في الثاني من أغسطس/آب عام 1990 دخلت قوات الجيش العراقي الكويت في خطوة مباغتة ومفاجئة، تسببت في خوف شديد لدى باقي دول الخليج، خاصة السعودية. وقرر الملك فهد وقتها الاستعانة بالقوات الأمريكية لوقف طموحات صدام حسين التي كانت تشير لإمكانية اقتطاع جزء من السعودية في ذلك الحين، وذلك بعد ما حصل فهد على فتوى المؤسسة الدينية الرسمية وعلى رأسها الشيخ ابن باز بجواز الاستعانة بالكفار في صد الغزو المحتمل.

كانت لحظة الغزو العراقي للكويت هي شرارة الصدام الأشد بين التيار الصحوي في السعودية وبين النظام هناك، حيث قام رموز الصحوة الثلاثة آنذاك: سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر؛ بموجة معارضة شديدة في فضاءاتهم الاجتماعية والدعوية التي كانوا يشغلون حيزًا كبيرًا منها، بل وواجهوا مستند النظام الشرعي، فتاوى المؤسسات الدينية الرسمية، بنقدها ونقضها وبلغة حادة، وكانت هذه هي أعلى درجات الاحتكاك السياسي بين الصحويين والنظام السعودي.


من هو سفر الحوالي؟

وُلد سفر بن عبد الرحمن الحوالي عام 1955 في مدينة الباحة جنوبي السعودية، وعرف منذ طفولته باجتهاده في التحصيل العلمي، فحصل على الشهادة الابتدائية ثم التحق بمعهد بلجرشي العلمي، فأنهى دراسته خلال خمس سنوات، سافر بعدها إلى المدينة المنورة حيث نال الشهادة الجامعية في الشريعة من الجامعة الإسلامية.

أكمل دراساته العليا في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، حيث حصل على درجة الماجستير والدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى. عمل الحوالي رئيسًا لقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة أم القرى لفترتين رئاسيتين لثماني سنوات، وأُقيل من الجامعة بسبب مواقفه الرافضة للتدخل العسكري الأمريكي خلال حرب الكويت عام 1990.

اجتمع للحوالي صفتان؛ الحماس والثورة ضد مكتسبات وأطماع الغرب في بلاد المسلمين، والنشاط الفكري والسياسي الأكاديمي الذي دفعه لتسطير الكثير من الكتب والمقالات في اتجاه بعيد عن نمط الدين والتدين الكلاسيكي في السعودية. ويمكن القول إن الأستاذ محمد قطب – رحمه الله – كان العامل الأبرز والمؤثر في مسيرة الحوالي في مراحله الجامعية وما بعد الجامعية، حيث كان قطب هو المشرف الأكاديمي على رسالتي الماجستير والدكتوراه للحوالي في جامعة أم القرى بمكة، حيث تناولت رسالة الماجستير موضوع: «العلمانية: نشأتها وتطورها وأثرها»، وتناول موضوع الدكتوراه موضوع: «ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي»، وظهر بجلاء في مضامين الرسالتين اهتمام الحوالي، ومن خلفه قطب، بالبعد الفكري الإسلامي المعاصر والبحث عن تشوهاته وإشكالياته.

لا تخلو قائمة مؤلفات الحوالي من جملة من الكتب والكتيبات والمقالات المهمة التي مثلت شهرته كداعية ثائر ضد الحداثة الغربية ومنجزاتها.


الحوالي ثائرًا: وهج البدايات وتثوير الجماهير

كانت البيئة الفكرية والثقافية السعودية مشبعة بصراعات الإسلاميين والعلمانيين منذ الثمانينيات، وسمح النظام السعودي بتضخيم وتوسيع مساحات الصراع لشغل الإسلاميين عن نقد ومواجهة النظام، وبالتحديد رموز الصحوة الإسلامية آنذاك، الحوالي والعودة والعمر.

تعبر دروس ومؤلفات الحوالي في الثمانينات ومطلع التسعينات عن طبيعة الشاب النشط والمتحمس في سياق تديني يسمح بهذه الدرجة من المواجهة الفكرية والثقافية، وفي ظل حضور إخواني وسلفي سروري قوي داخل المؤسسات التعليمية والخيرية السعودية، وهو ما جعل من تراكم جهود الصحويين، ومنهم الحوالي، عامل بناء مهم لرأس مالهم الجماهيري فيما بعد.

ثار الحوالي على المنابر ضد الاستعانة بالقوات الأمريكية في حرب الخليج الثانية، وانتشرت مقالاته وأشرطته بصورة كبيرة بين الشباب الإسلامي، وبسط في كتابه «كشف الغمة عن علماء الأمة» خطأ فتاوى المؤسسات الدينية الرسمية بخصوص جواز الاستعانة بالقوات الأمريكية في الجزيرة العربية، وبذلك يكون الحوالي ورفاقه قد فتحوا جبهات عديدة إبان هذه الأزمة؛ جبهة سياسية مع النظام، وجبهة شرعية مع المؤسسات الدينية، فضلًا عن توسيع مساحة الممانعة الجماهيرية لكليهما، وبطبيعة الحال فجبهة العلمانيين والليبراليين السعوديين مفتوحة طوال الوقت.

لم يسمح النظام بمزيد تمدد لموجة الممانعة التي ولدها الصحويون، حيث تم إيقاف الحوالي والعودة عن الخطابة والدروس في المساجد بناء على توصية رأس السلطة الدينية آنذاك الشيخ ابن باز، ثم تم اعتقالهما في أغسطس/آب عام 1994، ليتم كبح جماح هذا الزحف الصحوي في الفضاء السياسي والاجتماعي السعودي.

اعتمد الحوالي في كتبه ومقالاته وخطبه على الأسلوب الخَطَابي الجماهيري، حيث كان دائم الحديث بقلم الخطيب والرسالي. ففي كتابه «وعد كيسنجر والأهداف الأمريكية بالخليج»؛ توجه لعلماء السعودية بضرورة تغيير مواقفهم السياسية، وحشد في كتابه ما رآه مخططات غربية وأمريكية لاحتلال الخليج العربي، كما أشار في محاضرة «العالم الإسلامي في ظل الوفاق الدولي» لنفس المعنى التحذيري من المخططات الأمريكية والغربية.

تجدد اعتقال الحوالي في الفترة من 1994 إلى 1999، وعقب خروجه عاود ممارسة نشاطه المقاوم للهيمنة والأطماع الغربية، حيث كتب في ذلك بيانًا للأمة بعد خروجه من المعتقل بعنوان: «الموقف الشرعي من أحداث 11 سبتمبر»، وبعدها كتب «رسالة من مكة… عن أي شيء ندافع؟»، وهي عبارة عن رد على خطاب للمثقفين الأمريكيين الذين برروا الحروب العسكرية لجورج بوش الابن، صدر بعنوان: «رسالة من أمريكا… عن أي شيء نقاتل؟»

ومع اعتقال الحوالي وخروجه، ثم مرضه في عام 2005 والذي أقعده وأثر على قدراته البدنية؛ خفت نجمه وأثره، ولم يبق إلا مجموعة أفكاره ورؤاه التي ورثها الكثير من الشباب الإسلامي، واشتغلوا فكريًا بناء عليها، فكان البعض يعمل من خلال أفكار سفر دون تطوير فعلي عليها، والبعض الآخر جعل جهوده وأفكاره مصدر إلهام للعمل الإسلامي الحركي والفكري بشكل عام.

يمكننا أن نعتبر أن منبر مجلة «البيان» التي كانت تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن، ثم مركز البحوث والدراسات الخاص بها؛ هما الامتداد الإعلامي والثقافي للصحوة وجهودها، حيث مثلت «البيان» مصدر التثقيف الفكري السياسي والعقدي لجل قطاعات السلفيين في العالم الإسلامي، واعتبر اشتباكها مع واقع المسلمين السياسي والفكري، من خلال الآلاف من المقالات والأبحاث، هو وقود استمرارها كمصدر رئيسي من مصادر التوعية السلفية الحركية، والذي تطور بعد ذلك في تجربة مجلة «المنار الجديد».


المسلمون والحضارة الغربية: الحوالي مجددًا في مواجهة النظام

منذ عام 2005، عام مرض وقعود سفر الحوالي، لم يسمع للرجل صوت أو يرى له حرف بسبب المرض الذي أقعده. إلا أنه وفي السنوات القليلة الماضية ظهر له كتابان:

الأول: «المعجم الوجيز»، وهو معجم ألفبائي يضم تعريفات مبسطة للعدد من المفاهيم والمصطلحات الفلسفية الغربية، القديمة والحديثة، وهو كتاب تجميعي لا أكثر.

أما الكتاب الثاني فهو: «المسلمون والحضارة الغربية»، ويقع في 3050 صفحة تقريبًا، ويبدو بالتصفح السريع أن الكتاب عبارة عن مذكرات الحوالي خلال السنوات الفائتة، وهو أشبه برصده وتحليله الشخصي، أو بمساعدة بعض تلاميذه، للأحداث التي جرت في العشر سنوات الأخيرة، ويبدو ذلك جليًا في وجود كثير من التفاصيل الحديثة التي ذكرها في الكتاب، وذلك يجعل احتمال كون الكتاب جمعًا لكتبه ومقالاته وأفكاره القديمة؛ أمرًا مستبعدًا إلى حد كبير.

لم يمر أسبوع على انتشار الكتاب إلكترونيًا، إلا وتم اعتقال الشيخ وثلاثة من أبنائه، وهو ما أثار حفيظة الكثيرين نظرًا لتقدم سن الشيخ وتأخر حالته الصحية. الكتاب يتضمن محاور كثيرة جدًا، وهو عبارة عن رؤية الشيخ الكلية للإسلام والغرب والسياسة والاجتماع الإنساني والمعرفة والعمل، ويبدو في مجمله أنه خلاصة خبراته وأفكاره وتحليلاته، ومضمونه يشير إلى بقاء الأفكار المركزية التي عاش عليها واعتنقها هي ذاتها لم تتطور كثيرًا منذ التسعينيات.

يتضمن الكتاب عشرة أبواب ومقدمة وملاحق، ولعل الصفحات الملتهبة في الكتاب تتركز في مقدمته وملاحقه الثلاثة، خاصة ملحق النصيحة لآل سعود، والذي حوى كثيرًا من الانتقادات على سياساتهم الخارجية والداخلية، بل وتشكيكًا في مشروعية احتكارهم للحكم في السعودية، ونقدًا لكثير من القرارات التي اتخذها سلمان وولده مؤخراً، داخليًا وخارجيًا.

فلم يترك الحوالي أمرًا إلا وسطر فيه نقدًا أو توجيهًا أو تلميحًا، وهو ما اعتبر شجاعة منه وإقدامًا على مواجهة النظام السعودي في الوقت الراهن. ولأن فلسفة بن سلمان الراهنة هي «سندمرهم تدميرًا»، قاصدًا الصحوة كما ذكر في خطابه المشهور في الإعلان عن مشروع «نيوم»، فلم يتأخر كثيرًا قرار اعتقال الحوالي وأبنائه وفق الاستراتيجية السلمانية الحالية تجاه الإسلاميين.

الكتاب ضخم للغاية، كعدد صفحات وكثرة وتنوع الموضوعات المطروحة، وأسلوبه متنوع بين أبوابه وملاحقة تبعًا للموضوع المتناول، لكن الواضح بين سطور الكتاب هو بقاء أفكار الحوالي الأساسية كما هي منذ التسعينيات، وخطابه المعادي للحداثة والحضارة الغربية جذري ومتأصل في بنى أفكاره، وخط الصراع الثنائي (الإسلامي – العلماني) متحكم في معايير رؤيته السياسية والشرعية، بينما الملفت للانتباه أن متابعات الرجل للأحداث والمستجدات السياسة والفكرية مذهل، وقراءاته للبحوث والدراسات الحديثة ممتاز جدًا لرجل في هذا العمر، حتى مع فرض وجود فريق عمل مساعد له، وتنوع معارفه ومطالعاته أيضًا مما يلفت الأنظار.

تعتبر أفكاره الحوالي ملهمة من الناحية العملية والحركية، كأستاذه محمد قطب، وليس ضمن تلاميذه من هو مشهور وممكن اعتباره وريث الحوالي وتلميذه النجيب، بل إن غالب من يعملون حوله يعملون من خلال مجموعات ساكنة بعيدة عن الضجيج والظهور، وذلك من وجهة نظري لوعي الحوالي وتلاميذه بطبيعة النظم السياسية التي يواجهونها.

يجدد هذا الكتاب، الذي أثار حفيظة نظام محمد بن سلمان، بواعث إحياء الصحوة وسياقاتها، ولم يبق بعد هذا الكتاب إلا أن نرى الحوالي يعتلي المنابر ويجوب المدن السعودية بخطابه الحماسي وممانعته المعتادة لأطماع الغرب في الجزيرة العربية، بل إن تتبعه لأدق تفاصيل الأحداث في مصر وتركيا وسوريا يعلمنا بكل سهولة بمضمون خطبة الجمعة المقبلة للحوالي إن كان يسمح له بذلك.