى قبل أن تظهر الأنساق الفلسفية. أي لا يقدم لنا سبيلًا يدعي أن سالكه بالغ الحقيقة. ثم جاء أفلاطون (428/427-348/347 ق.م) ليتحدث عن طريق الحقيقة والعقلانية التي تنتهي حتمًا إلى عنف مقدس باسم العقل.

لأفلاطون قصة شهيرة مع حاكم مستبد جعلت الناس تراه رمزًا لمواجهة الاستبداد، أمًا أنا فأرى أفكاره رمز الاستبداد الحاصل لا محالة متى تحققت واقعًا. ألا يزعم أن الناس جميعًا يريدون الخير، وحين يفعلون خلافه فذلك عن جهل منهم. ويزعم للفيلسوف وحده (أو عالم الجدل) علم الخير والشر. هو إذن عالم بما نريد وإن جهلناه! ثم الفيلسوف أو الفلاسفة هم حكّام مدينة أفلاطون المزعومة.

المحصلة النهائية حكام مستبدون، باعتبارهم وحدهم عارفين بالخير والشر وأكثر؛ فما يرونه هو ما يريده الناس حقيقة، وإن ألبس الجهل على الناس الصواب والخطأ، فأوهمهم أنهم يريدون خلاف ما يريد حكامهم الفلاسفة.

ما أشبه مدينة أفلاطون بروسيا السوفييتية، وبغيرها من الدول الشيوعية؛ جماعة من المثقفين الشيوعيين في لجنة مركزية تمتلك الحقيقة بين يديها، ومعسكرات اعتقال، ومجاعات، وبوليس سياسي، وربما ضحايا بالملايين. أتدري ليس هذا أخطر ما في أفكار أفلاطون، فأخطر ما فيها ادّعاء القدرة للعقل على الوصول للمطلق النهائي الخالي من التناقض. ولا يقع الناس في التناقص إلا لجهلهم.

حديثًا، فتح كانط بابًا ولج منه فلاسفة انتزعوا لأنفسهم ولنا الحرية. لا أعرف هل أراد كانط أن يزعزع ذاك البناء الراسخ، لكن الأكيد أنه فعل. وخرج الفرد الواحد من قيد الثابت الذي لا يتغير. منح هيراقليطس الفلسفة أول بشارات الميتافيزيقا، ومنحها أيضًا فكرة الصيرورة. وبقيت الأخيرة وإن ذهبت الأولى. فواحد من أولئك الذين كسروا القيد، نيتشه، كان نصيرًا للقول بالتغيير والتبدل الذي يطال كل شيء.

الحقيقة والدم

لا يهم كيف تأتي الحقيقة صاحبها، عن طريق العقل المنطقي، أم عن طريق التسليم دون نظر. في الحالتين متى تعالت حقيقته عن الشك وعن النقد الدائمين باتت صنمًا تُقدَّم له الأضحيات عند مذبح اليقين العظيم.

وهنا نعود لمن ذكرت مطلع المقال. لكل منهم حقيقة لا يؤمن بغيرها، إيمان لا يأتيه الشك، ولا تأتيه الأسئلة. ربما هذه خطيئة العقل، فما يجد وجبة ترضي شهوته المتقدة إلا ويلتهمها ظانًا ما عداها باطلًا. وكلما ازداد الإنسان اشتهاءً ازداد ميلًا للقتل في سبيل حقيقته. في ذلك ربما دافع أناني، فهو لا يفهم كيف يرى الناس غير ما يرى، غير حقيقته الجلية. والويل لمن يكفر بما آمن هو به.

فهو يضحي في سبيل الحقيقة، ليسقط شهيدًا في سبيل الحق. ألا إن أكثر الشهداء لا يمنعهم عن الإبادة وإزهاق ملايين الأرواح غير العجز. ونُسمّيهم نحن مخَلّصين. وللمخَلّص علامة تعرفونه بها: يأتيكم وبين يديه نهرين من دم.

يقتل هذا لأجل حقيقة هي جوهر الوجود، لأن التاريخ يسير لوجهة بعينها، لأنه هو يعرف ما الخير وما الشر. ويقتل ذاك لينال جزاءً نعيمًا أبديًا. يقتل إذ يحسب الحق في صفه، وأفعاله صورة الحق. قيّمٌ هو على الخير والشر. سواءٌ حقائق المخَلّصين وحقائق العقل؛ الأولى متمنّعة على الشك، والثانية إن تمنعت.

في مفازة اللا يقين يجد العقل مخاوفه، ينتظره الرعب هناك. وفي واحة اليقين يجد طمأنينة غارقة في الدم. ليكن الاختيار بين مشقة الشك ونار الحيرة، وبين طمأنينة اليقين الدموية. يقولون الحرية أن تكون عبدًا للحقيقة، وأقول الحرية ألا تكون عبدًا لشيء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.