مثل تراجع أسعار النفط خسارة بالغة للاقتصادات النفطية الشرق أوسطية، ولا سيما المملكة العربية السعودية إذ يبلغ الإيراد النفطي نحو 80% من إيراتداتها العامة. لذلك تراجعت المملكة عن موقفها المتشدد إزاء زيادة إنتاجها النفطي بعد أن ساهمت في تخمة المعروض النفطي العالمي، وخسارة نحو 20% من احتياطها من النقد الأجنبي. وكانت دوافعها لزيادة إنتاجها من النفط؛ الحفاظ على حصتها السوقية، وتعويض خسارتها جراء تراجع أسعار النفط الخام عالميًا.

لذلك سعت المملكة العربية السعودية لخفض الإنفاق العام وزيادة الإيرادت العامة غير النفطية في إطار برنامج التحول الوطني والذي يستهدف الوصول إلى الميزانية المتوازنة بحلول عام 2020م.

هذا، وقد أقر الملك سلمان بن عبدالعزيز بتاريخ يناير 2017 بالموافقة على الاتفاقية الموحدة لضريبة القيمة المضافة لدول مجلس التعاون الخليجي الست، وسيسري العمل بها مع بداية عام 2018. لتعزيز الإيرادات العامة ويبقى التساؤل حول أثر هذه الإجراءات الإصلاحية على رفاهة المجتمعات الخليجية على العموم والمجتمع السعودي على وجه الخصوص.


معركة خسارة

تراجعت أسعار النفط العالمية منذ منتصف عام 2014، فمنذ ذلك التاريخ اتبعت المملكة العربية السعودية رفع إنتاجها النفطي لتعويض خسائرها النفطية ولمواجهة الإنفاق العام المتزايد بعد انخراطها في أحداث المحيط الإقليمي، وبالأخص حرب اليمن والأحداث الدائرة في سوريا. ومن ثم توسعها في الإنفاق العسكري ومثل هذا عبئًا على الموازنة العامة.

إذ أبلعت السعودية منظمة البلدان المصدرة للنفط، أوابك، أنها ضخت 10.72 مليون برميل يوميًا في نوفمبر 2016 وذلك ارتفاعًا من مستوى قياسي سابق بلغ 10.625 مليون برميل يومًيا في الشهر السابق عليه. وبذلك كان للمملكة العربية السعودية دور بارز في تخمة المعروض النفطي العالمي.

غير أن هذه السياسة أضرت بالمملكة نفسها وخسرت نحو 20% من احتياطاتها من النقد الأجنبي بعد توسعها في الإنفاق الحكومي، فوفقًا للإحصاءات الرسمية فقد تراجع الاحتياطي النقدي السعودي من 732 مليار دولار عام 2014 إلى نحو 562 مليار دولار في أغسطس 2016، ليس هذا فحسب بل ارتفعت الديون الحكومية من نحو 11.8 مليار دولار إلى 37.9 مليار دولار بين عامي 2014 و 2015.

وقد انقلبت الموازين فبعد أن أظهرت البيانات الفعلية للميزانية العامة لعام 2013 تحقيقها فائضًا بلغ نحو 145 مليار ريال، إلا أنها حققت عجزًا مستمرًا منذ ذلك التاريخ. إذ قدرت البيانات الفعلية لموازنة 2014 تحقيق عجز قدر بنحو 54 مليار ريال.

وكذلك من المقرر أن تحقق الموازنة العامة عجزًا قدر بنحو 198 مليار ريال، أي أقل بنحو 33% عن العجز المحقق في عام 2016. واعتمدت الموازنة الجديدة في ذلك على إجراءات تقشفية من خلال زيادة الإيرادات الضريبية لرفع الإيرادات العامة بنحو 31% عما كان عليه في عام 2016 من جهة، ومن جهة أخرى تحجيم الإنفاق العام.

ولذلك وفي محاولة من البلدان المصدرة للنفط لخفض تراجع أسعاره فقد توصلت منظمة الأوبك إلى قرار تاريخي بخفض المعروض النفطي والتزمت المملكة العربية السعودية بهذا القرار أملاً منها في إنعاش أسعار النفط عالميًا ومن ثم زيادة إيراداتها العامة.


ضغوط مالية

دفعت تلك الضغوط المالية والأزمات التي تعرض لها الاقتصاد السعودي جراء الأحداث بالمحيط الإقليمي وتراجع أسعار النفط العالمي. لوضع رؤية للإصلاح الاقتصادي سميت «رؤية 2030» ترتكز على خطة طموحة لإعادة هيكلة الاقتصاد السعودي وتنويعه بعيدًا عن النفط في غضون 15 عامًا، وتحويله من قطاع معتمد على النفط بصفة أساسية إلى اقتصاد أكثر تنوعًا يلعب فيه القطاع الخاص، المحلي والأجنبي، دورًا محوريًا، لاسيما تشجيع السعوديين للانضمام للقطاع الخاص، فضلاً عن اعتزام المملكة بيع حصة تبلغ نحو 5% من شركة النفط العملاقة المملوكة للدولة «أرامكو» واستخدام تلك الأصول في تمويل استثمارات عامة في مجالات مختلفة

وبذلك تتمحور «رؤية 2030» على ثلاثة محاور رئيسية أولها: زيادة الإيرادات غير النفطية إلى ثلاثة أضعاف بنهاية العقد الحالي بالاعتماد على قطاعات غير نفيطة كالتعدين والسياحة وكذلك العوائد الضريبية بما فيها ضريبة القيمة المضافة. وثانيها: خفض وترشيد ورفع كفاءة الإنفاق العام وخفض فاتورة أجور القطاع العام. وثالثها: تنويع مصادر الثروة وتنويع حافظات الاستثمار في الخارج ويبدو هذا جليًا من خلال تكهنات بتوجه شركة أرامكو للشراء في تكساس.

وبهذا يبدو أن الضغوط المالية التي تتعرض لها المملكة انعكست بالأساس على مدى جودة الإنفاق الحكومي وكيفية زيادة الإيرادات العامة. وبهذا سيكون لكل إنفاق عام ثمن. وهذا يتضح جليًا من برامج التحول الوطني لعام 2020 والذي يستهدف الوصول إلى الميزانية المتوازنة من خلال سياسة مالية تهدف لتقوية وضع المالية العامة ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي وبما يسهم في تحفيز النمو الاقتصادي وتدفق الاستثمارات وتعزيز نمو القطاع الخاص.

وفي ذات السياق يأتي خفض الأجور والمزايا المقدمة لعدد من العاملين بالحكومة وفرض عدد من الرسوم الجديدة والغرامات على عدد من الخدمات المقدمة وتقليص دعم الوقود والمياه والكهرباء لخفض الاستهلاك متسقًا مع ما تتبعه المملكة من إجراءات إصلاحية ومحاولة منها للتحول نحو تحرير الأسعار. علاوة على خفض مخصصات الموازنة للخدمات الصحية والتعليم والبلديات، وزيادة أسعار المحروقات. إذ ارتفع سعر الإيثان بنحو 133%، وكذلك ارتفاع سعر السولار بنحو 67%، و67% لكل من الغاز الطبيعي والبنزين الأقل جودة، أضف لذلك ارتفاع أسعار خدمات المياه والكهرباء بنسبة 60% للشرائح العليا وبنسب متفاوتة للاستخدام التجاري و الصناعي.

وتحدث كبير المستشارين الماليين للأمير محمد عن واقع اقتصادي صعب وأن المملكة تهدر نحو 100 مليار دولار سنويًا في شكل نفقات غير فاعلة وصفقات تجارية غير واضحة المعالم، مؤكدًا أن الوضع سيتدهور بحلول عام 2017 ما لم يتم اتخاذ خطوات إصلاحية تغير مجرى الأحداث. وحددت الحكومة السعودية في يونيو الماضي هدفًا يقضي بخفض الإنفاق العام على الرواتب بواقع 24 مليار ريال سنويًا حتى عام 2020.

وتوجهت المملكة لخطط تمويل مستندة على الاستدانة لتمويل عجز الموازنة العامة بمبالغ ضخمة، كطرح سندات دولارية، إذ استطاعت في أكتوبر الماضي جمع 17.5 مليار دولار من السوق الدولية تضمنت تلك السندات شرائح لآجال 5 و19 و30 عاما. في سابقة تاريخية للمملكة العربية السعودية، كما أنها تراهن على زيادة الإيرادات الضريبية من خلال فرض ضرائب القيمة المضافة.


تحولات اجتماعية

ومن المنتظر أن ينعكس ذلك على مستوى الرفاهة الاقتصادية على المدى الطويل لمواطني المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص والدول النفطية على وجه العموم.

ويبدو أن الطبقة المتوسطة السعودية ستنضم إلى الطبقة المتوسطة المضغوطة ومن المحتمل أن هذه الطبقة ستعاني في الأيام المقبلة، وستتحمل أعباء تراجع المزايا الوظيفية من جهة وكذلك ارتفاع أسعار الخدمات العامة والسلع من جهة أخرى بعد فرض ضريبة القيمة المضافة بواقع 5%، وفرض ضريبة انتقائية على بعض السلع للحد من آثارها كالسجائر والتبغ والمشروبات الغازية ومشروبات الطاقة. واتخذت دول المجلس الست، إجراءات تقشفية وتعتزم فرض ضرائب جديدة لتعويض تراجع الإيرادات النفطية.

والثابت أن الطبقة المتوسطة والمواطنين عليهم تفهم أن الأيام المقبلة تتطلب رشادة في الاستهلاك والمحافطة على المدخرات المالية لأطول فترة ممكنة. وعليهم القبول بالتدابير التقشفية فخفض الإنفاق العام الضخم على الخدمات، أصبح حقيقة وسيكون له تأثير اجتماعي بعيد المدى.

ولاشك أن العمالة الوافدة والتي تبلغ نحو 6.5 مليون وافد وفقًا لإحصاءات الهيئة العامة للاحصاء السعودي ستتأثر بهذه الإجراءات خاصة بعد توارد أنباء عن فرض رسوم على العمالة الوافدة.

وفي اتجاه آخر يمثل «حساب المواطن» الذي أطلقته المملكة طوق نجاة للطبقة المتوسطة، الدنيا، والطبقة الفقيرة. ويهدف برنامج التحول التدريجي نحو خفض الدعم ورفع كفاءة الدعم الحكومي للمواطنين المستحقين للدعم بشكل تدريجي من خلال آلية الدعم النقدي.

وإجمالاً يمكن القول إن المملكة العربية السعودية وضعت خطة للإصلاح الاقتصادي قوامها خفض الإنفاق العام وتحميل المواطنين، وعلى الأخص الطبقة المتوسطة والفقيرة، بأعباء ضريبية جديدة. لا يمكن التنبأ بآثارها الاجتماعية على وجه التحديد. غير أنها ستؤثر بشكل كبير على البعد الاجتماعي للطبقة المتوسطة، وقد يخفف من هذه الآثار الحادة من خلال رفع جودة الإنفاق الحكومي وتفعيل برنامج «حساب المواطن» بكفاءة.