في ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي دخل الشيخ المشهور عبد الرحمن السديس، إمام الحرم المكي، ليؤم الناس في صلاة المغرب في المسجد الحرام، واستهل الركعة الأولى فيها بآيات سورة الفتح: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٨) لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠)»، وكان قبلها قد خرج من القصور الملكية الملاصقة للحرم المكي بعد أن أدى وحضر مراسم بيعة الأمير الشاب محمد بن سلمان لمنصب ولي العهد السعودي.

من الممكن أن نعتبر أن لحظة ولادة العلمانية السعودية هي بتقديم الشيخ السديس، كأحد ممثلي الدين الرسمي، هذا النموذج الصارخ من دين الدولة/ النظام.

يميز عالم الاجتماع والأكاديمي المعروف خوسيه كازانوفا بين ثلاثة مشتقات للمفردة Secular؛ الأولى هي «العلْماني secular» بوصفها مقولة إبيستيمولوجية حديثة ومركزية، و«العلْمنة Secularization» بوصفها مَفهمة تحليلية للسيرورات التاريخية التي تخص العالم الحديث، و«العلمانوية Secularism» بوصفها رؤية للعالـم. (خوسيه كازانوفا، العلماني والعلمانويات، ص٢).

قد لا يمكن تصور حالة التعطش السعودي المتزايد للعلمانية في مرحلة حكم سلمان بن عبد العزيز، إذ صاحب تقلده الملك موجة من الأساطير حول تدينه واهتمامه بالصلاة على وقتها والتزامه بحمل واستخدام السواك كشعيرة نبوية، لدرجة أنه أشيع عنه أنه ترك اجتماعه بالرئيس الأمريكي باراك أوباما لأداء الصلاة فور الأذان!

بيد أن إعادة تشكيل تراتبية الحكم في عهد سلمان، وذلك من خلال الدفع بولده محمد بديلًا عن ولي العهد حينها محمد بن نايف؛ أثارت لغطًا وبلبلة داخل أروقة العائلة المالكة في السعودية، خاصة أن الشاب الصاعد بقوة والده ليس له أي خلفية علمية أو عملية معتبرة لتولي هذا المنصب الحساس والمهم للداخل السعودي ولحلفاء المملكة الغربيين.

لكن الواقع أن الأمير الشاب المتحمس للتنوير «الظاهري»، محمد بن سلمان، لم يكن متفهمًا لطبيعة التمايزات الفلسفية التي تنال مفاهيم وتطبيقات العلمانية والعلمنة. إذ قد يكون من المتفهم أن يقوم بتحولات الواقع السعودي نحو الانفتاح والتنوير أحد ممن نشأ وترعرع في أحضان الأكاديميا الغربية وتحصل على ما يؤهله لتنفيذ هذه الإجراءات الصعبة في بيئة معقدة، أو أن يحيط بجماعة مستشاريه ثلة ممن تشرب هذه المفاهيم وتأثر بها في الغرب؛ وهو ما يتضح غيابه بأدنى نظرة لصانع القرار السعودي في دوائر محمد بن سلمان.

والذي يبدو، وهو بطبيعة الحال لا يظهر منه كثير مما يرتب في الغرف المغلقة، أن ابن سلمان يسير وفق تأثر واضح بشباب الحكم في دبي وأبو ظبي، آل زايد وآل مكتوم، وهو ما شدد من حدة الصراع الشبابي بين حكام الرياض وأبو ظبي من جهة والدوحة من جهة أخرى، والذي يبدو أن ثمة أبعادًا قبلية ونعرات بدوية ثاوية في قلب الصراع الدائر بينهما.


الحداثة الإسمنتية: «دبي» كنموذج للتحديث البدوي

من الواضح عند زيارة إمارة «دبي» الإماراتية أن المدينة من حيث التخطيط والتطوير والنظام والنظافة تضاهي أكبر وأجمل المدن الأوروبية والأمريكية. كما أن الكثيرين ممن يعيشون هناك يشهدون الرقي الاجتماعي الذي يمتاز به سكان الإمارة وفق أغلبية غير إماراتية واضحة لسكانها.

بيد أن المدينة الناشئة والجديدة على التحديث «الإسمنتي» الذي نالها في العقود الأخيرة لم تشهد حداثة ثقافية وسياسية أصيلة كما الحال في الكويت مثلًا، إذ تعتبر الكويت أقدم دول الخليج لحوقًا بالحداثة الثقافية والفكرية والسياسية، فالكويت منذ أكثر من أربعين عامًا وفيها فنون تمثيلية ومسرحية وغنائية كويتية، ونالها دخول العمل السياسي الحزبي والبرلماني لاحقًا، وهو الأمر الغائب تمامًا في باقي دول الخليج، كما أن الحركة الثقافية والفكرية هناك سبقت نظيراتها الخليجية في أطروحاتها وجرأتها وراهنيتها.

وبالمقارنة بما طرأ في التحديث الإماراتي والقطري، أو بالأحرى دخول بعض مظاهر التعلمن على البنى الثقافية والسياسية والاجتماعية الخليجية؛ فإن «دبي» لما تنلها بعد مظاهر التحديث الجذرية بعد إلا في بعدها الإسمنتي فقط، مع سوءات الانفتاح الجنسي الذي تتسم به دبي، بالإضافة إلى السيطرة الزمنية المحكمة تحت الكاميرات التي تجعلها مدينة آمنة إلى حد كبير. لكن تبقى الأبراج الشاهقة والتصميمات المعمارية المبدعة والنظم الإدارية المتطورة؛ مظاهر منقوصة لحداثة وتعملن «مشوه».


الطموح الجامح للأمير الشاب: «نيوم» كاستنساخ مطور لنموذج «دبي»

تداعت خطوات ولي العهد الطامح للتحديث في بيئة محافظة منذ عشرات السنين، حيث قضى بصورة مباغتة على سلطات المؤسسات الدينية الرسمية، وبدأ بوقف صلاحيات السلطة الدينية التنفيذية المتمثلة في «هيئة الأمر بالمعروف والنهي المنكر» ذات الصلاحيات الواسعة والتي تفوق صلاحيات جهاز الشرطة والجيش في بعض الأحيان، وهي الخطوة التي تلقاها المحافظون بحالة من الذهول وعدم التصديق لبعض الوقت، مع تكتيك من محمد بن سلمان خدر به ردّات الفعل التي قد كانت متوقعة من المحافظين حينها، فتسربت شائعات كثيرة بأن ثمة مباحثات مع الملك سلمان نفسه للتراجع أو تعديل القرار، وظلت هذه الشائعات تتداول بين المحافظين حتى تخدروا تمامًا أمام حالة من المباغتة التي لعبها محمد بن سلمان مع شيوخ وكهول التيار الديني الرسمي في السعودية.

بل إن لقاءات جمعت ابن سلمان بعدد من كبار الشيوخ والدعاة السعوديين، وأسرّ لهم الشاب بأنه باق ومحافظ على إرث الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو ما مثل تكتيكًا تخديريًّا جديدًا للتيار الديني هناك.

لكن محمد بن سلمان استبدل بهيئة الأمر بالمعروف «هيئة الترفيه»، وصعد نجم الهيئة الجديدة ببرامج حفلات موسيقية وعروض مسرحية كسرت التقاليد السعودية المحافظة منذ عهود، والتي كان السعوديون يرحلون لكسرها إلى البحرين ودبي والكويت لتجاوز الإطار الرقابي الديني الصارم في الحقبة السابقة لهيئة الترفيه.

لكن اليوم باتت الرياض وجدة والدمام قبلة عدد من الفنانين الغنائيين العرب والأجانب، كما أنها باتت محطة لعدد من رموز هوليوود ومصارعي المصارعة الحرة الشهيرة.

توازت حملات التحديث المتعجل والظاهري للشاب الجامح مع حملة اعتقالات واسعة لعدد من الرموز والدعاة، من أبرزهم سلمان العودة وعوض القرني وعبد الله المالكي، ولم يعلم حتى الآن أية معايير لاعتقال هؤلاء في ظل دولة خالية من أي هيئات رقابية وقانونية، أو مؤسسات حقوق إنسان، أو أحزاب ومنظمات مجتمع مدني، وبالأحرى؛ هي مملكة خالية تمامًا من صلب فكرة الحداثة والتعلمن، ولا يمكن بحال اعتبار خطواته الاستبدادية تلك متعلقة بهما أصلا!

ففي حواره الشهير في الإعلان عن مشروع «نيوم» العملاق؛ صرح بن سلمان في سؤال متعلق بالتطرف أنه سائر سيرًا حثيثا في تدمير الصحوة، يقصد تيار الصحوة الإسلامية الذي ظهر منذ أواخر سبعينيات القرن المنصرم، ومثل نشاطًا حركيًّا ومعرفيًّا سلفيًّا كبيرًا كان مركزه المالي والفكري من المملكة. مثل هذا التصريح جنوحًا لابن سلمان نحو المجاهرة بعقليته الاستبدادية، خاصة أنه كان يعد حينها لمجزرة «هيئة محاربة الفساد» التي قضت على ما تبقى من مراكز قوى اقتصادية وسياسية وعسكرية داخل منظومة الحكم هناك.

وفي خضم هذا الزخم؛ يمنح الأمير الشاب المرأة السعودية الحق في قيادة السيارات بعد عشرات الأعوام من الانغلاق غير المبرر حول هذه الخطوة، وتنفجر حينها الصحافة السعودية وحلفاؤها في مدح ابن سلمان والثناء عليه، وكأنه أتى بما لم يأته به أحد من قبله!

ويمارس ابن سلمان بذلك استراتيجية تكتيكية شبيهة بتلك التي يمارسها صنوه السيسي خطابيًا في مصر، حيث يداعب مشاعر الإناث ويقدم قربانًا لشعبيته لديهن من خلال قرارات وأوامر تدفع في اتجاه ذلك.

مع التدقيق مع هذا المشروع الغامض «نيوم»؛ تظهر رغبات ابن سلمان في صناعة بروباجندا حوله وفقط، إذ إن المشروع المعلن لا يحمل أية تفاصيل اقتصادية معقولة، بل يتضمن شراكات بين المملكة ومصر والأردن، وقد تكون إسرائيل فيما بعد، مع التعمق في سر اختيار الموقع جغرافيًّا. بل سبق الإعلان عن «نيوم» إعلان آخر عن مدينة ساحلية ضخمة بالقرب من مدينة جدة، سيسمح فيها بحرية الملبس والمشرب دون قيود، أي بدون رقابة شرعية بخلاف ما هو معهود في سائر مدن المملكة!

لكن الملفت في بروباجندا «نيوم» أنها تتقارب في فلسفتها مع الرغبة في تكرار نموذج تحديث دبي، وسيرًا خلف خطى أصدقاء ابن سلمان الشباب في الحكم الإماراتي.


تحديث المقدسات: مكة وطمس معالم الإسلام البسيط

من المتعذر تصور حجم الهوس الذي يمارسه آل سعود ومن يخططون لهم في محيط الحرم المكي الشريف، حيث هدم كل المعالم الأثرية، وبناء التوسعات الشاهقة الخالية تمامًا من أي جماليات معمارية، والغياب التام لوسائل النقل التي تسهل على المعتمرين المسافات الطويلة جدًّا التي يسيرونها داخل هذه الكتل الإسمنتية التي يشيدها السعوديون.

بل إن المدينة بعيدًا عن محيط المسجد الحرام ضعيفة ومتأخرة جدًّا في بناها التحتية، ولا يزال سكانها إلى اليوم يعتمدون على تعبئة مياه الشرب إذا انقطعت على السيارات المستأجرة، كما أن شبكات الصرف الصحي والطرق والمواصلات العامة لا تليق بأي حال بأعظم مدينة مقدسة عند المسلمين، بينما يسير الملك سلمان وابنه على نفس النهج الآل سعودي في خطط توسعة الحرم، حيث إنه من المقرر أنه تؤجل توسعة «الملك سلمان» للحرم المكي لظروف الحرب في اليمن!

إن الناظر في محيط الفنادق التي تحيط بالمسجد الحرام ليذهله هذا التشوه والسوء الذي نظمت فيه هذه الفنادق، فلا يوجد تناسق شكلي ولا معماري ولا اعتبار لخصوصية الحرم وهويته الإسلامية، ولا احترام لضرورة توفير الهدوء والسكينة الروحية لقاصدي الحرم! وصدق أحد الأصدقاء حين قال: «أنا أشعر هنا أنني في هونج كونج»، ويقصد في طريقه من فندق برج الساعة إلى الحرم الشريف.


العلمانية السعودية: هل يتعلمن السعوديون حقًّا؟

في الواقع، إن نهج التعلمن الذي يسير عليه محمد بن سلمان بعيد كل البعد عن الإمكان، وذلك لاعتبارات اجتماعية وثقافية وسياسية مهمة يتناساها الشاب الجامح، فالنموذج الإماراتي مبهر ظاهريًّا بالطبع لكنه يتحقق في بيئة يمثل فيها الإماراتيون أنفسهم أقل من مليون مواطن إماراتي في بلد يسكنه تسعة ملايين نسمة! وذلك بخلاف عدد سكان المملكة البالغ ستة وعشرين مليون مواطن سعودي مقابل ما يقارب ١٠ ملايين نسمة من غير السعوديين. هذه النسبة تجعل من السهل إدخال هويات وثقافات متنوعة في بلد كالإمارات، بينما يتعذر فرض هويات وثقافات محددة في بيئة اجتماعية كالسعودية، إلا بفرضها بقوة السلطة ورهبتها.

وعلى فرض نجاح ابن سلمان في تلميع نموذج التحديث والعلمنة السعودية فإن تسويقها ومحاولة فرضها كما يفعل الإماراتيون، خاصة فيما يتعلق بنموذج الدين الرسمي الذي يشكلونه في مواجهة الإسلام السياسي؛ لا يمكن التنبؤ بنجاحه أبدًا في ظل غياب أبرز أسس وقواعد التحديث والعلمنة المتمثلة في الحريات السياسية والسماح بالتنوع الثقافي والمعرفي ووجود سلطات رقابية تباشر الرقابة الحقيقية على أجهزة الحكم السرية في الممالك الخليجية، وهو ما يجعل من نموذج العلمانية الخليجية الصاعدة نموذجًا مشوهًا للتحديث والتنوير.

ثمة ملمح أخير ينبغي التنبيه عليه، وهو أن صعود ترامب للبيت الأبيض، كنموذج لرئيس الدولة البيزنس مان ذي العقلية الابتزازية تجاه المال الخليجي، ساعد في تسهيل صعود محمد بن سلمان لمنصة ولاية العهد بعد إقصاء رجل الولايات المتحدة الأول محمد بن نايف، وهو مما يمكن تفسيره بمقاربات سياسية واضحة تتعلق بكون إدارات أوباما وهيلاري كلينتون تتعامل مع الواقع الخليجي كفاعل عقلاني بمعناه في النظريات السياسية، بينما كان من اللائق مع صعود الرجل الأمريكي الأهوج ترامب صعود في المقابل لشخصية تناسب الطيش وانعدام العقلانية السياسية كما يتحرك ترامب، وبالطبع لم يكن أنسب من الشاب الجامح دعي التنوير محمد بن سلمان، حيث تناسبت هذه الحالة وتصريحات السديس بأن السعودية والولايات المتحدة الأمريكية هما قطبا العالم في السلام والأمن والاستقرار، وذلك بفضل جهود الملك سلمان والرئيس ترامب!