في أحد مطاعم البرغر الشهيرة، بميدان التحرير؛ صدمني المشهد التالي قبل حوالي الخمس سنوات، فتشرّبت تفاصيله واختزنته ذاكرتي، ليُفسّر لي فيما بعد كثيرًا من الظواهر التي أرّقتني، وحِرتُ في تفسيرها. شابٌ قصير الجلباب، طويل اللحية، قد غرق في كتاب لابن القيّم على منضدة داخل المطعم، وأمامه تجلس زوجه الأجنبيّة وقد ارتدت ثوبًا وحجابًا سابغين أسودي اللون. مكشوفة الوجه، وتلتهم وجبة أميريكية تقليديّة مكوّنة من شطيرة برغر وبطاطا مقليّة ومشروب غازي. وبين الحين والآخر تضع قطعة من البطاطا في فم الطفل المكبّل في مقعد مخصص له. وقد اكتملت اللوحة السرياليّة بتمايُل الزوجة مع أنغام موسيقى البوب التي سرت داخل المطعم كجُزء من الباقة التي تنطوي عليها الأيديولوجيّة الاستهلاكيّة. وحين أرادت الزوجة الحصول على قطعة من الحلوى؛ هبّ زوجها لتلبية طلبها بغير تذمُّر، وكأنه يُجنّبها «ابتذال» الوقوف في صفّ المشترين الطويل الذي اختلط فيه الجنسين.

مشهد آخر، وقعت أحداثه أيضًا قبل عدّة سنوات؛ قصّه عليّ أخ أحسبه مِن أخلص مَن عرفت من الدُعاة الأزهريين، وهو من المغضوب عليهم من المؤسسات الرسميّة منذ سنين لأنه لا يتورَّع عن قول الحقّ، ولو أدى ذلك لإيذائه. وقد لجأ للجمعيّة الشرعيّة بعد فصله تعسُّفيًّا من الأوقاف، لعلّه يستطيع أداء بعض ما ألزم به نفسه؛ كداعٍ إلى الله. فأرسلته الجمعيّة ذات مرّة، ليخطُب الجمعة في مسجد مُلحق بأحد المصانع الشهيرة، والتي يُعتبر صاحبها من كبار «ممولي» الجمعيّة. وحين طالت الخطبة عمّا يتوقّعه صاحب المصنع، الذي يحضُر الصلاة؛ لام الرجل الخطيب وقرّع المسئولين في الجمعيّة، بحجّة أنه لا يُدفع لهم عدّة ملايين كُلّ عام، ليُرسلوا له من «يُبدد» وقت العمّال. فقد بنى المسجد داخل المصنع لـ«يصون» أوقات الدوام من التبدُد. وقد انصاعت له الجمعيّة، التي اكتسبت صبغتها السلفيّة منذ النصف الثاني من السبعينيات؛ ولم ترسل الأخ ثانية، وأرسلت غيره ممن «يُحافظ» على أوقات العُمّال.

نصل إلى موقفين وقعا بيني وبين أخوين «سلفيين» ممن أعتزُّ بأخوّتهما، برغم اختلافاتنا. فقد كُنّا بصُحبة أحدهما ذات ليلة، وعرض علينا خطّة طموحة لأطروحة ينال بها درجة الدكتوراه. وتطرّق الحوار بطبيعة الحال لمشروعات كُلّ منا البحثيّة والفكريّة. فأفضتُ في الحديث عن مشروعي الذي أعكف عليه منذ أكثر من عقد، وحدّثته عن منطلقاته وأهدافه، وما أنجزت منه حتى اﻵن. وقد أصاخ السمع بشغف. وحين أنهيت حديثي؛ لطمني بعبارة حُفرت في وجداني كأنها لعنة: «اكتمال هذا المشروع سيُنهي كُل إشكاليات الفكر الإسلامي».

أما الموقف الثاني؛ فخلاصته أني دأبت على مناقشة الكثير من أفكاري مع أخٍ مُقرَّب، ولطالما ساعدتني تلك النقاشات على تطوير أفكاري. بل إنني كنت أحيانًا أوقظه في منتصف الليل لأعرض عليه بعض الأفكار، فيُشاركني الحماس، ويُعينني بسعة صدره في تطوير فهمي للظواهر. لكنه ذات مرّة فاجأني وفجعني بطلب غريب؛ أن أساعده في تكوين منهج ل«صناعة» المفكّر. وما فتئ يُلحّ عليّ إلى اﻵن في ذلك، برغم أنه يعرف موقفي من بعض المبادرات المشابهة، والتي ظهر على إثرها معهد خليجي التمويل لإعداد «المفكرين»؛ على غرار معاهد الدُعاة المنتشرة في الدول المسلمة، والتي لم يحدّ انتشارها من خروج الناس من دين الله أفواجا.

وأختم هذا التمهيد، الذي يُشبه العصف الذهني؛ بملحوظة عن طبيعة الكوادر الشابّة التي لجأ إليها حزب النور لتغطية النقص الشديد في الكوادر ذات الخبرة السياسيّة. فبما أن التيّارات السلفيّة (غير الجهاديّة) في مصر ليس لديها أيّة سابقة خبرة في العمل السياسي، بل إن بعضها أصلًا كان يُحرِّم على نفسه درس «السياسة الشرعيّة» إلا للحضّ على طاعة الحاكم وتحريم الخروج عليه؛ فإن تأسيس حزب النور والحصول على رُبع مقاعد البرلمان قد اعتمد بالدرجة الأولى على القاعدة الاجتماعيّة العريضة للدعوة، وليس على الحزب حديث الولادة، ولا على الكوادر أوالمشروعات أو الرؤى المفتقدة.

لكن طبيعة الأشياء تقتضي أن يشرع الحزب بتكوين قاعدة شابّة للتمرُّس بالعمل السياسي، فالقاعدة الدعويّة قد تكفي للإطلاق، لكنّها قطعًا لن تكفي كدعامة صلبة للاستمرار. والمتأمل لقاعدة الكوادر الشبابيّة لحزب النور، خصوصًا قبل الانقلاب؛ سيجد مُشتركًا هامًا بينهم، عدا الانتماء الأيديولوجي وطول اللحى. سيجد أن أكثرهم من حملة ماجستير إدارة الاعمال (MBA)، فضلًا عن «خبراتهم» كمدرّبي تنمية بشريّة وبرمجة عصبيّة، ومتخصصي «إدارة» … إلخ؛ إلى آخر حزمة المعارف التقنيّة/الإجرائيّة التي طوّرها الغرب، لإدارة الواقع المادّي، و«تحسين» كفاءة الترس البشري في الآلة الرأسماليّة.

صحيح أن هذه الباقة الإجرائيّة لم يستوردها السلفيّون مباشرة، وكانوا فيها تبعًا للإخوان وبعض رموز الإسلام «المعتدل»؛ إلا أن استخدام هذه المعارف الإجرائيّة، منذ استيرادها؛ قد اقتصر على المجالين الاجتماعيّ والاقتصادي، والذي اعتبره «المعتدلون» الأفق الوحيد المتاح للحراك، بعد أن سدّت الأنظمة الاستبداديّة كافّة مسارب العمل السياسي قبل ما يُسمّى ب «الربيع العربي».

أما الجديد في الحالة السلفيّة، فهو توظيف هذه المعارف لـ«إدارة» الواقع السياسي، وذلك في محاولة للحاق بالإخوان الذين سبقوا بخطوات واسعة (نظريًا على الأقل!). لقد كانت هذه الحالة سببًا ونتيجة بذات الوقت لظهور «الاعتدال» السلفي من بين صفوف ما عُرف ب«السلفيّة العلميّة»؛ صاحبة المواقف الأيديولوجيّة «الصلبة»!


إن كشف طبيعة العلاقة بين الوجدان الأمريكي/الإمبريالي و«السلفي» المثقل به؛ مسألة هامة لفهم سبب اعتناق أكثر المسلمين لأيديولوجيّة الاستهلاك العلمانية.

إن كشف طبيعة العلاقة بين الوجدان الأمريكي/الإمبريالي المعادي للتاريخ وذلك «السلفي» المثقل به؛ مسألة جدّ شاقّة، لكنّها غاية في الأهميّة لفهم سبب اعتناق أكثر المسلمين، الذين يعيشون في أوطانهم «المستقلّة»؛ لأيديولوجيّة الاستهلاك العلمانية. وقد اخترت الظاهرة السلفيّة لتكون محور المقال بسبب أيديولوجيّتها المثقلة بالتاريخ، والتي تتناقض ظاهريًّا مع الظاهرة الرأسماليّة الليبراليّة المعادية للتاريخ، وإن اشتركا في الرؤية الإمبرياليّة على المستوى الفلسفي؛ بجنوحهما لغزو باطن الإنسان وتفريغه والسيطرة عليه. لكنّ هذا التخصيص لا ينفي، بطبيعة الحال؛ اعتناق آخرين لذات الأيديولوجيّة الاستهلاكيّة، بل وسرعة دمج مهاجريهم في فردوسها (المجتمع الأميريكي)؛ وعلى رأسهم أصحاب أيديولوجيّات أخرى مثقلة بالتاريخ لدرجة الإرهاق؛ كالأقباط المصريين والشيعة الإيرانيين.

وسأتناول الظاهرة السلفيّة من ثلاث زوايا، بغير الإسهاب في قراءة واقعها ومواقفها السياسيّة بعد الانقلاب العسكري في مصر، إلا بما يخدم التحليل. زوايا أرى أنها الأكثر قُدرة على تفسير الأنماط السلوكيّة والنماذج المعرفيّة العلمانيّة، وربطها بنسق واحد مطرد.

أول هذه الزوايا هو المفهوم السلفي للوعي التاريخي وتجلّيات ذلك المفهوم ومثالبه، أو بعبارة أخرى: الخلل في المفهوم السلفي للأمّة باعتبارها مذهبهم-أيديولوجيتهم (أو فرقتهم الناجية). وبقدر من التعميم غير المخلّ؛ فإن الظاهرة السلفيّة ذات وعي انتقائي أيديولوجي. هذا الوعي الانتقائي الجزئي، أو التصوّر المتوهّم للأمّة السلفيّة «الممتدة» عبر التاريخ؛ لا يختلف بنيويًّا عن وعي أيّة أيديولوجيّة اختزالية بذاتها؛ فهو وعي تُشكّله الأيديولوجيا كنسق وضعي صراعي إقصائي، يؤصل لمساره بتأويل نصوص الوحي المؤسِسة (الكتاب والسنّة) من خلال مُعطيات مذهبيّة مُسبقة (مقولات زمكانيّة نهائيّة وليست معطيات منهجيّة يمكن تطويرها)؛ يُفترض لا إراديًّا أسبقيّتها على الوحي.

هذه العمليّة، التي تتم بشكل غير واع في الغالب الأعم؛ تؤدّي لتطوير مفهوم وتصوّر مناقض كُليًّا لمفهوم القرآن عن الأمة. إذ يعرض القرآن صورة الأمّة قصرًا من خلال مجالين: مجال الحراك الاجتماعي (البرّاني) المفتوح ممثلًا بالإجمال في جماعات المؤمنين وحواريي الأنبياء، الذين يتحركون بالدعوة عبر التاريخ وبغير تعيين؛ ومجال التصوّر (الجوّاني) والقدوة والرؤية الكونيّة الحاكمة، الذي يقتصر على الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم؛ فحسب.

وهذا التحديد القرآني لمفهوم الأمّة هدفه أصلًا ألا يتمزّق المجال الاجتماعي البرّاني، بعد توقُّف الوحي؛ نتيجة التمذهُب الحتمي الناتج عن اختلاف الأفهام (تفرُّد الجوّاني). فإذا كان اختلاف الأئمة المجتهدين في الفهم هدفه أصلًا التوسِعة على الأمة وحفظ حيويّتها، بحفظ قدرتها على التعاطي مع مُتغيّرات الزمان والمكان بكفاءة وحركيّة عاليتين في ضوء مركز وحيد هو الوحي؛ فإن ذلك يحفظ أيضًا مجالها الاجتماعي البرّاني من التجزؤ والتشظّي، وبالتالي يستعصي على الخضوع للطواغيت. فربط الأمة بالوحي ابتداءا، والوحي فقط؛ مع إتاحة مجال للاجتهاد، يتغيَّر باختلاف الزمان والمكان؛ هو ما يحفظ المجال الاجتماعي البرّاني مُنفتحًا مُتحّدًا عصيًّا على سيطرة الطواغيت؛ تكريسًا لحريّة الاعتقاد وحفظًا لاستقلال مجال الحريّة الإنسانيّة (الجوّاني) في الفهم والتلقّي، باعتباره مناط التكليف، ومظهر الخضوع المطلق للحاكميّة الإلهيّة وحدها دون غيرها.

إن الأولوية غير الواعية للمذهب على الوحي، والتي يفرضها التمركُز حول المذهب؛ تؤدّي لعكس المراد القرآني. تؤدّي لتمزّق الأمّة اجتماعيًّا بعد أن خرج اختلاف الأفهام من الرحابة الجوّانيّة لاختلاف المجتهدين بسبب الزمان والمكان المعيّنين، وانحدر ليكبل بالواقع المادّي، ويستخدم كأحد أدوات الصراع السياسي والاجتماعي في داخل الزمان والمكان. أي أن المذهب «السلفي» يتحوّل في هذا السياق إلى «مُنتج» لا تاريخي؛ بل مقدّس وفوق التاريخ، على المستوى النظري؛ برغم أنه تم تدنيسه عمليًّا بالتعامل (عن غير وعي) مع الواقع المادّي باعتباره مصدر المقولات الرئيسية للمذهب. ليُنافس المذهب الوحي، ويُزيحه في غالب الأحيان. وإن لم يكن المتمركز حول المذهب واعيًا بجوهر فعله.

إن الأولوية غير الواعية للمذهب على الوحي، والتي يفرضها التمركُز حول المذهب؛ تؤدّي لعكس المراد القرآني، ولتمزّق الأمّة اجتماعيًّا

إن استكمال «الثغرة» المتوهّمة في نسب الأمّة المتخيّلة، في الفترة ما بين انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه إلى زمن تشكُّل المذهب؛ سواء من خلال التعيين المذهبي لمجددي «الأمّة»، أو من خلال اعتبار بعض الأئمة السابقين أصولًا وآباء للمذهب، وتطويعهم باستخدام أدبيّاتهم، إن هذا الاستكمال في جوهره «أدلجة» لا تختلف في شيء عن أدلوجة الإمامة الإلهية التي شكّلت السرديّة الأيديولوجيّة للشيعة. وإذا كانت السرديّة الشيعية أكثر تماسُكًا على المستوى العقدي، لأنها تفترض تعيينًا إلهيًّا يصعُب دحضه بغير الرجوع للنص المؤسس الموحى به؛ فإن السرديّة السلفيّة أكثر تهتُّكًا لأنها تعتمد على التأويل المعتسَف لنصوص مُنتقاة من أدبيّات أئمة المذهب المختارين، وهو ما يسهُل دحضه لغويًّا ودلاليًّا بغير الرجوع مباشرة للنصّ المؤسس. إن هذا التحديد الضيّق لنسب الأمة المتوهَّمة هو في حقيقته تقويضٌ للوعي التاريخي القرآني، بوعي أيديولوجي زائف. ذلك أن المفهوم السلفي للوعي التاريخي يؤدي إلى اللاوعي التاريخي.

لقد اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يظلّ نسبُ الأمّة المحمّديّة، وأجيالها وفرقها؛ غير محدد تحديدًا صارمًا (كحالة بني إسرائيل مثلًا) إلا من الصلة التي يربطها القرآن مع الأنبياء والرسل. وذلك حتى ينفتح المجال للاجتهاد والتجديد اللذان يحفظان للأمة حيويتها بعد انقطاع الوحي وختم النبوة؛ الاجتهاد الذي لا يُقيّده سوى الوحي وسير حملته صلوات الله عليهم. وكل محاولة لرفع نسب جيل من أجيال هذه الأمّة في العلم بشكلٍ معيّنٍ ونهائيّ، كما تفعل أكثر الفرق الإسلاميّة؛ فإن ذلك يُضيف قيودًا وضعيّة على الاجتهاد. قيودًا تؤدّي قطعًا لانغلاق النسق الاجتهادي، وتشكُّل الأيديولوجيّا/المعرفة النهائيّة/المذهب/الفرقة.

والأيديولوجيا لا تتشكّل بطبيعة الحال بغير طوبيا مُتخيّلة تُبشِّرُ بها. ومن ثمّ، فإن تشكُّل الأيديولوجيا/المذهب يقتضي بطبيعة الحال وجود الأمة/الطوبيا؛ الفرقة الناجية بعينها، أو الشعب المختار موضع الرحمات، أو جماعة المؤمنين الوحيدة على وجه القطع. وكلّما زادت ضراوة الأيديولوجية/المذهب الصراعية؛ أصبحت معالم الأمّة/الطوبيا أكثر تحدُدًا على المستوى النظري، وأصبح «المؤمنون» أكثر قبولًا للحلول المشيحانية (المهدويّة) النهائية، التي ستوقِف التدافُع التاريخي متى اكتملت عدّتهم، لا متى يشاء الله. فظهور المهدي ونهاية التاريخ يرتبطان لا إراديًّا باكتمال العُدّة التقنيّة وانتصار المؤمنين «النهائي» والبرّاني على قوى الكُفر. فقد طوّع الإله لا إراديًّا لنُصرة المذهب؛ النصرة النهائية والأخيرة التي ستُنهي كل الصراعات. أو الحرب التي ستنهي كل الحروب كما يتواتر في كثير من الأفلام الأمريكية.

ولعل ما سبق يُفسّر ولع الأخوين المذكورين بالحلول «المعرفية» النهائية: نظريّة أو كتاب أو فكرة تحلّ كل الإشكالات وتُنهي التدافُع والصراع (على طريقة الحل النازي النهائي للمشكلة اليهوديّة!)، أو «خطّ إنتاج» معرفي يُخرج عددًا ضخمًا من المفكّرين، الذين سيؤدي تزايُدهم للاقتراب من حل كل المشكلات المعرفيّة والأخلاقية والفكرية والعقديّة، والوصول لليقين العقدي والإنساني النهائي؛ الذي تبدأ به الطوبيا/الفردوس الأرضي. وهو وهمٌ يُشبه إلى حد كبير أيديولوجيّة «العلم» التي سادت طويلًا في الغرب، ولم تبدأ بالانكسار إلا مؤخرًا. توهُّم أن «العلم» الكُلّي والمحيط بالكون والإنسان (بل والإله) ممكن، وأن المسألة فقط مسألة وقت؛ يُمكننا بعدها الولوج للطوبيا التقنيّة بنجاح.

ولعلّ هذا أيضًا يُفسّر الولع السلفي (وولع الإسلاميين المحدثين عمومًا) بالمعارف الإجرائية التي ذكرناها آنفا، والتي ستتيح لهم إدارة الواقع بكفاءةٍ تامّة، وتتم عليهم «نعمة» التحكُّم فيه! لقد ازدادت الحرارة المشيحانية بعد تأسيس السلفيين لحزب النور وصعودهم في البرلمان، ثم تحالُفهم مع العسكر بعد الانقلاب، فتوهّموا قُرب تحكيم «الشريعة»؛ لتُملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورا. وفي هذه الطوبيا لن نحتاج للسياسة «الشرعيّة»، كآليّة للتدافُع؛ في المجتمع الذي لم يعد مُنفتحًا بالوحي، بل ستكفينا «علوم الإدارة» كآليّة للتحكُّم في الواقع المقموع بالشرك؛ لترتكس الإنسانيّة إلى جمهوريّة أفلاطون!

إن هذا الوعي التاريخي الأيديولوجي الزائف لا يختلف في جوهره عن الوعي الذي تُشكّله أيّة أيديولوجية أخرى؛ من الماركسيّة اللينينيّة إلى الرأسماليّة النيوليبراليّة. ففي مثل هذا النوع من السرديّات التاريخيّة الانتقائيّة، ذات البنية المعرفيّة الوثنيّة؛ ليس ثمّة فارق كبير بين توثين ماركس ولينين أو توثين أحمد بن حنبل وان تيمية رحمهما الله، أو بين التعبُّد في محراب الطبقة الاجتماعيّة اللاتاريخيّة (البروليتاريا) أو الطبقة العلميّة التي انتقاها شيوخ المذهب ورفعوها إلى مقام أسمى من التاريخ.

إن الوثن يُصبح هو القدوة السلوكيّة والمرجع الأخلاقي والمركز العقدي؛ نظريًّا فحسب. أما على المستوى العملي، فإنه يتمّ توظيفه لخدمة القائم بترشيد الواقع. إن تجسُّد هذا المفهوم السلفي للوعي التاريخي في الواقع يؤدي مُباشرة إلى الحلول، وهي الزاوية الثانية التي سنتناول منها الظاهرة السلفيّة: حلول المركز/المطلق في التاريخ، وإكساب ذلك التاريخ قداسة الوحي، وهو حلولٌ مؤقت ومرتبط بتوظيف المركز لخدمة الواقع وتسويغه، أو محاكمة المخالف لتراث قد لا يعرف عنه شيئًا؛ وليس حلولًا نهائيًّا مثل حلول المركز في الفرد البيوريتاني «المؤمن»، لتحقيق الخلاص الفردي. فتجد مثلًا أن كل شيعي عند هؤلاء هو بالضرورة رافضي، وهو إلزام بحرفيّة التراث المدوّن، وتقويض للإنسانيّة وتعامي عن الواقع، الذي يشمل فيما يشمل مثلًا: الشيعي اللامبالي بالدين. إنه يُحاكم الجميع إلى عقيدة نظريّة سكونيّة ستاتيكيّة، وليس إلى تصوّر يتغيَّر بحركة الوجدان الحيّ داخل التاريخ. وبرغم أن السلفي يعتقد نظريًا أن الإيمان يزيد وينقُص بالعمل، إلا أنه اعتقادٌ نظري لا ينبني عليه عمل، فقد أقفل «صندوق» الملّة على آخر متن عقدي ظنه الحق.

إن الوثن يُصبح هو القدوة السلوكيّة والمرجع الأخلاقي والمركز العقدي؛ نظريًّا فحسب. أما على المستوى العملي، فإنه يتمّ توظيفه لخدمة القائم بترشيد الواقع

ولهذا الحلول ثلاثة تجلّيات رئيسيّة، لا يعتقد فيها المؤمن السلفي فحسب؛ بل يعتبرها قُربى لله، برغم أنها تُعطّل نظريًّا صفات الألوهيّة. فالحلول والتجسيد يؤدّي لذات النتيجة التي تؤدّي لها المفارقة واللامبالاة: الإله المعطّل؛ إما بسبب لا مبالاته أو بسبب لا مبالاة موضع الحلول به. فإله نيوتن، الذي صنع الساعة وفارقها ولم يعد يعبأ بها؛ لا يختلف في شيء عن إله الصهيونيّة الذي حلّ في الشعب المختار، فلم يعد الأخير يعبأ به، بما أنهما اتحدا أصلًا وانطبع الشعب به وبإرادته. إنه في الحالتين إله مُعطّل الحاكميّة في الواقع الاجتماعي البرّاني، برغم أنه حاضر غالبًا على مستوى التوظيف الاجتماعي والسياسي لحساب الطائفة/الفرقة/المذهب. فهو إله يضمن تجانُس الواقع وتوقّف التدافُع فيه لصالح الشعب الذي يُجسّده، لكن لا يُمكن محاكمة هؤلاء المؤمنين إلى تعاليمه، فهم أنفسهم، على وجه القصر؛ يُجسّدون هذه التعاليم، ووجودهم هو التفسير الوحيد لها، وحركتهم لا تؤدّي إلا إلى الفردوس الأرضي. وهذه التجلّيات الحلوليّة هي:

1. الظنّ بأن كتاب ما (من تأليف بشر) قد يكون جامعًا مانعًا مُحيطًا الإحاطة التامّة بموضوع ما، ويكون فيه القول الفصل والحكم النهائيّ ومنتهى الحكمة وذروتها في أيّة قضيّة.

2. الاعتقاد بأن أي عالم/شيخ/مفكّر (من سوى الأنبياء) قد يكون في شخصه وعلمه وخلقه نهاية الأرب لكُل مريد/طالب/متلق. فيُقتصر عليه دون ما سواه؛ لأنه وحده الناطق بالحق/المحيط بالشرع/المتضلّع بعلوم اﻷولين واﻵخرين.

3. علمٌ يقينيّ لا يُداخله شك بكون فرقة/طائفة/جماعة واحدة مُتفرّدة بأعيانها وشخوصها (الذين لم يُحددهم الوحي الإلهيّ)؛ هي «الفرقة الناجية» والأمة الهادية والجماعة الإيمانيّة المعيّنة.

إنه إذا كان اليقين لازمًا في المنظومة التوحيديّة بقدر، وإذا كان الافتقاد إليه يؤدّي إلى العبثيّة، فإن الإفراط في اليقين (كما في الأمثلة السالفة) يؤدّي لتحوّل الحياة الدنيا (دار المعبر) إلى فردوس أرضي/طوبيا (دار مقرّ) يُغني عن اليوم اﻵخر أو يجعله على الأقل «مضمونًا» في حسّ المؤمن. ويُصبح العالم/الداعية/الشيخ مُخلّصًا مشيحانيًّا/مهدويًا لا ضلال بعده؛ بل لا إيمان ولا يقين إلا فيما يقول. ليتحوّل الكتاب/الفكرة/المذهب إلى كتاب لاهوتٍ مُقدّس لا يُمكن نقده ولا نقضه، و«يُرفع» من آمن به إلى مرتبة الشعب العضوي المختار موضع كل الرحمات قصرًا، وأعداؤه شعوب عضويّة منبوذة مُعرّضة للعنات فحسب. إن هذا التصوّر يختزل الإله (بشكل غير واع) إلى إله قومي/طائفي/عرقي. وهو إله وثني مُخترع لا يمُت بصلة لرب العالمين سبحانه وتعالى.

أما الزاوية الثالثة التي نسعى لكشف الحالة السلفيّة من خلالها فهي علمنة التديُّن؛ كسبب ونتيجة بذات الوقت للحلول/التجسُّد الذي يؤدي إليه زيف الوعي التاريخي الانتقائي. فالإله/المركز يحلّ في المؤمن، ويتجلّى الدين/الشريعة في التاريخ، ليؤدي تزايُد معدّلات العلمنة إلى أن يُصبح الدين «واقعيًّا»؛ يستمدّ معياريّته من الواقع ومن التجربة الإنسانيّة (التاريخ).

وإذا كانت معرفة الإله، عند بعض الصوفيّة؛ تتم من خلال تجربة شعوريّة باطنيّة جوانيّة تمامًا قد تتفلّت من الوحي، فإن معرفة الإله عند السلفي/البيوريتاني، الذي يتبنّى ذات التصوّر؛ تتم من خلال تجربة عمليّة برّانيّة تمامًا، توظِّف الوحي لحساب النجاح داخل الدُنيا، وتطلب هيمنة «الشريعة» على المجال القانوني البرّاني دون سواه، لئلا يأكل الإنسان/الذئب أخيه الإنسان/الذئب. فهيمنة «القانون الإلهي» فقط هي التي ستؤدّي لتقلُّص الذئاب، فالفطرة والضمير والأخلاق والتربيّة على مراقبة الله؛ أمورٌ يصعُب الاعتماد عليها في الطوبيا!

وبغضّ النظر عن الاختلاف الظاهري: التمركُز حول البرّاني أوالتمركز حول الجوّاني؛ فيبدو أن اختلال التوازُن بين البرّاني والجوّاني يؤدّي للنتائج عينها. ففي كلا الحالين يتمّ تجاوز الوحي (وتوظيفه)، ولو بشكل غير واع. ومن مؤشرات علمنة التديُّن التي يمكن رصدها في سياق الأيديولوجيات الإسلاميّة بشكل عام، والحالة السلفية بوجه خاص:

1. الاهتمام المفرط بالعمليّات الإجرائيّة والهندسيّة والمعارف التقنيّة التي لا علاقة لها بالقيم؛ تلك العمليّات التي تضمن كفاءة إدارة المجتمع ومؤسساته. ومنها تخصُصات الإدارة والهندسة والتنمية البشريّة، والتي تفشَّت بين أبناء هذه التيارات بحُجج مثل «إدارة الواقع» و«سقف الممكن» .. إلخ!

2. تزايُد المواقف الإمبريقيّة والواقعيّة، وتزايُد التفكير البراغماتي والنفعي والتجريبي. ورأس ذلك عقيدة المصالح والمفاسد الذرائعيّة، والتي أكسبت التيارات السلفيّة مرونة/حركية سياسية غير مسبوقة؛ فهو غير مجبر على ازدواج الخطاب لأنه ليس له قاعدة تنظيمية صلبة، بعد؛ يخشى تفكُكها. إذ أن الخطاب السلفي المصدَّر يلقى القبول بسبب المناورة الاجتماعيّة والسياسيّة بمركز واحد مُدّعى (السُنّة أو الشريعة!)، وذلك على العكس من الحالة الإخوانيّة التي يزدوج فيها الخطاب لمراوحته بين مركزين، الشريعة والتنظيم؛ فهو مُضطر لتصدير خطاب تنظيمي للاستهلاك الداخلي، ولو أعاق ذلك حركيته وأثر على مرونته. إن مُعدّلات العلمنة عند التيّارات السلفيّة، من هذا المنظور؛ أسرع كثيرًا من مثيلاتها عند التيارات الأخرى؛ خصوصًا الإخوان المسلمين.

3. تزايُد النسبيّة المعرفيّة والأخلاقيّة الناتجة عن تسوية الإنسان بالطبيعة، وتآكُل المطلقات والثوابت. وهو ما يحدُث بشكل غير واع، ونتيجة التبني الساذج والكامل لأيديولوجية الاستهلاك التي سنُخصص لها مقالًا.

وإذا كان الاهتمام الطوباوي بالعمليّات الإجرائية والهندسيّة ميسور الرصد، فإن تفكيك الكامن في الخطاب وتحليل المواقف بردّها للأصل الذي ارتضاه السلفيّون، نظريًّا؛ أكثر صعوبة بطبيعة الحال. فاﻷول رصد أُفقي إلى حدٍ كبير؛ أما الأخيرين فيحتاجان لتفكيك وتدبُّر وتأمل أكثر عمقًا. إن هيمنة الإجراءات والتفاصيل التقنيّة على التصوّرات الكُليّة هي التي تؤدي بشكل واضح لتزايُد النسبيّة المعرفيّة والأخلاقيّة، ومن ثمّ تسوية الإنسان بالطبيعة؛ باعتبار أن «إدارته» ممكنة كإدارة آلة ما.

إن كثرة التفاصيل التقنيّة المنفصلة عن الأخلاق/القيم لا تُضخّم السبب في حسّ الإنسان فحسب؛ بل تجعل السبب ذاته يُهيمن رويدًا رويدًا كمصدر لتحديد التصوّرات الكُليّة، وإعادة صياغة الوجدان الإنساني؛ الذي ذاب في التفاصيل الماديّة. وهذه الرؤية الماديّة اﻵليّة تتجلّى في تزايُد المواقف التجريبية/الإمبريقية والتفكير النفعي/البراغماتي. مما يقود بالتالي لتسوية الإنسان بالطبيعة؛ كسبب ونتيجة لتآكل المطلقات والثوابت.

والإنسان في هذه الحال يتبنّى نموذجين مختلفين، ولو بشكلٍ غير واع: نموذج ديني على مستوى التفاني في الشعائر التعبُّديّة، ونموذج علمانيّ في المجالين الاجتماعي والسياسي. فهو راهب في المسجد؛ لكنّهُ يترك عبادته وتعاليمها خلفه (بشكل غير واع) حين يلج المجال العام؛ إلا من أخلاقيّات متناثرة يتمّ علمنتها بفصلها عن أصلها بمرور الوقت.


إن الاجتهاد والتجديد شكلٌ من أشكال علمنة الرؤية المذهبية والدينية السائدة، بفتحها للاستمداد من الوحي، وتقويض المقدّسات الزائفة التي علقت بالممارسة والتصوّرات. لكن هذه العلمنة التي عادةً ما تبدأ عمليّة التجديد الديني بها، يجب أن تنتهي باستعادة «المقدّسات الحقيقيّة»؛ وذلك بإعادة تأويل النص الديني المؤسس. فنفي الألوهية عن كل شيء يجب أن يُتبع بإثباتها لله وحده لا شريك له، وليس للتاريخ البشري في تأويل كتاب الله (لا إله .. إلا الله). إن التجديد الحقيقي لا يعني سوى تصحيح سلوكنا على درب لا إله إلا الله. وقد برزت أكثر التيارات السلفيّة في مصر بالأصل لحاجة اجتهاديّة فشل الأزهر في تلبيتها، وهي إجابة أسئلة الصحوة والإحياء، أو كيف يعرُج الفرد والمجتمع إلى الله؛ والتي تشوّشت إجابة الإخوان عنها بشكلٍ واضح منذ منتصف السبعينيات.

وقد كان الفشل السلفي في الاجتهاد حتميًا بسبب فساد المنطلقات وضمور الحركة؛ فآل الأمر بأكثرهم إلى عقيدة نظريّة جامدة مُلفّقة، وليس إيمانًا يزيد وينقُص بالعمل. ذلك أن المنطلق السلفي باﻷصل كان استدعاء التاريخ البشري ومحاولة إعادة إنتاجه والتحاكُم إليه، بدلًا من استدعاء النص الإلهي المتجاوز للتاريخ؛ ومن ثم كانت النتيجة الطبيعية أن ترفض التيارات، التي نشأت بدوافع «اجتهاديّة»؛ الاجتهاد، وتكتفي بترجيح خيارات مذهبيّة مُعيّنة تدعم صورتها الذهنيّة عن الواقع التاريخي الذي تُحاول إعادة إنتاجه، لينتهي بها المآل كذراع مُحافظ رجعي من أذرع السلطة، لا يختلف في شيء عن المؤسسة الأزهريّة المتكلّسة. لقد كان سجن المذهب المتخيَّل هو سقف «الاجتهاد»، وهو ما أدى بشكل غير مباشر لأسلمة مظاهر الواقع والتعامل معها بمنطق التسويغ والتبرير (راجع مقالنا السابق، إسلاميون أم مسلمون؛ بجزئيه).

إن السلفي سجين تقليد يريد إطالة عُمره، لكنه غير قادر على إعادة الاجتهاد في ظلال الوحي. وقد تزامن مع هذا الفشل في الاجتهاد الأصولي، والذي واكبه انغلاق معرفي؛ تزامن معه انفتاحٌ إعلامي وتجاري وسلوكي على الكفار، انفتاح أثمر تقليدًا حرفيًا لأنماط معيشتهم، ما لم تخالف ظاهر النصوص. وعلمنة السلوك أيسر كثيرًا من علمنة الرؤية، وهي الباب الملكي لعلمنة التصوّرات بطبيعة الحال. كذا كان التمركُز حول الذات، الذي يتجلّى في فكرة الخلاص الفردي، قلب المنظومة السلفيّة؛ مساحة هامة تقاطعت فيها الأيديولوجية السلفيّة الطهوريّة مع الأيديولوجية الاستهلاكيّة التي يروّج لها المجتمع الأمريكي البيورتاني القائم على الفرديّة. لقد التقت عقيدتا الخلاص الفردي، واتحدتا بانتصار عقيدة الخلاص بالسلعة. ومن ثم كان من الطبيعي أن تظهر مجموعات مثل: سلفيو كوستا، وسلفيو حزب الدستور، وغيرها من الجيوب التي شرع خطابها وتصوّراتها بالانسجام مع سلوكها الاجتماعي. لقد كان ظهور هذه الجيوب تعبيرٌ حاسم ليس عن تعرّي قلب الأيديولوجيّة السلفيّة الحداثي فحسب، بل عن علمنة نموذج التديُّن الذي تحمله وتروّج له. علمنته لتوقُّفه بعد تقويض المقدّسات الزائفة، واستدعاؤه لمقدّسات أخرى أكثر زيفًا. مُقدّسات سلوكيّة تنتمي لسياقات دينية وحضاريّة شركيّة.

لقد ظهرت الحالة السلفيّة المعاصرة كمذهب رد فعل على التغريب وتفشّي مظاهر الشرك، فأفرطت إفراطًا أدى لشلّها وانفراط عقدها، واختزل محاولاتها في الشطر العلماني الأبتر الذي لم تستطع استكمال بناءه الإيماني، وجعل الآبقين من سطوتها مُجرَّد ردود أفعال بائسة على إفراطها في التمركُز حول قيم معينة؛ بتمام التفريط في تلك القيم، ولو أدى ذلك لخروجهم من الملّة.

لقد أدى عدم اكتمال المحاولة التجديدية لانجرافها للصد عن سبيل الله. وأخشى ما أخشاه أن يكثُر عدد المفارقين للملّة من التسلُّف، الذي يتآكل فلا تبقى منه سوى نطاعته.