إحدى ميزات الكتابة التاريخية عند الراحل صلاح عيسى (1939 – 2017)، هي أن القارئ يشعر أنه يحكي لا يؤرخ، يلتقط التفاصيل الدرامية في القصة بعيداً عن قوالب المنهج التاريخي المعتاد في سرد الأحداث، يركّز على نقاط القوة والذروة، ويفند أصل الحكاية وأصل الشخصيات.

في «رجال مرج دابق» لم يهتم بالمعركة، بل بنتائجها، بكيف وصلنا إلى هنا، إلى المعركة الفاصلة التي انتهت بسببها دولة المماليك، وقامت على إثرها دولة العثمانيين.

هل كان فتحاً أم غزواً؟

ظن الذين يقتنون الطبعة الأولى من كتاب «رجال مرج دابق» الصادرة عن «دار الفتى العربي» سنة 1983، أن ثمة تغييراً سيطرأ على الغلاف، لأن عيسى ألحق باسم الكتاب جملة «قصة الفتح العثماني لمصر والشام»، وما إن صدرت الطبعة الحديثة عن «دار الكرمة» بنفس الجملة، ثار كثيرون ممن يرون أن دخول العثمانيين إلى مصر لم يكن فتحاً، بل كان غزواً، على سبيل المراجعة التاريخية «الحميدة»، في ضوء أحداث جارية، تتداعى معها أحداث الماضي.

ولكن تلك المراجعة التي أقامها الأشخاص العاديون المدفوعون بكراهية العثمانيين وأحفادهم الحاليين، ومعهم كثير من المؤرخين، لا بد أن تنسحب على التاريخ كله، فماذا تسمى إذن قصة دخول الفاطميين إلى مصر، وماذا يسمى دخول العرب في البداية؟!

كلمة «غزو» في المعجم الوسيط من الأصل «غزا»، و«غزا العدو» أي سار إلى قتالهم وانتهابهم في ديارهم، أما كلمة «فتح» فإن أضيفت لها كلمة البلد، فتصبح «فتح البلد» أي غلب عليها وتملكها، ولكن معظم المعاني الموجودة لنفس الكلمة تشير إلى اللين والطواعية في الفعل، وهو فارق لغوي كبير بين المعنيين، فالجيوش التي سار بها السلطان سليم الأول إلى مصر والشام، كانت بهدف الغزو والقتال ونهب الديار، كما هو في المعجم، حتى لو استمرت الدولة مئات السنين.

أما دخول الفاطميين- الذين قامت دولتهم في المغرب العربي- إلى مصر، فرُغم أن المواجهة العسكرية كانت عاملاً حاسماً في السيطرة، إلا أن مجموعة المبشرين بالمذهب والدولة الفاطمية كانوا منتشرين في أرض مصر بشكل كبير في أواخر الدولة الإخشيدية، وهو ما مكَّن الفاطميين سريعاً من أن يثبّتوا أركان دولتهم التي استمرت نحو قرنين من الزمان.

التفسير الوحيد لاستخدام عيسى كلمة «فتح» على غلاف الكتاب، وفي بعض من أجزائه، ربما لأنه رأى أن مصر وقتها كانت تحت الحكم المملوكي، وهم كذلك ليسوا مصريين، وأن ما حدث في «مرج دابق» وما بعدها كان مجرد صراع غزاة على قطعة الأرض الطيبة، التي لم يكن سكانها الأصليون يمتلكون حق حكمها بعد.

الطريق إلى «مرج دابق»

صلاح عيسى كان باحثاً بارزاً، لا يؤرقه أمرٌ سوى كيف وصلنا إلى النقطة التي نتحدث عنها. وفي كتاب «رجال مرج دابق» أفرد صفحات طوالاً عن الطريق إلى المعركة، فلم يكن قنصوه الغوري- آخر سلاطين المماليك- هو السلطان الوحيد في الدولة المملوكية الذي كان ينام وعينه وسط رأسه، لم يكن هو وحده الذي يتوقع بين لحظة وأخرى أن يثب عليه أحد الأمراء فينزعوا عنه عرشه.

تاريخ المماليك والخيانة طويل إلى درجة التشويق أولاً والذي يتحول إلى فانتازيا فيما بعد، فما الإطار الدرامي الذي نستطيع أن نضع فيه قصة ستة سلاطين جلسوا على عرش مصر في أقل من ست سنوات، حيث حكم بعضهم شهوراً بسيطة، وانتهى أمرهم جميعاً إما بالقتل أو بالسجن أو بالفرار في زي النساء، أليست فانتازيا؟

ثم هل أتاكم حديث طومان باي الأول؟ وهو ليس الأمير البطل، الذي كان ظهوره في كتاب صلاح عيسى كظهور المخلِّص في بلاد القهر والخيانة، فطومان باي الأول هو من انقلب على السلطان قنصوه الخال، وهو أيضاً ليس قنصوه الغوري، والخال هنا هو لأنه كان خال الملك الناصر الأشرف قايتباي، وهو بنفسه من قتله!

ولأن العين بالعين، فإن جزاء قتل قنصوه الخال هنا هو الحصار في القلعة وعلى يد طومان باي الأول، الذي حرض بقية الأمراء وقادهم في حملة للتخلص من قنصوه الذي تنكر في زي النساء وهرب إلى الإسكندرية. أسهم طومان باي الأول في صعود الملك الأشرف جان بلاط الذي كان يتقدم عليه في سلك الإمارة، وما كاد يستقر على العرش ويعترف بجميل طومان عليه فمنحه أرفع المناصب وجمع بين يديه ستة مناصب رفيعة، إلا أن الخيانة كانت تتحدث، خصوصاً عندما تحالف مع قاصروه فنصب نفسه سلطاناً على الشام، وحارب جان بلاط وهزمه، وصار طومان باي الأول الملك العادل. أي عدل هنا قائم على الخيانة؟

صلاح عيسى سمى طومان باي الأول «مهندس المؤامرات وصانع العروش»، وقد كان ذلك بحق، لا سيما أنه تخلص من قاصروه الذي ساعده في الوصول إلى عرش مصر بحجة أن قلبه خائف منه، لأن اللعب بالعروش هو هواية طومان باي، فخشي أن يلعب قاصروه نفس اللعبة.

سيطرت نظرية المؤامرة على الملك المتخلص من كل رجاله خوفاً من أن يلقى نفس المصير، حتى ظهر الأمير جان بردي الغزالي، وانضم إليه أمراء منبوذون آخرون، وهجموا على القلعة، ليضطر طومان باي الأول أن يهرب، ويترك مصر سلطنة مملوكية بلا سلطان.

كان فصل طومان باي الأول هو آخر فصول الدولة المهترئة التي حاول الغوري ترميمها، ولكن ما كان ينتظره أشد وأقسى.

فاسكو دي جاما في القصة

صلاح عيسى نسّاج حكايات، لا يكتفي بما يورده كتّاب التاريخ في كتبهم العامرة والذاخرة بالأحداث. بل يلتقط طرف الحديث ليذهب إلى عالم آخر، فقنصوه الغوري الذي وصل إلى عرش مصر في وقت صعب بعد مؤامرات ودسائس واهتراءات أصابت جدار الدولة المملوكية في مصر والشام، تحالف ضده الجميع، ليس أشخاص بل ميراث الخيانة والضعف والجهل الذي أصاب الدولة حينها بالشيخوخة والضعف.

ولكن يظهر اسم فاسكو دي جاما (1496 – 1524) المستكشف البرتغالي الشهير في القصة فجأة، ويتحالف مع كل عوامل الهدم، لإنهاء الحقبة التي سماها صلاح عيسى «سنوات العز». تم تكليف دي جاما من قبل ملك البرتغال، مانويل الأول، بإيجاد الأرض المسيحية في شرق آسيا، وبفتح أسواقها التجارية للبرتغاليين، تجنباً للطريق التجاري الذي تسيطر عليه دولة المماليك في مصر والشام، والذي يربطهم بالهند ودول الشرق الأخرى، بعد أن ضاقوا بتعنت السلاطين وعدم استقرار الحكم وتضاعف أسعار السلع الشرقية من عطور وبخور ومنسوجات.

قام الرحالة الشهير بمتابعة استكشاف الطرق البحرية التي وجدها سلفه، بارثولوميو دياز عام 1487، والتي تدور حول قارة أفريقيا عبر طريق «رأس الرجاء الصالح»، وذلك في أوج عهد الاستكشافات البرتغالية التي كان هنري الملاح قد بدأها قبله بسنوات، وسيطر أثناءها على حركة التجارة عبر مضيق جبل طارق وجزء من الساحل الأفريقي.

دي جاما كان أحد من كتبوا نهاية الدولة المملوكية التي كانت واحدة من أهم الدول التجارية في العالم، لما تمتلكه من موانئ على البحرين الأبيض والأحمر، وتمر بها تجارة الشرق والغرب، فتتقاضى رسوماً من هؤلاء وأولئك تملأ بها خزائن السلطنة.

المدهش أن قنصوه الغوري قرر مواجهة البرتغاليين في سواحل الهند، وبنى أسطوله وكأنه يريد محاربة طواحين الهواء. وللعجب فإن أسطوله كان قاب قوسين أو أدنى من هزيمة الأوروبيين، إلا أن المدد الذي طلبه قادته في المعركة غل يديه، خصوصاً مع حركات تمرد مستمرة في مصر. فكيف لرجل أن يواجه البرتغاليين في البحر ويواجه تمرد جنوده في البر، بينما يواجه أحلاماً وكوابيس عن الخيانة والتآمر في رأسه؟

الطرف الآخر من الحكاية

في منتصف الكتاب تقريباً بدأ صلاح عيسى الحديث عن الطرف الآخر من الحكاية، السلطان العثماني سليم الأول، الذي بدأ حياته السياسية في سن الـ13، حيث عينه والده بايزيد حاكماً على ولاية طرابزون، والتي ظل يشغل هذا المنصب نحو 30 عاماً، تابع خلالها كل ما يجري في المنطقة بعين الطموح. ذلك الطموح الذي جعله يطلب من والده أولاً بولاية أخرى أقرب إلى إسطنبول، بل وما هو أكثر عندما رفض ترتيبات بايزيد في تنصيب ابنه الأكبر أحمد سلطاناً على البلاد.

هنا يبرز طرف أكثر درامية في الحكاية، وهو خاير بيك أمير حلب التابعة لمملكة قنصوه الغوري. هنا التقى طموح سليم باستعداد خاير بيك للخيانة.

تبرز أصول الحكاية الشعبية في كتاب «رجال مرج دابق» بشكل أكبر من ظهورها في معظم كتابات صلاح عيسى التأريخية. بطل أساسي للحكاية وهو قنصوه الغوري، وبطل مصاحب وهو طومان باي، وبطل ضد وهو سليم الأول، وبطل مصاحب خائن وهو خاير بيك، أو «خاين بيك» مثلما أطلقت عليه الفطرة الشعبية، والذي لعب دوراً كبيراً في سقوط الدولة، وهزيمة الجيوش المملوكية في معركة المرج.

عيسى تعامل مع كل شخصية بعد أن شرحها نفسياً واجتماعياً وسياسياً، يكتب عن تحركاتها بفهم ووعي ليس بالتاريخ فقط، بل بالبيئة المحيطة بكل واحد منها. شخصيات عيسى في كتب التاريخ الخاصة به شخصيات درامية مرسومة بقدر كبير من الفهم والوعي لا يوجد عند قدامى المؤرخين.

الفصل الأخير: ظهور الشرف لطومان باي

تسارعت الأحداث، ومر الكاتب عليها مرور الكرام ليصل إلى فصله الأخير. التقى الجيشان في مرج دابق القريبة من حلب السورية، رفع الجيش العثماني بقيادة سليم الأول رفع الراية السلطانية وأربعين من المصاحف الشريفة في أكياس الحرير الأصفر، يزينها مصحف خطه الخليفة عثمان بن عفان، نفسه. بينما حمل جيش المماليك بقيادة قنصوه الغوري رايات وآيات قرآنية، متسلحين بإيمانهم بالدفاع عن مملكتهم الكبرى، لكنهم حملوا في الوقت نفسه ذنب إشراك خاير بيك في المعركة!

تسع ساعات من القتال كانت كفيلة لتبديد الدولة التي بدأت بخيانة شجر الدر، وانتهت بخيانة خاير. مات السلطان قنصوه في أرض المعركة، معلناً انتصار العثمانيين، ومعلناً ظهور البطل المصاحب للغوري، والذي صار وريثاً شريفاً في هذه القصة، وهو ابن أخيه طومان باي، الذي شُنق على باب زويلة بعد شهور قليلة من معركة «مرج دابق»، بعد أن تدافع عليه الخونة، ولكن ظل جزاء الخيانة يطارد خاير بيك، ومات بعد أن أصابته الأمراض، ويُقال إنه في آخر حياته كان باراً كريماً يوزع المال على الفقراء والمساكين، ولكن كان في موته راحة وطمأنينة ورحمة على البطل المملوكي الأخير طومان باي.

يعترف عيسى في الكتاب بأن السنوات التي حكمت فيها الدولة العثمانية مصر كانت مظلمة قاسية ناهبة للثروات والمآثر، وبددت آخر أمل في تواصل مصر مع ثقافات العالم القديم والجديد. يعترف في حكايته أن الخيانة هي التي أنهت دولة المماليك.