على مدى سنوات عُمره حظي الإمام الصادق المهدي بأعداء كُثُر في معاركٍ شتَّى، ولم يترك مجالًا أو ساحة نضال لم يشتبك فيها ويتفاعل معها؛ ألَّف الكتب وقاد الثورات وترأَّس الحكومات، جاهد في سبيل السودان بعقله وقلمه وقلبه وترك إرثًا سيظلَّ مغروسًا في تربة السودان إلى الأبد.

هذه المرة واجَه الإمام المهدي عدوًّا لا يُواجه، لا تشفع معه الأفكار ولا الثورات ولا الشعبية الجارفة، ذلك العدو هو فيروس كورونا المستجد (كوفيد ـ 19) الذي وجد طريقه في جسد الصادق المهدي يوم الثالث من نوفمبر الجاري، ونُقِلَ على إثره للعلاج في دولة الإمارات، وهي الخطوة التي لم تنجح في إنقاذ حياته، فرحل الإمام المهدي عن الدنيا تاركًا خلفه تاريخًا من النضال، واسمًا مثيرًا للجدل على المستويين السياسي والفكري.

سليل المهدي المنتظر!

المهدية في السودان، عائلة ذائعة الصيت يعود نسبها إلى رجلٍ ادعى أنه المهدي المنتظر، في أواسط القرن التاسع عشر، وهو محمد أحمد المهدي بن عبد الله، المولود عام 1843م، والذي يؤكد أنه «ينتهي نسبه عند الإمام علي بن أبي طالب»، وفقًا لما ذكره المؤرخ اللبناني نعوم شقير في كتابه «تاريخ السودان».

عُرف عن المهدي الأول نبوغه في النضال السياسي ضد المستعمر التركي في القرن التاسع عشر، وذلك بعد الدعم الحاشد الذي تلقاه من أبناء السودان، الذين كانوا يتغنون وينشدون إعجابًا بما أطلق عليه آنذاك «الدعوة المهدية»، مما كان سببًا في ازدياد حماسته، وانتصاره في أغلب معاركه، حتى توفي في الثاني والعشرين من يونيو لعام 1885م، إثر إصابته بالتهاب السحائي الشوكي، أو ما يسميه السودانيون «باب دم»، بحسب المؤرخ عبد الله حسين في كتابه «السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعث المصرية».

أخبرني سيد الوجود ﷺ بأنني المهدي المنتظر، وخلفني عليه الصلاة والسلام بالجلوس على كرسيه، مرارًا بحضرة الخلفاء الأربعة والأقطاب والخضر -عليه السلام- وأيدني الله تعالى بالملائكة المقربين، وبالأولياء والأحياء والميتين، من لدن آدم إلى زماننا هذا، وكذلك المؤمنون من الجن، وفي ساعة الحرب يحضر معهم إمام جيشي سيد الوجود ﷺ بذاته الكريمة، وكذلك الخلفاء الأربعة والأقطاب والخضر — عليه السلام — وأعطاني سيف النصر من حضرته ﷺ، وأُعلمت أنه لا ينصر عليَّ معه أحد ولو كان الثقلين الإنس والجن.
من أقوال محمد أحمد المهدي بن عبد الله

توالت الأسماء الحاملة لراية الدعوة المهدية في السودان، حتى شهدت طورًا آخر بعد ميلاد الصادق بن الصديق المهدي، في مشهد يحمل الكثير من الدراما، إذ يحكي في مذكراته أن النسوة الحاضرات ولادته، أقررن بأنه «لم يخرج برأسه، بل بقدميه أولًا. وكان ذلك في مساء الأربعاء، ليلة الخميس الموافق الخامس والعشرين من شهر ديسمبر 1935م، وكان ذلك اليوم الأول من عيد الفطر، فاستبشرت والدته، لأن مولد بكرها جمع بين عيد المسلمين، وعيد النصارى، الذين يحتفلون بعيد ميلاد السيد المسيح في الخامس والعشرين من ديسمبر من كل عام».

عاش الصادق المهدي في جوٍّ مكثف من الثقافة الإسلامية، المطعَّمة بالدعوة «المهدية»، التي تشرَّبها من جده عبد الرحمن، وأبيه الصديق، لكنه يحكي في مذكراته التي جمعتها ابنته رباح تحت عنوان «أوراق في سيرة ومسيرة الإمام الصادق المهدي»، أن علاقته بجده كانت أقوى من علاقته بأبيه، إذ كان يحتفي به بشكل ملفت، ويتلمَّس في ذلك الطفل «اختلافًا عن بقية جيله».

اهتمَّ الجد بتعليم حفيده، وأرسله بعدما أتم حفظ القرآن في دارفور إلى كلية فكتوريا الثانوية بالإسكندرية، لتلقي المزيد من علوم العصر، وإجادة اللغة الإنجليزية، وبها زامل الملك حسين، ملك الأردن، وشقيقه الأصغر الأمير الحسن.

لم يستسغ الصادق المهدي الحياة في الإسكندرية، بعدما اصطدم بطريقة حياة غير مألوفة بالنسبة له، فلبس الروب والبيجامة، وشاهد الفتيات والنساء شبه عاريات، يلبسن المايوه في «البلاج»، إذ اعتبرها «صدمة كبيرة لمن تربى في المحيط الأم درماني (…) وزاد شعوري بالغربة وعدم الرضا في هذا الوسط، ونقلت شعوري لوالدي، ورجوته ألا يُرسل إخوتي الصغار إليه، وأن يُعيد النظر في استمراري فيه».

عاد الصادق المهدي إلى السودان، ومزَّق كتب فيكتوريا، وقرر هجر التعليم النظامي، ورافق الشيخ الطيِّب السرَّاج، ونهل منه علوم اللغة العربية.

وفي أحد الأيام، أقنعه أستاذ مصري يُدعى ثابت جرجس بالالتحاق بجامعة الخرطوم، التي يعمل بها مدرسًا لمادة علم الحيوان، وبالفعل التحق المهدي بكلية العلوم كمستمع، واقترح عليه عميدها أن يُعاونه للالتحاق بجامعة أوكسفورد، للدراسة بكلية القديس يوحنا، التي نال منها شهادة في الاقتصاد والسياسة والفلسفة، «ونال تلقائيًّا درجة الماجستير بعد عامين من تخرجه، بحسب النظام المعمول به في جامعة أوكسفورد، وعاد للبلاد في عام 1957م»، وفقا لما ذكرته ابنته رباح في أوراقها التي جمعتها عن والدها.

نحو الإسلام الاشتراكي

«دخلت الجامعة (الخرطوم) في مرحلة احتد فيها الصراع الفكري بين اتجاهين: إسلامي وشيوعي. واحتد فيها كما احتد في السودان عامة نزاع بين تيارين سياسيين: أيستقل السودان أم يتحد مع مصر؟ (…) وكان غالبية طلبة الاتجاه الإسلامي السودانيين يميلون للاتحاد مع مصر، تأكيدًا للروابط التي قامت بينهم وبين حركة الإخوان المسلمين في مصر. أما الطلبة الشيوعيون السودانيون فغالبيتهم كانت تؤيد استقلال السودان؛ لأن الحركة الشيوعية كانت وقتئذ تعتبر النظام المصري بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر خدعة أمريكية».

بهذه الكلمات، عبَّر الصادق المهدي في مقالٍ نشره في مجلة التضامن السودانية عام 1983م، بعنوان «ثلاثة أعوام في خمسينيات القرن العشرين»، عما أسماه «اليُتم الفكري والسياسي» الذي عاشه، وهو ما يتفق مع ما أورده في مذكراته، والتي قال فيها إنه «إذ عانى كثيرًا من عدم وجود تيارٍ يُشبهه»، ويلائم المرجعية التي يبحث عنها، فهو كما يصف نفسه «إسلامي الفكر استقلالي السياسة».

ورغم ذلك الشتات خرج المهدي من تلك المرحلة مؤمنًا بالاشتراكية وضرورتها في المجتمع، وأنشأ مع زملاء آخرين الاتحاد الإسلامي. وهو بهذا التنوع قد «تجاوز حالة الانكفاء والمحلية الموغلة لدى كثير من زعمائنا»، بحسب ما جاء في كتاب ابنته رباح.

تلك «الاشتراكية الإسلامية»، كما أسماها الصادق المهدي، تركت أثرها في نفسه على الصعيدين السياسي والفكري؛ ففي الأولى لم يجد أقرانًا يشبهونه، فاضطر إلى الانخراط في صداقات مع الإسلاميين، وقت الجامعة، أو كما يقول في مذكراته: «لم نجد فئة طلابية ننتمي إليها، ولكن بحكم التوجه الإسلامي، قامت صداقات بيننا وبين بعض الطلبة الحركيين، أمثال منذر عبد الرحيم وحسن الترابي».

صلات الصادق المهدي مع الإسلاميين الحركيين، ستمتد معه طويلًا، وسترافقه في نضاله ضد الحكم العسكري في السودان، بعد أن وثّقت أواصر صلاته، في جامعة الخرطوم، مع بابكر كرار، وميرغني النصري، وعبد الله محمد أحمد، وعبد الله زكريا (مؤسسو الجماعة الإسلامية في السودان فور انشقاقهم عن الإخوان المسلمين).

أما بذرة الفكر الاشتراكي، فقد غرسها في نفسه مبكرًا من خلال القراءة في كتب عن الشيوعية التي جلبها لها شقيقه الأصغر عندما كان في رحلة علاج لوالدتهما بأوروبا، والتي آمن بصلاحها بشرط أن تكون «لمناصريها ومعارضيها»، وفق تعبيره في خطاب قديم لأخيه قد أورده في أوراق ابنته رباح.

طريقة المهدي في التوفيق فكريا بين عقيدته الإسلامية والعدل الاجتماعي الموجود لدى الاشتراكيين، عبّر عنها في بواكير إصداراته عام 1959م، من خلال كتاب «العبادات».

الحضارة الإسلامية تعتبر العيشة في مجتمع أغلبه جائع وقلة منه مُتخمة بالشبع عيشة خاطئة من الناحية الدينية، ضارة من الناحية الاجتماعية. لذلك وضعت تشريعات عديدة هدفها العدالة في تقسيم الحظوة المادية. تلك التشريعات هي أساس الاشتراكية الإسلامية التي لا تخلو صفحة من صفحات القرآن ولا حقبة من سيرة الرسول من الإشارة إليها.
من مقدمة كتاب «العبادات» للصادق المهدي

وبعد أن كوّن المهدي مبادئه الجامعة بين الاشتراكية كفكر اقتصادي، والإسلام كمرجعية دينية يُرتكن إليها، ترك المئات من المؤلفات التي تراوحت موضوعاتها بين الشأن العام السوداني، وأوراق بحثية في الفكر الإسلامي، حافظت جميعها على تمسّكه المُطلق بفكرة الاجتهاد ورغبته في تدشين ما أسماه «مرجعية إسلامية مُتجددة»، وهو ما يتّضح في قوله: «إن الأحكام التي اتفق عليها جمهور الفقهاء في كثير من القضايا لا تلائم عصرنا، مما يوجب اجتهادًا جديدًا. كما أن مقاصد الشريعة أوسع من الأحكام التي استنبطها الجمهور، مما يتيح المجال للاجتهاد الجديد والمتجدد».

الدخول في «مأمورية» السياسة مرغمًا

في أواخر عام 1957م، وفور عودته إلى السودان من بلاد الإنجليز، كانت البلاد تعُج بالقلاقل التي تهدد الديمقراطية الوليدة، ومحاولات حثيثة للنظام العسكري ممثلًا في الفريق إبراهيم عبود، في الإطاحة بالحياة الحزبية، وهو ما قوبل بمعارضة قوية من الصديق المهدي، رئيس حزب الأمة، ووالد الصادق، وغيره من القوى الوطنية السودانية.

وفي تلك الأثناء كان الأب يعُدُّ ابنه بشكل غير مباشر للانخراط في العمل السياسي، فكلَّفه بالذهاب مع وفد حزب الأمة إلى دراسة القرى في جنوب كردفان، وهو العمل الذي لم يرُق للصادق المهدي، ذلك الشاب العشريني، مما جعله يميل إلى تسمية مهمته بـ «المأمورية الانتخابية» بحسب تعبيره في حديثه لبرنامج «شاهد على العصر».

وفي 17 من نوفمبر لعام 1958م، شهد السودان الانقلاب العسكري الأول، بقيادة إبراهيم عبود، الذي تسلم السلطة من الحكومة الائتلافية بقيادة عبد الله خليل، وعلى إثره أصدر قراره بحل جميع الأحزاب، مما سيكون له بالغ الأثر على عائلة المهدي المُؤسِّسة لحزب الأمة.

وقتها، كانت قدما الصادق المهدي تغرسان مرغمتين في الواقع السياسي المتقلب، عقب استقالته من عمله بوزارة المالية، بداية من الانخراط في أعمال الجبهة القومية المتحدة عام 1961م التي قادها والده لمناوءة انقلاب عبود، وهو العام نفسه الذي شهد تولي الصادق إمامة الأنصار/المهديين خلفًا لوالده المتوفى في أكتوبر من العام نفسه، ثم تقلُّد رئاسة حزب الأمة، عقب الإطاحة بنظام عبود في 21 من أكتوبر لعام 1964.

لم يمر سوى عامين فقط، حتى كُللت جهوده في دعم الثورة الوليدة بتولي مهمة رئاسة الوزراء ممثلًا عن حزب الأمة في الحكومة الائتلافية مع التجمع الاتحادي، الذي ضم شيوعيين وإسلاميين، في الفترة ما بين عامي 1966 و1967م.

من السجن إلى الوزارة

بعد عامين فقط  من تركه الوزارة كان السودان على موعدٍ مع وثبة عسكرية جديدة في عام 1969 قادها الجنرال جعفر نميري، وظل مُسيطرًا على البلاد حتى عام 1985، حينها أُلقِيَ القبض على الصادق المهدي، الذي قضى 4 سنوات في السجن.

قُدِّر للصادق المهدي أن يتولى رئاسة الوزراء مرة أخرى في الفترة بين عامي 1986 و1989م، لكنها جاءت بين عدة وقائع جسام سبقتها، وأحداث شديدة الوطأة تلتها.

ففي سبتمبر 1973م اشترك حزب الأمة والتجمع الاتحادي والشيوعي والإخوان المسلمين في انتفاضة ضد جعفر نميري، عُرِفت حينها بِاسم «انتفاضة شعبان»، وفشلت في تحقيق أي نتيجة، ثم تحرك التحالف نفسه في تنظيم مسلح يوم 2 يوليو عام 1976م، لكن حظه لم يكن أفضل من سابقه ففشل أيضًا، وهو ما أرجعه الصادق المهدي إلى «الاختراق في الصفوف»، كما أرود في حديثه لبرنامج «شاهد على العصر».

في عام 1985م تخلَّص السودان من حكم نميري، لكن ليس على يد القوى المدنية كما طمح الصادق المهدي ورفاقه؛ ولكن عن طريق انقلاب عسكري قاده الجنرال سوار الذهب، وجرت انتخابات تشريعية، فاز فيها حزب الأمة، وانتُخب الصادق المهدي رئيسًا للوزراء، وبعد أربعة أعوام فقط قاد الجنرال عمر البشير انقلابًا عسكريًّا أطاح بحكومة المهدي، وزُجَّ به في السجن، وفور خروجه وُضِع في الإقامة الجبرية في منزل زوج عمته حتى نهاية 1990م.

الإمام الصادق المهدي يتلقي برئيس الوزراء الهولندي رود لوبرز عام 1987م

النضال ضد البشير

في عام 1992م، سُمِحَ للصادق المهدي بحرية الحركة في الخرطوم فقط، وواصل نشاطه السياسي، فتعرض للاعتقال لفترات حتى قرر النفي الاختياري؛ فهرب سرًّا إلى إريتريا المتاخمة للسودان نهاية عام 1996م، ولم يعد إلى بلاده إلا عام 2000م، بعد توقيع مصالحة مع نظام البشير، برعاية رئيس جيبوتي عمر جيلة.

وعقب عودته أعيد انتخابه رئيسًا لحزب الأمة في عام 2003م، وكذلك عام 2009، ولم يمر سوى عامين فقط، حتى شهد العالم العربي ما عرف حينها بثورات «الربيع العربي»، وجاء السودان متأخرًا في هذا الركب، حين اندلعت في ديسمبر من عام 2018 مظاهرات ضد نظام البشير مُندِّدة بارتفاع أسعار الخبز.

مظاهرات المدنيين في السودان أشعلت جذوة الثورة في عقل الصادق المهدي، فدعا البشير في يناير 2019 إلى التنحي عن الحكم، معلنًا تأييده للمظاهرات التي زادت حدتها حتى أطاح الجيش بالبشير في أبريل من العام نفسه.

ويعتبر السودانيون أن الصادق المهدي كان آخر رئيس وزراء منتخب في البلاد، حتى شُكِّلت حكومة ما بعد الثورة في سبتمبر عام 2019م، قوامها الجيش وممثلون مدنيون، وجماعات المعارضة، فأتت على رأسها بالخبير الاقتصادي عبد الله حمدوك، الذي منَّى نفسه بالتعامُل مع المهدي وهو ما لم ينجح فيه بسبب رحيل الأخير، ووصف خسارة السودان للمهدي بأنه «انطفأ قنديلٌ من الوعي يستغرق إشعاله آلاف السنين من عمر الشعوب».