يجلس الشيخ صالح المغامسي، الداعية السعودي المعروف، في مسجد قباء بمدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واعظًا الناس ومبكيًا إياهم، يعطيهم جرعاته من الوعظ والترهيب والترغيب، ليشعل وهج الإيمان وحياة القلب في قلوبهم. بقيت شهرة المغامسي سنوات عديدة في هذا الإطار إلى أن صعد نجمه بين أروقة قصري محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، ومبشرًا بخطاب وعظي جديد يخدم سلطاني هذين القصرين.

هذا الصنف الجديد من الوعاظ المتزلفين للسلطة لم يكونوا من ذوي الرواج والطلب، إذ يتطلب العمل في التطبيل للسلطة خطابات فقهية وشرعية قادرة على إنتاج فتاوى وتوجيهات شرعية خادمة لشرعية النظام، ولم تكن النظم تطلب ترقيق قلوب شعوبها لديكتاتورياتها المستبدة والراغبة في تصدير خطاب الترهيب الشرعي والاجتماعي منها. لكن صالح المغامسي وافق هوى لدى أمراء الرياض وأبوظبي لتجديد الخطاب الديني بوجوه جديدة.


القياس على الوقائع التاريخية كمسوغ للقتل

في تصريح للمغامسي على قناة العربية الإخبارية يأتينا فيه بواقعة تاريخية ليصور بها تشابه حدثي قتل الصحابي الجليل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة مع قتل الفريق الأمني السعودي لجمال خاشقجي في إسطنبول.

واستخدم المغامسي هنا أسلوبين استدلاليين؛ الأول القياس الأصولي، والثاني قول/ فعل الصحابي، إذ الأول دليل من أربعة أدلة شرعية محررة وأولية كمراجع استدلالية شرعية وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والقياس والإجماع، والأخير مختلف على حجيته المستقلة والثبوتية. بينما يعتبر قول الصحابي دليل غير مستقل وغير مجمع عليه بين الأصوليين كمصدر استدلالي مستقل.

وبعيدًا عن التفاصيل الأصولية الدقيقة؛ فإن صنيع المغامسي يشير إلى خلل معرفي وشرعي واضح، إذ إن قصة قتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة لم تثبت برواية واحدة بين المؤرخين، كما أن ردود فعل الصحابة الكبار، أبي بكر وعمر، لم تكن متجانسة أو قريبة، ولولا كون أبي بكر الصديق في منصب الخليفة لكان من الممكن أن يكون لعمر بن الخطاب موقف مختلف عن موقف أبي بكر.

والحقيقة أن أصل فكرة استجرار المواقف التاريخية المشتبهة، كواقعة خالد بن الوليد، لتبرير صنيع كل من رؤوس نظامه، أي المغامسي، والمباشرين لعملية التصفية؛ تعتبر من باب السذاجة المعرفية والاستخفاف بوعي الناس وعقولهم، إذ كيف يمكن استباحة وتبرير قتل مسلم بشاهد تاريخي مضطرب ثبوتيًا ودلاليًا، ولا يرقى ليكون دليلًا في الأصل، ويكون مستند المغامسي عليه لتمرير رواية شرعية تعفي سلمان وولده وتجعل المنفذين مخطئين يستحقون المساءلة، دون الإشارة لاشتراك الرئيس والمرؤوس في الجريمة النكراء بحكم طبيعة المسؤولية التشاركية التي يتحملها من هو في مواقع القيادة السياسية.

ومما يزيد الطين بلة أن المغامسي يشبه صحابي جليل مشهود له وهو خالد بن الوليد، بمجموعة من رجال الأمن لا غير، بل ويسعى لتصدير أوجه تشابه بين حكمة أبي بكر الصديق بردود فعل سلمان وولده، ولم يراعِ ورود معارضة من عمر بن الخطاب لتصرفات خالد لطريقة الصديق في استجابته لصنيع خالد، رضي الله عنهم، جميعًا. بل ولم يراع توفر أدوات اجتهاد شرعي وعسكري للصحابة الثلاثة، بينما لا يعرف عن القتلة لا معرفة دينية ولا أمنية معتبرة، وكذا قياداتهم، فكيف يمكن قول هذا التخريج الفاسد من المغامسي؟؟!

إن عملية انتقاء الوقائع التاريخية المتفرقة وغير المحررة، وتنزيلها بين يدي مواقف حادثة؛ هي عملية تسمى في أصول الفقه بتحقيق المناط، لكنها للأسف يساء استخدامها بتلك الوقائع التاريخية لأغراض التبرير السلطوي، كما أن محاولة التذاكي في استخدام القياس كآلية استنباط لأحكام شرعية؛ مصيرها للفساد والبطلان، لأن الهرج المعرفي الشرعي الذي يمارسه المغامسي وطبقته يمكن لكل ذي بصيرة وقليل معرفة وصفاء فطرة أن يكشف خلل هذا المنطق وسوء صنيع صاحبه.

أنا لا أعرف التفاصيل لكن أعرف التبرير

ذكر المغامسي في تصريحه أنه لا يعلم تفاصيل ما حدث لينتج عنه قتل خاشقجي، لكنه وبكل أريحية جاءنا بحادثة خالد بن الوليد لينزلها على واقعة هو يجهلها، وليسوغ صنيع ملوكه بافتراضه كونهم لم يكونوا يعلمون ولم يأمروا بقتله!!

العجيب في الأمر تناقض الرجل وإصراره على ممارسة التبرير والشرعنة لما أملي عليه، ولم يبذل جهدًا في محاولة التثبت من وقائع وتفاصيل سفك دم مسلم ليمكنه الحديث والتصريح بما يراه من الإسلام من عدمه.

يقول ابن تيمية في «منهاج السنة»:

والسؤال للمغامسي: هل رأت أو تأولت مجموعة التحقيق مع خاشقجي ردته عن الإسلام، كما فعل خالد، ثم تبين لها، اجتهادًا منها، جواز قتله؟! وهل حوت هذه المجموعة من المجتهدين الشرعيين المؤهلين لإطلاق حكم شرعي متعلق باستباحة دم مسلم حرام دمه، كما ذكر المغامسي؟!


بين تبجيل الصحابة وحجية أقوالهم وأفعالهم

ثم يقال: «غاية ما يقال: في قصة مالك بن نويرة: إنه كان معصوم الدم، وإن خالدًا قتله بتأويل، وهذا لا يبيح قتل خالد … ومعلوم أن خالدًا قتل مالك بن نويرة، لأنه رآه مرتدًا … وبالجملة: فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد، والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم، وهذا مما حرمه الله ورسوله».

إن تعظيم الصحابة والإقرار بفضلهم وعلمهم، والتعبد لله بذلك؛ أمر مقرر من دين الله واتفقت عليه الأمة قاطبة، ولم ينازع في ذلك إلا بعض الفرق التي شطت وغلت، أما كون قول الصحابي وتصرفه المجرد بذاته دليلًا مستقلًا من أدلة الشرع وتبنى عليه أحكام الشريعة واستباحة دماء الناس وأموالهم؛ فهذا الذي ناقش العلماء في تحريره، وهذا محل البحث والنظر لتقرير مواضع الاعتبار والانتفاع من أقوال الصحابة وهديهم.

اجتهادات الصحابي لابد أن تكون مستندة لدليل أصلي من الكتاب والسنة، استخرج الصحابي بناء عليه الحكم اجتهادًا، وهذا عند التحقيق هو الدليل الأصلي للمسألة التي أفتى بها الصحابي، فلا يعتبر بذلك دليلًا مستقلًا، وإنما اجتهاد في التعرف على الحكم من دليل الكتاب والسنة.

فلا يخرج اجتهاد الصحابي عن عموم الاجتهادات في استنباط الأحكام، من جهة النوع، وإنما لاجتهاد الصحابي خصوصية في عموم الاجتهاد من جهة المرتبة، فاجتهادات الصحابة تتقدم في المرتبة على اجتهادات التابعين ومن بعدهم من أئمة العلم، لخصوصية طول الملازمة والتلقي من النبي، صلى الله عليه وسلم، ومشاهدة حاله الشريف في عباداته ومعاملاته وسائر شئون حياته، ومتابعتهم مواضع التنزيل ومقاصد التشريع، مما عظم معه فهمهم وفقههم في دين الله، عز وجل، مع ما ثبت لهم من فضل الصحبة ومراتب التزكية، وعلى هذا يكون قول الصحابي قرينة من قرائن الاستدلال بهذا النص على هذا الحكم في المسألة، ووجه معتبر في تفسير النص وحمل الدليل، ويكون قوله من قرائن الترجيح بين الأقوال المختلفة، أو طرق الاستدلال المتعددة في مسألة خلافية، لا على سبيل الدلالة المستقلة .

وتزيد المرتبة والاعتبار فيما يخص كبار الصحابة السابقين إلى الإسلام، والذين اشتهروا بين جيل الصحابة بالعلم والفقه والقضاء، أو الذين خصهم النبي، صلى الله عليه وسلم، بمزيد تزكية لعلمهم وفضلهم، كالخلفاء الراشدين والمبشرين بالجنة وما أشبه ذلك من مراتب الفضل والعلم.

وكذلك يزيد الاعتبار حتى يبلغ مرتبة الحجة الظنية الراجحة، فيما اشتهر بين الصحابة من أقوال واتفقت عليه اجتهادات كثير من الصحابة تصريحًا، أو اتفق عليه الخلفاء الراشدون تصريحًا، فمثل هذه الاجتهادات وإن لم تبلغ مرتبة الإجماع المحقق الاصطلاحي، إلا أنها ترقى لمرتبة الإجماع الغالب الذي يفيد غلبة ظن، والحجية هنا لا تلحق بقول الصحابي كدليل،. وإنما تلحق الدلالة الظنية المستفادة من الكتاب والسنة، الذي قام عليها اجتهاد الصحابي، ويلحق بها اتفاق جمع معتبر من الصحابة تصريحًا، أو اتفاق الخلفاء الراشدين جميعًا، فترقى لمرتبة الإجماع الغالب، وترتفع الحجة الظنية فيها إلى أعلى مراتب الرجحان.


قد يكون من المتصور أن الصحابي الجليل خالد بن الوليد لو كان سمع قول صالح المغامسي هذا لضرب عنقه لفرط افترائه وجرأته على الكلام بهذه الصورة، فالمغامسي نفسه يذكر أن خالدًا، رضي الله عنه، كان سيفه رهقًا، أي سريع الضرب به، ولا يعلم كيف يشتبه على المغامسي تشابه سيف الله المسلول بحفنة من رجال محمد بن سلمان لا يعلم عنهم معشار ما اتفق على فضل خالد، رضي الله عنه!!