بساعات قليلة قبل الإعلان عن تفاصيل مشروع «التحول الوطني» الضخم الذي يشرف عليه الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي، والذي من المفترض أن يدشن، على يد الأمير الشاب، بداية لـ«سعودية جديدة» لـ«ما بعد عصر النفط»، تحول سيشمل إعادة هيكلة كاملة لبنية النظام السعودي، ومؤسسات القطاع الحكومي، ومصادر الدخل، ودور القطاع الخاص، ودور رجال الدين، وعمل المرأة، والحريات العامة. عشية هذا الحدث الهام قرر النظام السعودي توقيف أحد أهم الدعاة في المملكة؛ الشيخ عبد العزيز الطريفي.


«الهيئة» وراء اعتقال الطريفي

ربما لا يعرف الكثير خارج منطقة الخليج عن ذلك الشاب الذي لم يكمل عقده الرابع بعد إلا أنه قد «ملأ الدنيا وشغل الناس» في السعودية؛ الشيخ عبد العزيز الطريفي الذي لمع نجمه في السنوات الأخيرة في المملكة بعد أن ملأ فراغًا كبيرًا خلّفه غياب أهم المشايخ السعوديين التقليديين إما بالموت أو بالانزواء والامتناع عن التعليق على ما قد يعد «إثارة للفتنة» في المملكة.

الطريفي الذي تخرج من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود، ثم عمل فترة كباحث في وزارة الشؤون الإسلامية قبل أن يستقيل «للتفرغ للعمل الدعوي»، اشتهر بجانب معرفته السلفية الموسوعية، باتخاذه مواقف حادة وجريئة في كثير من الأحيان، في محاضراته وفي البرنامج الذي يقدمه على قناة «الرسالة»، تجاه القضايا التي تشغل الرأي العام السعودي. فعلى الرغم من اتخاذه مواقف شديدة المحافظة متماشية مع التقليد السلفي السعودي بخصوص مسائل كالحجاب و الغناء و الموقف من الشيعة، إلا أن الطريفي اشتهر بإعلانه لمواقف سياسية كثيرًا ما كانت مخالفة لرؤية النظام السعودي الحاكم كالموقف من الغرب، والانقلاب العسكري في مصر، و سعودة حلقات الحرم، و الاعتقال السياسي، بالإضافة إلى مهاجمته لقناة العربية المقربة من النظام السعودي.

تراكم هذه المواقف أدى إلى امتلاء سد صبر النظام السعودي الذي فاض على إثر موقف الطريفي الأخير من قرار الحكومة السعودية الخاص بـ«تنظيم عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، والذي أثار جدلاً واسعًا في المملكة إثر سحبه لصلاحيات التوقيف والاستجواب من الهيئة، وتحويلها لجهة مناصحة منزوعة الصلاحيات التنفيذية؛ إذ وصف الطريفي ذلك القرار بأنه «يسمى تنظيمًا وهو في حقيقته تعطيل»، ليعود ويغرد على تويتر بصورة ربما فهم منها تعريض بهذا الأمر بلهجة أكثر حدة؛ الأمر الذي دفع الأمن السعودي إلى اعتقاله عصر الأمس من منزله بالعاصمة الرياض بعد توقيف كل من الشيخين محمد الحضيف وسليمان الدويش على خلفية ذات الموضوع.

أثار اعتقال الطريفي عاصفة على تويتر، منصة التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية في السعودية، إذ بلغ عدد التغريدات على وسم #اعتقال_الشيخ_عبدالعزيز_الطريفي قرابة المئتي ألف تغريدة، الأغلبية العظمى منها متضامن مع الشيخ ويطالب السلطات السعودية بالإفراج عنه.

بقي من الملاحظ أن شخصيات مقربة من الطريفي كالشيخين سلمان العودة ومحمد العريفي لم يعلّقا على هذا الخبر منذ وقوعه وحتى ساعات الفجر الأولى، حيث كسر سلمان العودة حاجز الصمت ناقلاً رسالة عن الطريفي، أعيد تغريدها آلاف المرات، يؤكد فيها أنه بخير، وأن الإجراء الذي اتخذ تجاهه ليس إيقافًا أو اعتقالًا بل هو استدعاء له ـ«بمكان لائق لنقاش بعض الأمور». إلا أن ساعات قد مرت على إثر هذه التغريدة دون الإفراج عن الطريفي.


ليس الأول: مشايخ سجنتهم السعودية

لا ينزف الجرح إلا من جوانحنا *** لا يسكن القيد إلا في أيادينا

سرنا، ولم تصحب الدنيا مسيرتنا *** نبكي، وللمجد شدو من أغانينا

سفر الحوالي، إبان سجنه

اعتقال شيخ بحجم الطريفي لم يشكل بادرة جديدة من قبل النظام السعودي؛ إذ تعرض للاعتقال قبله عدد من الدعاة السعوديين السنة، وعلى رأسهم صديقاه سلمان العودة ومحمد العريفي، بالإضافة بالطبع إلى الدعاة الشيعة المعارضين، و عدد من الناشطين الليبراليين.

يأتي هذا «التوقيف» إذن كحلقة جديدة ضمن سلسلة تاريخية طويلة من الاعتقالات السعودية للدعاة والمشايخ الملتحمين بالشأن السياسي العام ومطالبات الإصلاح. فمن «شيوخ الصحوة» سفر الحوالي، وسلمان العودة، وعائض القرني، وناصر العمر، الذين تتلمذوا على أيدي محمد قطب ومحمد سرور بالإضافة إلى شيوخ الوهابية التقليديين كابن باز وابن عثيمين؛ الأمر الذي شكل منهم خليطًا جديدًا بين الحركية والسلفية كان شديد الجاذبية للشباب السعودي طوال الثمانينات والتسعينات، في الوقت الذي كان فيه النظام السعودي يخشى تصدير نظام الملالي الجديد في إيران لـ«ثورته الإسلامية»، إلا أن صبر النظام السعودي نفد على إثر ارتفاع أصواتهم بالمطالبة بالإصلاح السياسي وتوقيعهم «خطاب المطالب»، إلى جانب الحراك الواسع الذي قادوه احتجاجًا على استنجاد النظام السعودي واستجلابه للجيوش الأمريكية إلى المنطقة، إبان أزمة الغزو العراقي للكويت؛ الأمر الذي كلفهم مقاعدهم الأكاديمية وسنوات مريرة قضوها في سجن الحائر السياسي. لاحقًا لاقى الشيخ السعودي خالد الراشد نفس المصير بعد قيادته لمظاهرة احتجاجية في جامع الإمام تركي، أحد أهم جوامع الرياض وأقربها إلى قصر الحكم في قلب العاصمة، مطالبًا النظام السعودي بقطع العلاقات مع الدانمارك على إثر حادثة رسوم الكاريكاتير المسيئة للنبي – صلى الله عليه وسلم – إذ لا يزال يقضي عقوبة بالحبس مدة 15 عامًا. بالإضافة إلى ناشطي جمعية الحقوق المدنية والسياسية «حسم» الذين حكم عليهم في 2013 بالسجن فترات تتراوح بين 8 إلى 11 سنة. وانتهاءً باعتقال الشيخ العريفي مرتين في 2013 و 2014.

تخوض المملكة العربية مرحلة انتقالية حرجة، إذ تتضافر التغيرات الاجتماعية المتسارعة المتمثلة في الانفتاح والابتعاث وتزايد عدد السكان وارتفاع نسبة المتعلمين، مع الواقع الاقتصادي الجديد في ظل ضغوط انخفاض أسعار النفط، وارتفاع نسبة البطالة، والحاجة لتنويع مصادر الدخل لتخلق حالة مركبة من التناقضات التي ستمر بها المملكة خلال الفترة القادمة إلى أن تصل لبنيتها الجديدة المستقرة، وسيكون عليها قبل أن تبلغ ذلك الإجابة على أسئلة كثيرة متعلقة بالحريات العامة، والنظام السياسي، ودور رجال الدين، ونظرة المجتمع إلى نفسه، أسئلة لطالما تركت في الماضي معلقة على حبال الزمان الطويلة، إلا أن وقت الإجابة عليها قد حان على ما يبدو.