103 أعوام مرت على انطلاق الحرب العالمية الأولى، و73 عاماً مرت على العملية العسكرية الأهم في مسار الحرب العالمية الثانية «إنزال نورماندي»، والتي كانت بداية تحرير أوروبا من قبضة النازي، ومع ذلك – ووفقًا للمؤرخ المصري خالد فهمي – تحفل بريطانيا كل عام بالعديد من الفعاليات والمؤتمرات والمحاضرات، التي تناقش هذه الأحداث التاريخية، برؤية نقدية واضحة، الأمر الذي وصل إلى حد انتقاد سياسات رئيس الوزراء البريطاني السابق «ونستون تشرشل» خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها، إدراكًا لقيمة التاريخ وتحليل أحداثه. وكذلك يجب أن يكون الحال في تعامل بلادنا مع الأحداث المفصلية في تاريخنا.

ولا شك أن زيارة السادات للقدس عام 1977، ومن بعدها توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، كانت حدثًا مفصليًّا في ترويض أهم صراع في تاريخ مصر والمنطقة الحديث. لذلك من الصحي أن يتجدد باستمرار الجدل النقدي حول هذا الحدث. ولكن هذه المرة فإن الكاتب الإسرائيلي والأستاذ في الجامعة العبرية «دان ساغير» هو من أعاد فتح هذه الملف من منظور تأثير السلاح النووي الإسرائيلي، عبر مقاله الأخير على موقع صحيفة هآرتس الإسرائيلية.

لم تصدر من السادات سوى إشارات قليلة جدًّا حول القدرات النووية الإسرائيلية، مما حدّ من الضغط الداخلي عليه لمعالجة هذه الميزة الاستراتيجية لإسرائيل.

حيث اعتبر ساغير أن الفترة الممتدة بين مايو/آيار 1967 ومارس/آذار 1979، هي فترة مكثفة في العلاقات المصرية الإسرائيلية؛ شملت ثلاث حروب، وبلغت ذروتها في توقيع معاهدة السلام وإقامة علاقات دبلوماسية بين الطرفين. وقد تناولت العديد من الدراسات التاريخية والسير الذاتية ومذكرات صناع القرار المصري والإسرائيلي هذه الفترة المعنية. ومع ذلك، لم يكن هناك تقريبًا أي نقاش حول الأثر الاستراتيجي لقدرة إسرائيل النووية على تطور الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، وعلى مصر على وجه الخصوص.

فغالبًا ما تتناول الدراسات البرنامج النووي الإسرائيلي بالتركيز على تاريخه، وعلى سياسات «الغموض النووي» التي اتبعتها دائمًا إسرائيل، دون التركيز على تأثير هذه البرنامج على المواجهات العسكرية التي نشأت خلال مسارات الصراع في الشرق الاوسط. أحد أسباب ذلك هو أن هذا المجال البحثي يعاني من مشكلات في الوصول إلى المصادر ذات الصلة، سواء في إسرائيل أو في البلدان العربية.

وقد ادعى ساغير أن مصر حاولت وقف البرنامج النووي الإسرائيلي أو على أقل تقدير تصعيد الاستجابة العربية له، ولجأت في سبيل ذلك إلى عدة خيارات؛ بدءًا من التماس التدخل الدبلوماسي من واشنطن؛ مرورًا بمحاولات الحصول على أسلحة نووية من الاتحاد السوفييتي والصين؛ والتخطيط لتفجير مفاعل ديمونا من خلال المواجهات العسكرية؛ ومحاولات تطوير سلاح نووي مصري؛ وأخيرًا محاولات تطوير ما سُمي بـ «القنبلة العربية» ذات التمويل الليبي. وهي الاستراتيجيات التي باءت كلها بالفشل.


حرب 1973: أهداف أم إمكانات محدودة؟

في مقاله، يدّعي ساغير أنه بعد وصول السادات للحكم عام 1970، لم تصدر منه سوى إشارات قليلة جدًا حول القدرات النووية الإسرائيلية، متماهيًا مع سياسة الغموض النووي الإسرائيلي، مما حدّ من الضغط الداخلي عليه لمعالجة هذه الميزة الاستراتيجية لإسرائيل. وقرر السادات أن يتعامل مع هذا الملف بأنه «غير ذي صلة» إلى حد كبير بالصراع.

فاتجه السادات إلى تطوير القدرات العسكرية التقليدية المصرية، التي قد تكون حاسمة في المواجهة التالية مع إسرائيل، منها: الصواريخ أرض-جو للتصدي لسلاح الجو الإسرائيلي، والصواريخ المضادة للدبابات، والقدرات البرمائية لمنح الجيش المصري عبورًا سريعًا لقناة السويس. كما قام السادات بتجميد البرنامج النووي المصري، وخصّص موارد واسعة لتطوير الجيش من أجل الإعداد للحرب، بهدف إعادة فتح قناة السويس، وإعادة تأهيل المدن المتاخمة لها، وإجبار إسرائيل على التفاوض بشأن عودة سيناء إلى مصر.

اندلعت حرب 1973 بعد سنوات قليلة من دخول إسرائيل النادي النووي، ولكن يبدو أن السادات ومستشاريه العسكريين قيّموا الوضع العسكري بشكل دقيق، من حيث شن حرب على إسرائيل لا تستدعي منها ردًّا نوويًّا.

ويدعّي الكاتب الإسرائيلي أن هذه النتيجة الدقيقة التي توصل إليها السادات قد استندت إلى دراسة كتبها الباحث المصري “فؤاد جابر” عام 1971، ونشرها في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ثم تم ترجمتها إلى العربية بعد ذلك.

ركزت تلك الدراسة على تحليل العلاقة بين مأزق العرب في كفاحهم المسلح التقليدي ضد إسرائيل، والخوف من أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية، والتحرك الدبلوماسي المناسب والمحتمل. وفي الفصل الختامي للكتاب كتب:

مع إدراك أن إسرائيل لا يمكن هزيمتها عسكريًّا، من المتوقع أن ينهار الأساس المنطقي وراء حالة الحرب الدائمة والحصار الاقتصادي وسياسة عدم القبول وعدم الاعتراف من قبل العرب تجاه إسرائيل، وذلك مهما كانت الاتجاهات الحالية فيما يتعلق بالاعتراف بها أو التفاوض معها.

وقد ذكر السادات في حديثه لمجلة نيوزويك الأمريكية في 19 أبريل/نيسان 1973 أن عدم قدرة مصر على إنزال الهزيمة بإسرائيل في الحرب لا تعني أنه من غير الممكن أو المؤكد توجيه ضربة عسكرية محدودة لها. ويؤكد في ذات الصدد الكاتب الإسرائيلي «عاموس بيرلموتر» أن السادات كان يتصور أنه طالما أن مصر لن تُهدد خلال الحرب ذاتها وجود إسرائيل، فإن مصر لن تتعرض لأي خطر نووي.

وكان ساغير في واحدة من مقالاته التي كتبها في صحيفة «يديعوت أحرونوت» عام 2014، بالاشتراك مع «يائير عفرون» الباحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، قد أكد أنه إسرائيل اعتمدت منذ أيامها الأولى على استراتيجية الردع في مواجهة الدول العربية. حيث شكّل استخدام الردع إلى حد بعيد بديلًا لعدم القدرة على تحقيق الحسم الاستراتيجي والسياسي في الحروب في مواجهة الدول العربية، بسبب القيود الدولية وعدم القدرة على السيطرة على المجال العربي المحيط بها. وعلى سبيل المثال، تعتبر الفترة الواقعة بين العامين 1957 و1967 بعد انسحاب إسرائيل من سيناء، فترة نجاح واضح للردع الإسرائيلي.

ولكن كان للباحث المصري «محمد عبد السلام» رأي آخر، ذكره في إحدى مقالاته المنشورة في مجلة السياسة الدولية، مُركزًا تحليله على مفهوم «الحرب المحدودة» التي تبناها العرب أثناء التخطيط لحرب 1973، استناداً للقدرات النووية الإسرائيلية.

فذكر أن معظم الكتابات الإسرائيلية والغربية تقصد بالحرب المحدودة تلك التي لا تتضمن في أهدافها أو عملياتها تهديد وجود إسرائيل، أو دخول أراضيها، ولكن من المؤكد أن هؤلاء المحللين يدركون أن الخطة السورية كانت تهدف إلى تحرير كل الجولان، ومع ذلك اُعتبرت محدودة.

فيبدو أن المقصود بالمحدودية هنا عدم تجاوز الأراضي المحتلة عام 1967. على افتراض أن القوة العسكرية التقليدية لكل من مصر وسوريا كانت تمكنهما من التخطيط لعملية عسكرية واسعة النطاق تهدف إلى تحرير كامل الأراضي العربية المحتلة في سيناء والجولان، وربما تجاوز ذلك إلى غزة بالنسبة لمصر، ودخول شمال إسرائيل بالنسبة لسوريا، وأن القيادات العسكرية المصرية والسورية قد حددت نطاق العمليات العسكرية وأغراضها من أجل تجنب احتمالات تهديد إسرائيل باستخدام السلاح النووي.

وهنا يتدخل عبد السلام مُشيرًا إلى أن الكتابات والمذكرات والتصريحات التي تناولت مراحل التخطيط لحرب أكتوبر تؤكد أن ميزان القوة التقليدية بين الدولتين العربيتين وإسرائيل كان القيد الأساسي الذي فرض محدودية العمليات العسكرية خلال الحرب، سواء تم التعبير عن هذا الميزان من خلال القول بأن إسرائيل كانت تتفوق كيفيًا على كل دولة في عناصر التسلح التقليدي المؤثرة، أو أن كلًّا من مصر وسوريا لم تكونا تمتلكان سوى عناصر تسليح تقليدية هجومية تكفي بالكاد لتحقيق الأهداف التي تم اعتمادها في الخطة.


دوافع السلام المصري مع إسرائيل

ذكرت معظم الكتابات الإسرائيلية والغربية أن مصر وسوريا شنتا حربًا محدودة عام 1973، أي تلك التي لا تتضمن في أهدافها أو عملياتها تهديد وجود إسرائيل، أو دخول أراضيها.

إن الاستنتاج الرئيسي الذي توصل إليه ساغير عبر تحليله للاستراتيجية المصرية في سنوات الحرب وما بعدها، هو أن صانع القرار عانى من قيود اقتصادية واستراتيجية، ناهيك عن تلك القيود الناشئة عن وضع مصر في العالم العربي. كما أن سباق التسلح الذي انطلق في المنطقة أثار مخاوف الطبقة المُتعلِمة من المصريين من التعرض لضربة نووية؛ خاصةً في ظل التركيز الكثيف للسكان في وادي النيل، واعتمادهم الكلي على مياه نهر النيل، ومجموعة ضخمة من الخزانات خارج سد أسوان، وهو ما يُعرِّض مصر – ليس فقط لإمكانية ضربات قاسية، بل إلى إبادة.

عيزر وايزمان، وزير الدفاع الإسرائيلي خلال محادثات السلام مع مصر، ذكر عام 1981 في كتابه «معركة من أجل السلام»: «إن العالم العربي، بما في ذلك مصر، يشعر بقلق بالغ إزاء إمكانية وجود خيار نووي لإسرائيل. ولعل هذا الاحتمال لعب دورًا كبيرًا في الاعتبارات التي وجهت الرئيس السادات في طريقه إلى القدس».

المؤرخ الإسرائيلي «أفنير كوهين»، كتب بعد بضع سنوات نسخة مختلفة قليلًا عن تلك التي وضعها وايزمان في كتابه، وقال إن الرئيس المصري نفسه – في زيارته لإسرائيل عام 1977 – قال لوايزمان إن القدرة النووية الإسرائيلية كانت أحد العوامل التي وقفت وراء قراره بإقامة السلام مع إسرائيل.

وفي إحدى مقابلات شيمون بيريز الأخيرة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وبالتحديد في حديثه مع القناة الثانية في مايو/آيار 2016، ذكر أن نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي عام 1977 «يغيل يادين» انضم إلى السادات في طريقه من المطار إلى القدس، وخلال المحادثة سأل يادين السادات: «لماذا في الأيام الأولى من حرب يوم الغفران لم تتقدم نحو ممرات سيناء؟»، فكان رد السادات، وفقاً لبيريز، هو: «لديكم أسلحة نووية، ألم تسمع عنها؟».

وخلال مفاوضات السلام الإسرائيلية المصرية في سبتمبر/أيلول 1978، لم يُشَر إلى المسألة النووية تقريبًا، وحين حاول السادات خلال الأيام الأولى لقمة كامب ديفيد أن يثير موضوع نزع السلاح النووي المحتمل لإسرائيل، رفض الأمريكيون ذلك خشية أن يؤدي بحث القضية إلى إلحاق أضرار خطيرة بفرص نجاح المحادثات. غير أنهم استخدموا في الوقت نفسه القضية النووية للضغط على إسرائيل للتوصل إلى اتفاق.

حيث ذكر الكاتب الإسرائيلي «يويل ماركوس» في وقت سابق في صحيفة هآرتس أنه خلال محادثات كامب ديفيد ضغط الرئيس جيمي كارتر على الإسرائيليين بالتهديد التالي: «إذا لم توقعوا، فلن يكون هناك ديمونا». وفي الواقع، كان كارتر يُهدد بسحب الولايات المتحدة دعم الموقف النووي الإسرائيلي الذي منحه الرئيس ريتشارد نيكسون لها عام 1969، إذا رفض رئيس الوزراء مناحيم بيغن التوقيع على الاتفاق.