«لن أبذل أي مجهود»، كانت تلك الجملة التي جاءت على لسان الصحفية والكاتبة المصرية «صافي ناز كاظم»، أو بالأحرى «كيبوردها»، هي التريند الأول على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر خلال الأيام الأخيرة، التي كتبتها ردًا على أحد المعلقين الذي طلب منها عرض محتويات مكتبتها الخاصة بعد أن عرضتها للبيع بالكامل مقابل مليون جنيه، قبل أن تتراجع عن ذلك العرض لاحقًا.

ولم تتوقف المنشورات الباحثة عن «الإيفيه» عند هذا الحد، فأخذ رواد مواقع التواصل الاجتماعي ينقبون في التاريخ المصور للكاتبة المصرية، التي اشتهرت بإثارة الجدل، فكان من بين أشهر ما قالته عبارة «ألغي رحلتي» التي جاءت في مناظرة كانت على شاشة قناة «الجزيرة» نهاية تسعينيات القرن الماضي، قبل أن تنسحب من الاستوديو اعتراضًا على سياق الحلقة.

ولكن تقبع خلف تلك العبارات الكاريكاتورية إن جاز التعبير، شخصية تنتمي لطبقة النخب المصرية المرموقة في التاريخ المعاصر، ليس فقط لمشوارها الصحفي الطويل، ومؤلفاتها المهمة، ومواقفها الشجاعة، التي دفعت ثمنها غاليًا من حريتها، ولكن أيضًا للتحولات المفصلية التي شهدتها حياتها، والتي تتشابه إلى حد كبير مع تحولات المجتمع المصري خلال المرحلة الزمنية ذاتها، وربما تعبر عنها حتى.

ابنة جيل 52

نشأت «صافي»، المولودة عام 1937 بمحافظة الإسكندرية، في سنوات شديدة الحساسية من تاريخ مصر، حيث كان عمرها 15 عامًا في الوقت الذي قررت فيه خلية الضباط الأحرار الاستحواذ على السلطة وإقصاء الملك من المشهد السياسي.

تذكُر «صافي ناز» عن نفسها في أحد الحوارات الصحفية التي أُجريت معها ونُشرت في مجلة «أمكنة» أنها ابنة الجيل الذي شب على مجتمع جديد، مجتمع ما بعد 52، والذي بشّر بمساحات جديدة لم تكن موجودة من قبل.

فكان للحلم الناصري عظيم الأثر على تكوين «صافي ناز» الشابة، رغم أنها لم تكن من الأنصار المتحمسين للوحدة العربية على الطريقة الناصرية، وذلك يظهر في حزنها الشديد الذي عبّرت عنه في رسالة لأحد أصدقائها عند إعلان اتحاد مصر وسوريا عام 1958 بسبب اختفاء اسم مصر، واستبداله بالجمهورية العربية المتحدة، وفي المقابل تعبيرها عن سعادتها الغامرة عند انتهاء ذلك الارتباط بعدها بثلاثة أعوام.

ولكن ومع ذلك، كتبت «صافي» الشابة الحاصلة على ليسانس الآداب قسم الصحافة عديدًا من المقالات التي انتقدت فيها الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية الغربية وتأثيرها على السياسة والمجتمع، وخصوصًا خلال فترة إقامتها بالولايات المتحدة الأميركية التي استمرت لنحو ست سنوات تقريبًا وحصلت فيها على درجة الماجسيتر في النقد المسرحي وكذلك دبلومة الدراسات العليا في الصحافة.

كما سال مداد قلمها كثيرًا حول أحلامها في الإصلاح من خلال الثورات الاشتراكية التي من شأنها أن تحرر الدول المقهورة من سلطان الهيمنة الغربية ونظمها السياسية والاقتصادية والأخلاقية حتى.

لكن تجدر الإشارة في هذه النقطة بالذات إلى ما ذكره الصحفي الكبير «أحمد بهاء الدين» في المقدمة التي كتبها بنفسه لأول مؤلفات «صافي ناز» الذي صدر تحت عنوان «رومانتيكيات»، حيث أكد نزعة التدين الواضحة التي تسيطر عليها، بجانب إطرائه الشديد على موهبتها الاستثنائية في الكتابة وشخصيتها الملفتة الجريئة.

تلك النزعة التي ستتطور لاحقًا إلى التزام كامل، وربما خلال نفس الظرف التاريخي الذي تحول فيه المجتمع المصري، أو على الأقل الطبقة التي تفرز النخب، من يساري الهوى ذي نزعة متدينة، إلى مجتمع محافظ كما ينبغي أن يكون المجتمع المحافظ.

جموح امرأة

قبل ذلك بقليل، وتحديدًا حينما كانت «صافي» مجرد مراهقة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، قامت بمرافقة شقيقتها في رحلة استثنائية إلى سبع دول وبميزانية لم تتجاوز العشرين جنيهًا، وكان من بين الدول التي زارتها اليونان وإيطاليا وفرنسا وألمانيا، ونشرت يوميات تلك الرحلة في سلسلة مقالات بمجلة الجيل، والتي وصفها الكاتب الكبير «موسى صبري» بأجرأ مغامرة صحفية لعام 1959.

تذكرنا تلك المقامرة المجنونة ربما بالرحلة التي قام بها المناضل الشيوعي الأشهر «تشي جيفارا» عندما عبر وهو في سنوات شبابه أيضًا قارة أميركا الجنوبية من الجنوب إلى الشمال على متن دراجة نارية برفقة أحد أصدقائه، وربما لو عاش «الكوماندانتي» لعمر السادسة والثمانين مثل «صافي ناز» لكنا رأينا منه ما لا نتوقعه أيضًا، من يدري!

حملت «صافي ناز» تلك الشخصية الشجاعة والمقدامة معها طوال حياتها، فقد اعتقلت ثلاث مرات بسبب اتهامها بأنها ماركسية، كان أولها في يناير 1973، حينما شاركت في اعتصام طلبة جامعة عيش شمس للتنديد بزيف الشعارات التي رفعها الرئيس الراحل «أنور السادات»، وقد كانت صحفية ممنوعة من النشر في تلك الفترة، ذلك المنع الذي امتد من عام 1971 وحتى 1983. قبل أن تُعتقل مرة أخرى بعدها بفترة وجيزة، أما الأخيرة فكانت خلال حملة اعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة، التي أمر فيها «السادات» باعتقال جميع الشخصيات المعارضة لاتفاقية السلام مع إسرائيل، وكان على رأسهم المشاغبة «صافي ناز كاظم».

أم نوّارة الانتصار

لعل إحدى أشهر محطات حياة الأديبة «صافي ناز  كاظم» زواجها من الشاعر الكبير «أحمد فؤاد نجم» الذي جاء على خلاف قصص الحب المعتادة بين المثقفين والشخصيات العامة، وذلك حسب وصف «صافي» نفسها، وعلى عكس ما كان يدّعيه زوجها العم «نجم».

حيث طلب منها «نجم» الزواج بينما كانت قد انتهت للتو من قراءة سيرة الشاعر «عبد الله النديم» الذي وقعت في غرامه، أو بالأحرى في غرام معاناته، حيث كان مهجورًا ومطاردًا ومنبوذًا، ورغم ذلك لم يتنازل يومًا عن مبادئه التي دافع عنها.

تلك الشخصية الأسطورية للبطل النبيل وجدتها في «أحمد فؤاد نجم»، الذي تشابهت ظروفه خلال الفترة التي طلب فيها يدها للزواج مع ظروف شاعرها المحبوب، فكانت الموافقة الفورية هي الرد على استجداء «نجم»، وتمت الزيجة ورزقت «صافي» بابنتها في ثالث أيام معارك حرب أكتوبر، فسميت بـ«نوّارة الانتصار»، احتفالًا بتحرير أراضي سيناء المحتلة.

نحو اليمين قليلًا، أو كثيرًا

كما كان انتصار أكتوبر علامة فارقة في حياة «صافي»، كانت كذلك أيضًا نكسة 5 يونيو 1967، التي ربما ظهرت فيها «صافي ناز» بثوب إسلامي حاد لأول مرة، حيث وقفت لتقول: «نحن نقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، الله هو الأكبر، أكبر منكم جميعًا»، مضيفة بعض العبارات التي تؤكد السيادة الحتمية للشريعة الإسلامية وتهافت فلسفة الغرب، وذلك كما ظهر في الفيلم التسجيلي «أربع نساء من مصر».

وبرغم رد الفعل الحاد واضح المعالم، ظلت «صافي ناز» تحسب على التيار اليساري لسنوات، كما أنها اعتُقلت بعد ذلك بصفتها يسارية وليست إسلامية، رغم أنه لم يكن هنالك فرق كبير بين التيارين بالنسبة للسلطة، فجميع المعارضين غير مرغوب فيهم بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.

تلك النزعة المحافظة التي أٌعلنت عنها بقوة بعد تجربة الهزيمة القاسية على جموع الشعب المصري بشكل عام، أخذت في التطور لاحقًا لتصبح العباءة الفكرية المُسيطرة على عقل «صافي ناز كاظم» التي تحكمت في كافة آرائها، حتى إنها لا تجد غضاضة في أن تُعرّف نفسها بشكل واضح بأنها إسلامية قولًا واحدًا.

وقد تجلى ذلك الانحياز إلى اليمين في كتابها «سيدات البيت النبوي» الذي عبّرت فيه عن اهتمامها البالغ بنساء آل البيت ودورهن في الحياة السياسية والاجتماعية، وهو أمر غير مفاجئ في سياقه الطبيعي، لكن ربما يظل مدهشًا إذا ما قارنا ذلك الكتاب بأول مؤلفاتها «رومانتيكيات»، ذلك الكتاب الذي دار جزء كبير منه حول تأملاتها الذاتية في الموسيقى والشعر والفنون بشكل عام، ولم يخلُ من انحياز واضح نحو التجارب الاشتراكية المعاصرة.

وربما يمكن اقتباس ما قالته «صافي» في الفيلم التسجيلي المذكور آنفًا لتوضيح إلى أي حد ذهبت مناضلة الخمسينيات والستينيات اليسارية بعد كل التحولات الجوهرية التي طرأت على المجتمع المصري خلال الخمسين سنة الأخيرة.

دافعت «صافي ناز» الصحفية المرموقة وحاملة الماجستير عن الأمية! معتبرة إياها الدرع الذي حمى المجتمع المصري خلال فترة معينة من محاولات التغريب على حد وصفها، كما هاجمت فلاسفة الغرب بأسمائهم، هيغل وشوبنهاور، ونيتشه بالطبع، الذي حظي باهتمام خاص، فهو الذي قال إن الإله قد مات، فكيف لنا أن نسمح بتدريس تلك الأفكار للناس؟ أو هكذا قالت «صافي».

كما شددت على أن رجال الدين الذين يقولون لا إله إلا الله هم الأجدر بتولي مسؤولية تعليم الناس وقيادتهم بدلًا من رجال الفكر الذين لا يرددون سوى أفكار غربية لا تناسب مجتمعنا.

بالطبع لا يمكن اختزال المسيرة الطويلة والشاقة للكاتبة الكبيرة «صافي ناز كاظم» في آرائها المثيرة للجدل التي ركنت إليها في محطتها الأخيرة، بل بالأحرى ربما، علينا أن نفهمها في سياقها الأوسع، سياق التحول ذاته الذي طرأ على المجتمع المصري بشكل عام، والذي ربما تؤرخ له السيرة الذاتية العجيبة لبطلة روايتنا، فإن وقفنا على أسبابه، ربما وجدنا عذرًا مقبولًا لـ«صافي ناز»، لأننا بالضرورة سوف نكون قد وجدنا عذرًا مقبولًا لأنفسنا.

اقرأ أيضًا: صافي ناز كاظم: لا أهتم بمقطع «الغي رحلتي» وهذا سبب زواجي من نجم