على بعد نحو 400 كم فوق سطح الأرض، تراها هناك بالعين المجردة في أوقاتٍ محددة، تظهر كنجمة كبيرة متلألئة متحركة. هي نجمة بالفعل، نجمة زمانها ونجمة جيلها، ونجمة الحضارة البشرية التي تضيء في سماء الكون. إنها هي، محطة الفضاء الدولية التي شيدتها دول عدة، ولا تزال تدور في مدارها حول الأرض لأكثر من 20 عامًا.

ليست مجرد محطة أو منشأة فضائية فحسب، بل معمل علمي كبير ومتنوع، تعاقب فيه العديد من العلماء ورواد الفضاء من دولٍ وأزمنة مختلفة، كما أنها منشأة ذات أهمية كبرى لأولئك الذين لا تؤرقهم أخبار العلوم، بل سحر الكون فحسب، حيث استطاعت أن تُرينا كوكبنا من منظورٍ آخر، من الفضاء، من خلال مجموعة صور مذهلة التقطت من الأعلى. وعلى الرغم من أهميتها وجمال تفاصيلها، وجمال ما تصدره لنا، هل كانت هي المحطة الأولى في الفضاء، أم كان هناك واصلون أوّلون قبلها؟

الإجابة هي نعم بالطبع، كانت هناك مشاريع ومحطات فضاء أولى سبقتها، فلكل شيء جيد/ناجح بداية تتحمل الثغرات والإخفاقات، وتعطي الدروس من أجل الأفضل القادم. أعطى جميع الواصلين الأولين من محطات الفضاء فكرة متكاملة للمحطة التي يجب أن تبقى مدة أطول في الفضاء دون وقوع حوادث. كانت الوليدة الأولى لفكرة محطة فضائية، هي الروسية «ساليوت وان – Salyut I»، التي تحل ذكرى إطلاقها في الفضاء اليوم.


محطات الفضاء الروسية

كانت روسيا سبّاقة في مجال الفضاء، حيث بدأت الخطوات التمهيدية لبرنامج الاتحاد السوفيتي الفضائي في ثلاثينيات القرن الماضي عندما بدأ العمل في القاعدة الفضائية «بايكونور – Baikonur» في آسيا الوسطى. وفي أغسطس/ آب 1957، انطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات من هذه القاعدة في رحلة تجريبية، ثم في الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول 1957، تم إطلاق أول قمر صناعي في العالم «سبوتنيك وان – Sputnik I».

وفي 12 أبريل/ نيسان 1961، كان رائد الفضاء الروسي الراحل «يوري جاجارين – Yuri Gagarin» يدور في مركبته الفضائية «فوستوك وان – Vostok I» في مدارها حول الأرض، ليصبح بذلك أول إنسان يزور الفضاء.

اقرأ أيضًا: يوري جاجارين: رحلة صعود مغامر الفضاء الأول

بعد ذلك، وفي الفترة بين عام 1971 – 1982، قام الاتحاد السوفيتي بإطلاق سلسلة من محطات الفضاء، أطلق عليها اسم «ساليوت – Salyut» (تحيّة بالروسية)، حيث كانت على درجة متقدمة من التقنية بمعايير تلك المرحلة. فكانت المحطة مكونة من تصميمين منفصلين، يتم جمعهما مع بعضهما في مدارهما في الفضاء، كما صممت المحطة لتكون ثكنات معيشة للرواد الذين سيلتحقون بها لاحقًا، ومختبرات علمية، ومنصات استطلاع عسكرية في بعض الأحيان.

ساليوت وان – Salyut 1

أهم المشاريع التي حلّقت في الفضاء يومًا، كونَها أول محطة فضاء على الإطلاق، أطلقت إلى مدار الأرض دون طاقم على متن الصاروخ «بروتون – Proton» في الـ19 من أبريل/ نيسان عام 1971، ثم بعد يومين انطلقت المركبة المأهولة «سويوز 10» حاملة طاقمًا مكونًا من ثلاثة رواد باتجاه المحطة الفضائية، بقصد البقاء في الفضاء لمدة 30 يومًا.

بوزنها الذي يبلغ نحو 20 ألف كيلوجرام، وطولها البالغ 12 مترًا، بعرض أربعة أمتار، صممت «ساليوت وان» بهدف دراسة تأثير الطيران الفضائي لمدة طويلة على جسم الإنسان، بالإضافة إلى التقاط صور فوتوغرافية للأرض من الفضاء.

حمِلت المحطة الوليدة أيضًا تيلسكوبًا لدراسة أطياف النجوم، وجهاز تحليل نمو النبات، كما احتوت على لوحة تصوير وأفلام لدراسة الأشعة الكونية، وتيلسكوبًا يمكن أن يكتشف أشعة جاما القادمة من الشمس. لكن الفشل رفيق المشاريع الأولى دائمًا، حيث تضرر غطاء التيلسكوب الذي يحميه من أشعة غاما، وتوقف عن العمل.

اشتقت هذه المحطة من المنصة «ألماز – Almaz» العسكرية التي صممها مهندس الفضاء السوفيتي «فلاديمير شلومي» عام 1960، حيث صممت لتتكيف مع استخدام المركبة الفضائية المأهولة «سويوز – Soyuz»، التي طورها «سيرغي كوروليوف» لبرنامج هبوط القمر السوفيتي.

كانت محطات الفضاء المبكرة تعاني من الفشل، ولم يتمكن طاقم المركبة «سويوز 10 – Soyuz 10» من الالتحام بالمحطة عند وصولهم. تبعتها بعثة الطاقم «سويوز 11 – Soyuz 11» المكونة من ثلاثة رواد، والذين تمكنوا من المكوث على متن المحطة مدة 23 يومًا، لكنهم توفوا بعد تحطم مركبتهم في رحلة العودة إلى الأرض في يونيو/ تموز 1971.

تبِعت محطة الفضاء الأولى، شقيقتها الثانية «ساليوت تو – Salyut 2» التي فشلت أيضًا. لكن برنامج محطات الفضاء السوفيتي لم ييأس، وبدأ بالتعافي بسرعة من هذه الإخفاقات، حيث أنشئت سلسلة من المحطات الفضائية «ساليوت» وصولًا للمحطة «ساليوت فايف – Salyut 5»، التي بدأت تعطي مؤشرات جيدة على عملها. فبدأ روّاد الفضاء يمكثون فيها، وعلى متنها قاموا بإجراء عمليات مختلفة تنوعت بين المراقبة العسكرية والتجارب العلمية والصناعية، وإجراء اختبارات هندسية للمساعدة في تطوير محطات الفضاء من الجيل الثاني.

محطات فضاء الجيل الثاني

بدأ برنامج محطة الفضاء السوفيتية بالتطور مع ظهور الجيل الثاني من محطات الفضاء، والتي تمثلت في المحطة الفضائية «ساليوت 6 – Salyut 6» التي عملت بشكلٍ جيد، وكانت أولى ميزاتها هي طول مدة إقامة الرواد على متنها.

أصبحت فترة إقامة الرواد أطول، ومِثل الجيل الأول، تم إطلاقها غير مأهولة، ثم أُلحق طاقم روادها في وقتٍ لاحق على متن المركبة سويوز. تميّزت المحطة أيضًا بمنافذ لرسو المركبات القادمة من الأرض بعكس سابقتها، حيث سمح ذلك بإجراء العديد من العمليات الخارجية مثل التزوّد بالوقود، وإعادة الإمداد بعمليات الشحن الآلي من المركبة سويوز.

المحطة الفضائية مير

المحطة الروسية «مير – Mir» (العالم بالروسية) المكونة من وحدات أساسية متعددة، كانت أول محطة فضائية دائمة، أطلقت عام 1986. بلغ طولها 19 مترًا، وعرضها 31 مترًا، وبوزنها البالغ نحو 100 طن، بقيت في مدارها لمدة 13 عامًا، وعملت بشكلٍ مستمر طوال هذه المدة.

كانت المحطة هي الجيل الثالث من المحطات الفضائية التي طورها الاتحاد السوفيتي. تشابهت وحدتها الرئيسية مع سابقاتها من المحطات «ساليوت»، لكنها امتلكت ستة منافذ إضافية لرسو المركبات الفضائية، واستوعبت سلسلة من رحلات المركبات الفضائية المأهولة، وعمليات الشحن والتزود بالمؤن، بالإضافة إلى وحدات التوسعة التي أرفقت بها بشكلٍ دائم والتي جهزت لعمليات البحث العلمي.

احتوت المحطة على مرصد الفيزياء لدراسة الفيزياء الفلكية، ومعدّات دعم الحياة، ومختبر علوم المواد، ووحدات «سبيكتر – Spektr » و«بريرودا – Priroda»، وهما وحدات العلوم التي تحتوي على أجهزة الاستشعار عن بعد المستخدمة لدراسات بيئة الأرض من الفضاء.

دُعّمت المحطة أيضًا بمسكنٍ بشري في الفترة من 14 مارس/ آذار 1986 إلى 15 يونيو/ حزيران 2000، والذي شمل امتدادًا غير منقطع لمدة 10 سنوات تقريبًا. كما استضافت أكثر من 100 شخص من 12 دولة، بمن فيهم سلسلة من رواد الفضاء الأمريكيين الذين تناوبوا التواجد فيها في الفترة بين 1995-1998 كجزءٍ من مسعى تعاون مشترك.

في الفترة ما بين يناير/ كانون الثاني 1994 – مارس/ آذار 1995، سجّل رائد الفضاء «فاليري بولياكوف – Valery Polyakov» رقمًا قياسيًا لبقاء بشري في الفضاء، حيث بقي مدة 438 يومًا متواصلًا في الفضاء، أي أكثر من 14 شهرًا، وهي تقديريًا المدة الزمنية اللازمة لرحلة مأهولة إلى كوكب المريخ! أعلنت المحطة إنهاء خدمتها، وعادت إلى الأرض في الـ23 من مارس/ آذار 2001، حيث تحطمت لمثواها الأخير في جنوب المحيط الهادئ بعد رحلة عملها.


محطة الفضاء سكاي لاب الأمريكية

معروف أن هناك سباقًا طويل الأزل بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في مجال استكشاف الفضاء، ومشروع مثل محطة فضاء ليس بالهيّن. فأطلقت الولايات المتحدة الأمريكية محطتها الفضائية الأولى «سكاي لاب – Skylab» في مدار حول الأرض في الـ14 مايو/ آيار 1973، ثم وصل إليها ثلاثة طواقم متعاقبة من رواد الفضاء الذين قاموا بإجراء تجارب علمية لمعرفة مدى تكيّف جسم الإنسان مع البيئة الفضائية، ودرسوا الشمس بتفاصيل غير مسبوقة، وقاموا بعمليات رصد للأرض.

بوزنها البالغ 75 ألف كيلوغرام، وطول يبلغ 30.2 متر، وقطر يصل إلى 6.7 متر، كانت المحطة إحدى نتائج وتطبيقات برنامج «أبوللو – Apollo»، الذي أنشأته الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (NASA) عام 1965 من أجل تأهيل المركبات الفضائية والأنظمة المطورة لبرنامج هبوط القمر الأمريكي، إلى مجموعة متنوعة من المهام العلمية.

وكخطوة أولى نحو إنشاء منصة مأهولة طويلة المدى في الفضاء، استفادت المحطة من صاروخ «Saturn V»، الذي تم تجهيزه واستخدامه كوسيلة اتصال بين القاعدة على الأرض والمحطة الفضائية الجديدة. ساهم الصاروخ في نقل كميات صغيرة من الإمدادات. أما المحطة وعلى الرغم من محدودية مواردها، فإنها كانت قادرة على إجراء المزيد من الأبحاث العلمية بخلاف سابقتها السوفيتية الوليدة الأولى «ساليوت وان».

كانت أهم أدواتها العلمية هي «تيلسكوب أبوللو – Apollo Telescope Mount»، وعدد من المقاريب التيلسكوبية، وأجهزة أخرى لمراقبة الشمس فوق نطاق واسع من الطيف الكهرومغناطيسي من الضوء المرئي من خلال الأشعة السينية. استضافت المحطة الطاقم الأول المكون من ثلاثة أفراد، حيث قاموا بوضع مظلة شمسية خارجية حول المحطة لمنع ارتفاع درجة حرارة المحطة خلال مهمتها التي استغرقت 28 يومًا. كما استضافت المحطة بعثتين إضافيتين مكونة من ثلاثة رواد، في مهام استمرت 59 و84 يومًا.

تقوم كل واحدة من بعثات سكاي لاب بوضع سجل جديد لمدى قدرة البشر على تحمل ظروف الفضاء والبقاء فيه. لم تدم المحطة سوى بضع سنوات، حيث تسبب النشاط الشمسي المتزايد في انخفاض مدارها أسرع من المتوقع. وفي 11 يوليو/ تموز 1979، دخلت المحطة الغلاف الجوي، وتهشّمت، وتكسرت، وانتثر حطامها على جنوب شرقي المحيط الهندي وغرب أستراليا.

أخيرًا، كانت لمحطات الفضاء الأفكار والبدايات الرائعة، وما حدث على مدار سنوات ماضية من اخفاقات مؤسف، وما وصلنا إليه أروع! حيث عِشنا برفقة محطة الفضاء الدولية الحالية سنوات ليست بالقليلة، رأينا فيها تاريخنا على الأرض، وتأملنا روعة تضاريسها ووجودنا فيها، وربما مستقبلنا في الفضاء، لكن لكل شيء نهاية.

فعلى الرغم من الإمكانيات والتقنيات الهائلة التي تتواجد حاليًا فيها، والتي تصلنا مباشرة برواد الفضاء على متنها، فإن نهايتها ربما توضع بشيءٍ ما، شيء ما ليس فشلًا تقنيًا على الأرجح، وإنما ربما ستباع وتشترى كأي منشأة عادية، أو تتحول لفندق فضائي للأثرياء جدًا في الأعلى!

اقرأ التفاصيل هنا: بعد ميزانية ترامب: من يشتري محطة الفضاء الدولية؟