يتحول موضوع القبيلة في كل منعطف تاريخي إلى ما يشبه الشبح، يطرده البعض من مخيلته بينما يجزم البعض الآخر أنه رآه متلبسًا بالأحداث متواريًا فيها. يظن البعض أن قوة الأيديولوجية القبلية تكمن في خفائها وعدم التصريح بها ولا انتقادها علنًا رغم حضورها في كل فعل أوحدث ذا دلالة اجتماعية أو سياسية، بينما يرى البعض الأخر أن القبيلة طور بدائي يسبق نشوء الدولة الحديثة ويتناقض معها، ومن ثم فلا جدوى من استدعائها.

وفي ظل الأزمة الأخيرة بين الدول الخليجية، يصبح التساؤل: أين القبيلة في هذا المشهد؟، ولمحاولة الإجابة على هذا التساؤل لابد من فهم العلاقة بين الدولة والقبيلة في المجتمعات الخليجية. ويتعين كذلك التخلص من هابتوس القرابة في التفاعل مع مفهوم القبيلة؛ أي التخلص من حصر القبيلة في الصلة القرابية، إلى فهم ما تفرضه القبيلة من تداعيات سياسية في هذه المنطقة [1].

لقد ركزت الدراسات التقليدية عن البداوة في العالم العربي، على الوصف الأنثربولوجي للقبائل، واعتبرتها وحدات اجتماعية منعزلة وحكمت بزوالها بفعل عملية التحديث المتنامية، وبفعل القوى الزاحفة للدولة القومية وجهودها في التوطين والاستقرار، ولكن هذه المقاربات تغاضت عن شبكة العلاقات التي تفرضها القبيلة، وما تفرضه القبيلة كبنية ذهنية ما زالت حاضرة حتى في المؤسسات الحداثية والشركات الكبرى،[2] فالقبيلة كنموذج للتنظيم الاجتماعي تتغلغل في البنى الجديدة، فتمتزج القبلية مع قوى البقرطة والتحديث.


القبيلة والدولة الحديثة

لقد واجهت القبيلة البدوية أزمتها الأولى مع نشوء الدولة الحديثة، حيث مَثّل تشكيل كيان سياسي جغرافي بالمفهوم الحديث عائقًا في وجه انسيابية حركة القبائل، لذلك كانت المساكن الثابتة هي سلطة الدولة لتكسير وتفتيت القبيلة؛ أي أن تغيير ذهنية أفراد القبيلة لجغرافية المكان ومفهوم الملكية ومعنى الوظيفة أدى إلى تغير معنى القبلية، ولكنه لم يقض عليها، فأصبحت القبائل جزءًا من جغرافية الدولة القومية حينما تم تسكين كل فخذ أو بطن أو عشيرة ضمن مشروع الدولة الإسكاني.

وخلقت سياسات التسكين، والانتقال من الملكية الجماعية إلى الملكية الفردية نوعًا من الحالة التضامنية تختلف والحالة التضامنية الأولى للبدواة السابقة. وقد ساعد النفط والبترول على ربط القبائل بالسلطة السياسية بصورة أسرع من المعهود. وأوجدت الدول المستحدثة تقسيمات جديدة للعمل، تنخرط من خلالها القبائل في مؤسسات الدولة الإدارية على المستويين المركزي والمحلي، فضلًا عن تمثيلها في مؤسسات الجيش والشرطة والحرس الوطني. يطلق «خلدون النقيب» على اندماج القبائل في بنية الدولة «القبلية السياسية»، ويصفها مسعود ضاهر بعملية الانتقال من البداوة الرعوية إلى القبلية البترولية.[3]

لا يرجع هذا الدمج بين الدولة القبيلة إلى قوة النفط فقط، ولكن وسع دور المدينة من دور الدين بصفته عاملًا موحدًا من عوامل التماسك للتأثير على الميول البدوية الفوضوية.

وقد تحقق دمج القبائل بطرق مؤسساتية شتى. وتمثل الكويت الحد الأدنى من حيث مأسسة هيئاتها القبلية، بينما تكون للهيئات القبلية صفة شبه رسمية على المستوى المحلي في السعودية وعمان والبحرين، أما الإمارات فتعد الهيئات القبلية مؤسسة من مؤسسات الدولة ينص فيها القانون واقعيًا على موقعها في المنظومة السياسة، ولكن لم يكن دمج جميع القبائل بمقياس متساوٍ، ففي معظم بلدان الخليج يجري التمييز بين القبائل وبعضها البعض، وفق معايير مختلفة كالأصالة مثلًا.[4]

ولا يرجع هذا الدمج بين الدولة القبيلة إلى قوة النفط فقط، ولكن وسع دور المدينة من دور الدين بصفته عاملًا موحدًا من عوامل التماسك للتأثير على الميول البدوية الفوضوية. ويظهر هذا جليًا في نشأة الدولة السعودية – كما يوضح نزيه الأيوبي [5]– فقد لجأ آل سعود إلى عدة أساليب لتوسيع القاعدة الاجتماعية للعصبة الحاكمة منها المصاهرة وإدماج العلماء في ماكينة الدولة وغيرهما من العوامل، ولكن ظل للأيديولوجية الدينية الدور الأبرز في تماسك الدولة والتحالف مع آل الشيخ وهم مؤسسو الحركة الوهابية. أما في دول الخليج الصغرى الأخرى أرغم غياب هذه الايديولوجية المتماسكة الدولة على اللجوء إلى اتخاذ ترتيبات توافقية، باستخدام الإغراء والقسر لمنع التحالفات القبلية، التي أسماها محمد الرميحي سياسة الجمع بين السيف والمنسف. فتم ربط الفئات التقليدية بالدولة بتعميق علاقات الراعي – الزبون، حيث يصبح التقدم الاجتماعي مشروطًا بالعثور على راعٍ متميز بين صفوف الأسر الحاكمة أو النخب القبلية والتجارية. فتضخم دور الزعامة، واعتبر مشايخ القبائل وسطاء بين “القبيلة المركزية” حاكمة “الدولة المركزية” وبين قبائلهم المتشظية ببطء. فقد أنتجت القرابة والنفط والدين أيديولوجية قبلية في المجتمعات الخليجية تتوافق ومفهوم الهيمنة كما يعنيه غرامشي حيث تغلغل في جميع الممارسات والمؤسسات.

ثمة دراسات ترى أن ميكانيزم العلاقة بين الدولة والقبيلة في شبه الجزيرة العربية في واقعها وكينونتها ليست إلا دولة قبلية حديثة، وأن الصراع والنزاع بين القبيلة والدولة، إن كان ظاهريًا ينتصر لصالح الدولة على حساب القبيلة، إلا أنه نوع من أنواع الصراع مع الذات، وتسارع وتيرة التعليم والاتصالات والتقدم في مجالات الصحة والتنمية الاقتصادية لم ينه الثقافة اللامادية للقبيلة ولم يتخذ أشكالاً راسخة في النسيج الاجتماعي للدولة.[6] فالقبيلة لا تنتهي بالتحضر، ولذلك ميز البعض بين القبائل البدوية والقبائل الحضرية. وفرق خلدون النقيب بين القبيلة العادية التي هي عبارة عن مجموعة العلاقات المتبادلة بين الأفراد والمبنية على القرابة، والقبيلة السياسية التي ترتكز على العصبية وعملها كمبدأ منظم يخصص موارد الجماعة ويحدد مواثيق الإدخال والاستبعاد المطلق من الجماعة، كما أن القبيلة تمثل عقلية عامة مستمدة من الانتماءات والولاءات الوشائجية المنغرسة في أعماق الوجدان الجمعي [7]، حيث تقوم على الجماعة العضوية المبنية على فرضية الجماعة القبلية الأولية.


استدعاء العقلية القبلية في السياسة

يرى البعض الموقف السعودي والإماراتي خاصة من دولة قطر حاليًا، وفرض الحصار البري والجوي والاقتصادي عليها، بأنه تمظهر من تمظهرات العقلية القبلية، وكأنه يستدعي للمخيلة حروب داحس والغبراء بين القبائل العربية الجاهلية، فيتم التعامل مع قطر باعتبارها فردًا شرد عن تيار القبيلة العام ولها الحق في فرض وصايتها وتهديده لينتظم في صفوفها مرة أخرى، وليست دولة مستقلة ذات سيادة، ومن أبرز ما يؤكد أن ميكانيزمات القبيلة تعلو على ميكانيزمات الدولة في هذا الموقف، هو قائمة المطالب المراد الموافقة عليها من قِبل قطر، والتي تخترق مبدأ الدولة السيادية، فتطالب بغلق منافذها الإعلامية وتحديد سياستها الخارجية وفقًا لرغبات الدول المُقاطعة لها، وطرد مواطنين من أراضيها، فيجعل مبدأ الدولة القومية “المستقلة ذات السيادة” في محك اختبار حقيقي أمام رهان منطق القبيلة. وإن كان لم يبرز خلال الأزمة الراهنة أصوات لقبائل غير الحاكمة أو توضيح لمواقفها في تصريحات رسمية علنية، ويمكن أن نرجع ذلك إلى ما يؤكده جلنر في كتابه The Saints of The Atlas بأن القبيلة لا تعمد أبدًا لدى استيلائها على الحكم المركزي إلى تأسيس ديمقراطية تبرز الأصوات المخالفة لها بل تسعى إلى تركيز ملكية، فلا يعلو سوى صوت القبيلة الحاكمة.

وهذا لا يعني غياب التوازنات القبلية في داخل الدول الخليجية ذاتها، حيث تُبرز في وقت الانتخابات سواء البرلمانية كما في الكويت أو انتخابات المجالس البلدية في السعودية أو في كل الدول الخليجية عامة. وكذلك تظهر الولاءات القبلية في الحرس الوطني؛ فيصف أنطوني كوردسمان الحرس الوطني السعودي بأنه أقرب إلى أن يكون وسيلة تستخدمها العائلة الحاكمة لتخصيص الأموال للزعماء القبليين والبدويين أكثر من كونه قوة قتالية حديثة أو قوة أمنية داخلية، فهدفه سياسي في المقام الأول لإدامة علاقات وثيقة مع القبائل.[8]

وتتجلى الهوية القبلية في الممارسات الاجتماعية مثل الزي الذي يحمل مفارقة، حيث بدأ الاهتمام بتنميطه وترسيخ صورته الرمزية المعبرة عن اللباس التقليدي مع التحول من القبلية إلى بناء الدولة القومية بعد الحصول على الاستقلال في السبعنيات، ورغبة هذه الدول في اختراع هوية متماسكة لها كدولة حديثة، ويظهر تجذر الثفافة القبيلية في تحول البطاقة المدنية القومية إلى بطاقة هوية قبلية، حيث يحرص الأفراد على إبراز التمايز القبلي بتدوين نسبهم وامتداد أصولهم القبلية، أو شروط الزواج أو غيرها من الممارسات الاجتماعية الأخرى.

ويطرح هذا سؤال إذا كان للقبيلة هذا الدور من الداخل، فماذا عن الخارج، وإذا قامت التحالفات بين الدول الخليجية مع الخارج مستخدمة قوتها المالية بكثافة كما في حالة العلاقة بين الإمارات والولايات المتحدة الأمريكية، أو من خلال منابرها الإعلامية كما في حالة قطر لرسم سياستهم الخارجية. وذلك يطرح إشكالية تحتاج كثيرًا من التفنيد والبحث والدراسة عن قوة القبيلة في الخارج. فإذا اعتبرت الدول الخليجية دولاً قائمة على علاقات القرابة، فما دور القرابة هنا حيث يتصدر المال بصورة أقوى في توجيه السياسة الخارجية مقارنة بالقبيلة؟.

ويمكننا القول إن الأزمة الحالية ليست مجرد حالة استعراضية لنفوذ الدول الخليجية على بعضها البعض، أو تحول السطوة القبلية إلى حالة مشهدية نرتقب من خلالها أيهما سينتصر السيادة القومية أم المصلحة القبلية، ولكن هذه الأزمة تعكس المأزق الذي تعاني منه الدول الخليجة وتناقضاتها الداخلية التي تجعلها في نظر البعض نموذجًا للدول الهجينة التي تجمع ما بين طغيان القبلية على الطبقة والتركيبة السكانية الاستئنائية (التي يصبح فيها السكان الأصليون أقلية)، وعوارض الدولة الريعية، وتزاوج الأصولية الدينية، والمجتمع الاستهلاكي الحداثي، مع تواجد ظاهرة البتروإسلام (كما يسميها فؤاد زكريا) في ظل ثقافة معولمة.[9] كما تعكس الأزمة اهتزازت وتحولات إقليمية في المنطقة العربية بين المحاور الثلاثة؛ محور إجهاض الربيع العربي المتمثل في السعودية والإمارات، ومحور تركيا وقطر في دعم توازنات الإسلام السياسي لحساباتهما الخاصة، ومعسكر المقاومة الذي يضم نظام الأسد في سوريا، وحكومة بغداد المحاصرة، إلى جانب إيران وحلفائها.[10]


هل انتهت ممالك الخليج؟

تعيد الأحداث النظر في أطروحة كريستوفر م. ديفيدسون التي تناولها في كتابه”ما بعد الشيوخ: الانهيار المقبل للممالك الخليجية” الذي صدر عام 2012، والتي يرى فيها أن الدول الخليجية لن تكون معقل الاستقرار في الوطن العربي بعد أحداث الربيع العربي، وأن انهيار الممالك الخليجية صار وشيكًا؛ نتيجة لانخفاض أسعار النفط في ظل عمليات التحديث المتسارعة، وزيادة وعي الطبقات الوسطى في الدول الخليجية مما يهديد الشرعية السياسية للممالك الخليجية وانهيارها.[11]

لقد توقع ديفيدسون تحول هذه الدول إلى «دولة بولسية» في ظل ممارستها القمعية للناشطين الشباب، وانتشار الاعتقالات السياسية غير المسبوقة في السعودية والبحرين والكويت، والتوجس من كل وسائل الإعلام المعارضة، وهو ما بدا جليًا في ردود فعل أنظمة دول كالسعودية والإمارات في الأزمة الأخيرة. ولكن الفترة المقبلة ستكون أصدق أنباءً من الكتب حول مصير المنطقة العربية، وخريطة التوازنات الجديدة المناهضة للربيع العربي التي ربما تستمر تداعياتها لفترات طويلة.


[1] المولدي الأحمر، راهن القبيلة في العالم العربي: أسئلة الإرث المعرفي والتصورات والاستخدامات، عمران، العدد 15، المجلد الرابع، شتاء 2016 ص 5.[2] يذكر David Berreby في كتابه us and them: understanding your tribal mind أن القبيلة حالة ذهنية تستدعي المحسوبية والمحاباة لبعض المجموعات دون الأخرى، وأن هذا النمط من التعامل يتواجد في أعتى الشركات الكبرى الرأسمالية أو في غيرها، فالقبلية – وفقًا له – بنية ذهنية أكثر منها صلة قرابية بين ثلة من البشر.[3] غانم النجار، القبيلة والدولة في الكويت والجزيرة العربية، (الكويت، جامعة الكويت، 1996)، تاريخ الاسترجاع 30-6-2017، متوفر على الرابط التالي: http://salanezi.com/files/2014-12/state%20and%20tribe%20Alnajjar.pdf[4] المرجع السابق.[5] نزيه الأيوبي، تضخيم الدولة العربية السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ترجمة أمجد حسين، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2010) ص 272-273.[6] يعقوب يوسف الكندي، القبيلة والمفاهيم السياسية في المجتمع الخليجي المعاصر: المجتمع الكويتي مثالًا، عمران، العدد 15 الملجد الرابع، شتاء 2016، ص 52.[7] خلدون النقيب، صراع القبيلة والديمقراطية: حالة الكويت، (بيروت، دار الساقي، 1996)، ص 9.[8] الأيوبي، مرجع سابق، ص 562.[9] خلدون النقيب، مرجع سابق، ص 8.

[10] مقدمة الطبعة العربية من كتاب “ما بعد الشيوخ: الانهيار المقبل للممالك الخليجية، تاريخ الاسترجاع 1/7/2017 متوفر على الرابط التالي http://mirror.no-ip.org/news/20655.html

الأزمة تعكس المأزق الذي تعاني منه الدول الخليجة وتناقضاتها الداخلية التي تجعلها في نظر البعض نموذجًا للدول الهجينة التي تجمع ما بين طغيان القبلية على الطبقة، وعوارض الدولة الريعية.

[11] Ian Black, After the Sheikhs: The Coming Collapse of the Gulf Monarchies by Christopher M Davidson, the guardian, 28 December 2012, access date 1-7-2017, available at this url:https://www.theguardian.com/books/2012/dec/28/after-the-sheikhs-christopher-m-davidson-review