“ينادون بالديمقراطية، والأحزاب، والانتخابات، والمجالس، وما أشبه، ويدلسون؛ كالرجل الذي يبحث في مكان فيه إنارة عن مفتاح ضاع منه في الظلام ابحثوا عنه حيث فقدتموه. في كتاب الله وسنّة رسول الله”[1]

هكذا كان تعبير أحد أكبر رموز السلفية المدخلية “محمد سعيد رسلان” عن كل التيارات الإسلامية وغير الإسلامية، التي اتخذت العمل السياسي والانخراط في الحياة السياسية مسارًا للإصلاح. ويمكننا دون مبالغة ان نقول بأن التيار المدخلي هو أكثر التيارات المصرية ثباتًا على موقفه وأقلهم في مراجعاته وتغير مواقفه.

نحاول في هذا التقرير التعريف بالتيار المدخلي وجذوره في مصر، وموقفه من الأحداث الكبرى في مصر قبل وبعد الثورة.

نشأة التيار المدخلي

نشأت السلفية المدخلية في المملكة العربية السعودية أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991م، بهدف رئيسي وهو تأييد القرار السعودي بالاستعانة بقوات التحالف ضد صدام حسين في غزوه للكويت. وكرَد فعل لتيار الصحوة الذي رفض هذا القرار وطالب بإصلاحات سياسية عديدة ممثلًا في سلمان العودة وناصر العمر وغيرهم. [2]

وتسمى بالمدخلية نسبة إلى الشيخ “ربيع المدخلي” أستاذ الحديث بالجامعة الإسلامية للمدينة وهو من أشهر رموزها، وتُعرف أيضًا باسم السلفية الجامية نسبة إلى الشيخ “محمد أمان الله الجامي” أستاذ بجامعة المدينة المنورة ومن أصلٍ حبشي. لكن التسمية الأولى هي الأشهر في مصر. [3]

و يرى التيار المدخلي نفسه كحركة تطهيرية داخل التيار السلفي، تحاول تخليصه من أدعياء السلفية، ولذلك تتسم بالحدة في النقد والشدة في توجيه الاتهامات وتصيُد الأخطاء لكل الحركات الإسلامية تقريبًا، وقد تكون فاقت بذلك بعض الحركات العلمانية والليبرالية.[4]

ومن أهم رموز التيار المدخلي في مصر الشيخ “محمد سعيد رسلان” ويُعد من أكبر رموز التيار في مصر، ويتميز بقدرة خطابية عالية وحضور قوى ومستمر، والشيخ “محمود لطفي عامر” والشيخ “أبو عبد الأعلى خالد عثمان” والشيخ “عبد الوهاب حسن البنا” والشيخ “على الوصيفي” وكان أبرز رموزه والسبب الرئيسي في ظهور التيار في مصر، الشيخ “أسامة القوصي” لكن حدثت له العديد من التحولات الفكرية والتي أدت لتغير مساره.

أسامة القوصي

السياسة عند المَدَاخلة

يعتبر التيار المدخلي أن جماعة المسلمين هي الدولة والسلطان ولا يصح الخروج عن جماعة المسلمين وأن حتى النصح للإمام يجب أن يكون في السر، لأنه في العلن يعد حالة من التهييج للناس على الإمام وباعثًا على عدم الاستقرار، ويوظف في التأصيل لهذا الغرض العديد من الآثار الواردة في كتب العقائد السلفية عن حرمة الخروج على الحاكم، وفتاوى العلماء النجديين (ابن باز – ابن عثيمين – صالح الفوزان).

يرى المداخلة بأن السياسة ليست من سبل الإصلاح في المجتمعات الإسلامية، وأن السبيل الوحيد للإصلاح هو الإصلاح الثقافي وأنه هو منهج السلف في الإصلاح وأي منهج آخر هو منهج موصوف بالابتداع والخروج عن طريقة السلف.

وبناءًا على ذلك، يرفضون كل نماذج الإصلاح الأخرى المتمثلة في الانتخابات او المظاهرات او الإضرابات او الأحزاب السياسية وحتى الجهاد المسلح.[4]

المداخلة قبل الثورة

بالطبع هذه السمات لن تؤدي إلا إلى تأييد مطلق للسلطان (الدولة ومؤسساتها)، وهذا ما يظهر بقوة في خطب رسلان ومقالات عامر ويمكننا أخذ إضراب الصيادلة ضد بعض الإجراءات التي اتخذتها ضدهم وزارة المالية في 2009 ورد الشيخ رسلان عليه كمثال لدفاعه عن الدولة ووقوفه في وجه الصيادلة، وزاد في عتاب شديد لهم وطال الهجوم أشخاص الصيادلة أنفسهم الذين رأى الشيخ أنهم كانوا من أبناء الطبقة الكادحة التي أصبحت الآن تنعم بالمال والرفاهية بسبب تجارة الدواء التي تدر ربحاً هائلاً وثاني أكثر الصناعات ربحًا بعد تجارة السلاح.

وأصَّلَ رسلان لحرمة الإضرابات والاعتصامات شرعياً، وساق في سبيل دعم حجته بعض الفتاوى التي صدرت عن بعض كبار الفقهاء في المملكة العربية السعودية، منها فتوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين الذي سُئِل عن حكم الإضراب عن العمل في بلد مسلم فقال: “إن قضية الإضراب عن العمل -سواء كان عملا خاصاً أو كان بالمجال الحكومي-لا نعلم له أصلاً في الشريعة الإسلامية يبنى عليه، ولا شك أنه يترتب عليه أضرار كثيرة بحسب حجم هذا الإضراب شمولاً”

ونجد الشيخ محمود عامر يطلب من البرلمان استصدار تشريعًا يُجرم فيه التعرض (للذات الرئاسية) حفاظًا على هيبة السلطان! ونجده أيضًا يكتب مقالًا كاملًا في نقد البرادعي أحد أبرز معارضي نظام مبارك معنونًا إياه بـ “الرجل الذي فقد عقله وظله”، والذي أفتى فيه بإهدار دمه والعنوان يَنُم عما في المقال. وموقف عامر من التوريث أيضًا يستحق النظر!

الشيخ محمود عامر

المداخلة في يناير

واستكمالًا للصمود المُدهش للتيار المدخلي على مبدأه، نظر رموزه إلى ثورة يناير من عدة جهات اجتمعت كلها على أنها شر محض لا خير فيها.

فنرى الشيخ رسلان يؤكد على أنها فتنة عظيمة، وأنها مؤامرة ماسونية صهيونية، وأن النظام الديمقراطي الذي تطالب به هو قمة الفساد والانحلال والبعد عن شرع الله سبحانه وتعالى.

ويتحدث في خطبة بعنوان “حقيقة ما يحدث في مصر” بأن التغيير الذي يطلبه من خرجوا في التحرير هو الخروج من الأطر القديمة كلها: عقدية وشرعية واجتماعية وأخلاقية وحياتية! ويستنكر “أَفِي أُمَّةٍ تَعْرِفُ التَّوْحِيدَ وَتَلْتَزِمُ بِالِاتِّبَاعِ تُشَاعُ شَائِعَةُ أَنَّ الْمُجْتَمَعَ يَحْتَاجُ الدِّيمُقْرَاطِيَّةَ؟” ويقرر بأن ” هَذَا مُنَافٍ لِلْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ “

ورد الفعل هذا يعد طبيعيًا جدًا، حيث أن الثورة تعد تحديًا صارخًا للتيار المدخلي، وكأن كل من خرجوا في ثورة يناير يرفضون قولهم وفكرهم.

ويُكمل عامر على نفس الخط مع رسلان وبدأ يؤصل لحرمة الخروج على الحاكم إبان الثورة فخرج في 26 يناير 2011 بمقال تحت عنوان “نصيحة” وآخر تحت عنوان “انتصارًا للسنة وليس انتصارًا لمبارك“، ولكن لمّا لم يستمع الثوار لنصيحته ومضى الأمر وتنحى الرئيس المخلوع مبارك، هدأت نبرته في الحديث، ودعا إلى الالتزام بطاعة ولى الأمر الجديد “المجلس العسكري“، واستمر على نفس خط رسلان في التأكيد في مقالاته على فكرة المؤامرة الصهيونية الماسونية.

المداخلة والإخوان

“فليس هؤلاء أهل الوعد الكريم ! ” هذا حديث رسلان عن الإخوان بعد الانقلاب العسكري بيومين في خطبته في أشمون بالمنوفية.

ولم يكن هذا أيضًا بمُستغرب، فالتيار متسق جدًا مع مبادئه وأفكاره والتي تعارض بشكل مباشر أي تيار يعمل بشكل جماعي مناوئ لحكام الدول الإسلامية، ولمّا كانت جماعة الاخوان هي رأس هذه التيارات كان الهجوم المدخلي على الاخوان كبيرًا جدًا فنجد كتابات عدة لأبي عبد الأعلى خالد عثمان منها “الكواشف الجلية للفروق بين السلفية والدعوات الحزبية” ونجد محمود لطفي عامر يكتب “تنبيه الغافلين بحقيقة فكر الإخوان المسلمين” ونجد علي الوصيفي يكتب “الإخوان المسلمون بين الابتداع الديني والإفلاس السياسي”، ثم نجد أكثرهم أثرًا وأأقواهم فعلًا هو الشيخ محمد سعيد رسلان في خطبه الرنانة مثل خطبة “ماذا لو حكم الإخوان مصر” في 2012 قبل انتخابات الرئاسة وأكثر من خطبة في انتقاد فكرهم وأعمالهم في عهد مبارك.

لكن اتساقًا مع مبادئهم كان يجب أن يعلنوا وجوب السمع والطاعة لولى الأمر الجديد وهذا ما فعله رسلان في خطبة بتاريخ 29 يونيو 2012، حيث أعلن بأن “ومنهج أهل السنة في معاملة الحاكم أو ولاة الأمور أن يُسمع لهم ويطاع في غير معصية، فإن أمروا بمعصية فلا سمع لهم ولا طاعة” وأن النصح والنقد لا يجب أن يكون على المنابر وفي الندوات ويجب أن يكون في السر. ثم اختفى تمامًا من المشهد السياسي فلا يُعلق ولا يُعقّب على أي شيء يحدث، ويبدو أن علاقته غير الجيدة بجماعة الإخوان هي التي منعت نصيحته عن الرئيس الأسبق مرسي طوال العام الذي حكموا فيه.

ولكن نجده في نهايات حكم الإخوان قبيل 30 يونيو يبث رسالة غامضة مُبهمة تحت عنوان “براءة وصراحة” تذم الحزبية والتشيع لفرقة ولجماعة، ويبدو أنه يعلن فيها معارضة غير مباشرة ضد مرسي وحكم الإخوان.

ويسير محمود عامر على نفس المنوال ويُعلن بيعته للرئيس الأسبق محمد مرسي بعد تغيير قيادات المجلس العسكري في أغسطس 2012، وذلك لما زعمه من تَغَلُّب مرسي وأنه أصبح ولى أمر تجب طاعته، ولكن عاد عن بيعته تلك قبيل 30 يونيو وزعم أن الشرط الذي دعم على أساسه الإخوان قد انتفى الآن.

التيار المدخلي والانقلاب

واستكمالًا لصمود رسلان وثباته على مبادئه وأفكاره، كان لابد أن يرى في انقلاب يوليو تصحيحًا للمسار وعودة عما رآه طريقًا مظلمًا، واتجاها كانت جماعة الإخوان تقود مصر إليها.

وكان أول رد فعل من المداخلة على الانقلاب هو خطبة الشيخ رسلان بعد يومين من الانقلاب في 5-7-2013 والتي أكد فيها على صحة ما حدث، وأعاد سرد العيوب والنقائص التي يراها في الإخوان المسلمين في خطبة بعنوان “حكم الإخوان. دروس وعبر“.

وتلاه في نفس اليوم رد فعل عامر والتي تحدث فيها عن أن الإخوان ديمقراطيًا مظلومون لأنهم لم يُكملوا فترة حكمهم، ولكنهم شرعيًا مدانون بعد ما فعلوه مع مبارك في يناير 2011، وأن ما فُعل فيهم في 2013 كان ردًا على ما فعلوه من إهانة لمبارك في 2011! ودعا المعتصمون في رابعة الى العودة عما هم فيه. ولكنه قال ذلك تحت عنوان “مصر بين مشأمتين. 25 يناير و30 يونيو” وتحدث عن أنه يجب أن يرضى الاخوان بالأمر الواقع، وأن يقلل الجيش من وطأته عليهم.

واستمر رسلان في كل مناسبة في الرد على الإخوان ووصمهم بالتكفير والتخريب والإرهاب، وبُثت له العديد من الخطب التي تعاديهم وتحث على مواجهتهم.

فنجده مثلًا يخرج في خطبة بعنوان “جماعة الإخوان الإرهابية” بتاريخ 27-12-2013، مشيرًا إلى إعلان السلطات المصرية الجماعة جماعةً إرهابية، وسماهم بـ”خُوان المسلمين”، وأنها إرهابية منذ أسسها حسن البنا، وأنها جماعة بدعية منحرفة. وتجده في خطبة أخرى يتحدث عن “التاريخ الأسود” للجماعة بعنوان “القاتل السياسي تربية الإخوان” ويصفهم فيها بالخوارج.

وحدّث ولا حرج عن تأييد الشيخ “أبي عبد الأعلى خالد عثمان” للانقلاب ودفعه للجيش والشرطة على قتال الإخوان “الخوارج”، ولم ينسى أن يذكرهم بضرورة تصحيح نيتهم واحتساب الأجر حتى تكون أعمالهم في ميزان حسناتهم يوم القيامة! وأن يقاتلوا “المفسدين” بعقيدة صحيحة. وقام بالتأصيل شرعيًا لفض اعتصامي رابعة والنهضة وأن ما حدث كان واجب الحدوث وان استخدام القوة كان لا مناص منه!

أما محمود عامر فنجده ينقطع عن التعليق على الأحداث لفترة طويلة نسبيًا ويخرج في النهاية بتكرار قوله عن حرمة الخروج على الحاكم إلا بشرطين أن يرتد أو يمنع الصلاة، وأن هذين الشرطين غير متوفرين في نظام السيسي، لذلك يَحرُم الخروج عليه.

وكان آخر مظاهر التأييد هذه، هو كتاب الشيخ محمد سعيد رسلان “قناة السويس الجديدة. توكلٌ على الله وأخذٌ بالأسباب” وهو تفريغ لإحدى خطبه التي تُمّجد في مشروع قناة السويس والذي سماه “مشروع القرن” وأنه فاتحة مشروعات تقيم الامة من كبوتها.

خاتمة

وحتى الآن يمكننا أن نقول إن السلفية المدخلية المصرية دومًا وأبدًا كانت إلى جانب الدولة، مهما كانت قيادتها ومهما كان قائدها وأيًا كان اتجاهها.

وفي النهاية يجب أن نوضّح أن السلفية المدخلية ليست تيارًا منظمًا كالدعوة السلفية أو جماعة الإخوان، إنما هي مجموعة من الشيوخ المتناثرين. والباعث على الدهشة هو قدرتهم على الصمود والثبات على المبادئ، وهذا الذي يدفعنا إلى السؤال المشروع. هل السلفية المدخلية فاعل حقيقي في الساحة المصرية يؤثر ويتأثر أم أنه مجرد أداة في يد من يريدون رداءًا دينيًا يصلون به إلى الناس؟!

الهوامش

[1] حقيقة ما يحدث في مصر، محمد سعيد رسلان، دار سبيل المؤمنين: ج3، ص58

[2] اختلاف الإسلاميين، أحمد سالم، مركز تفكر للبحوث والدراسات، ص114

[3] المصدر السابق، ص114

[4] اختلاف الإسلاميين، صـ 231 – 235