أما بعد فأوصي يا إمامنا يا شافعي، وأنت يا حسن وأنت يا حسين، وإنتي يا أم هاشم، وإنتي يا ست زينب وأنت يا قطب الرجال يا متولي، وأنت يا سيدي أحمد يا رفاعي، أن تتصرفوا بمعرفتكم من اللي سرق الجاز والدقيق والسمنة والأنجر… منتقم جبار من الطغيان وابن الحرام، وإن كان أبوها … ينتقم منه. والسلام ختام. من طرف نبوية.
سيد عويس، نظرات في المرأة المعاصرة، ص120.

بدأت رحلتي مع أعمال سيد عويس في سنوات الكلية الأولى، حينما ذكر المحاضر – في جملة عابرة – عبقرية هذا الرجل الذي قام بتحليل ظاهرة إرسال المصريين الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي وتحليل العبارات المكتوبة على هياكل السيارات.

وازدادت دهشتي حينما عرفت قصة كتابه «من ملامح المجتمع المصري المعاصر: ظاهرة إرسال الرسائل على ضريح الإمام الشافعي». فقد واظب عويس أكثر من خمسة أشهر على زيارة الضريح ليتعرف على ما يُكتب في الرسائل الملقاة في المقصورة، وفشل مرة تلو أخرى في الحصول على هذه الرسائل، حتى عاونه مسؤول الضريح فأعطاه 136 رسالة مرسلة للضريح عبر البريد العادي من أماكن شتى في القطر المصري، بعضها مرسلة من قِبل أناس معلومين وأخرى من مجهولين[من ملامح المجتمع، ص20-25]. فظل سيد عويس في مخيلتي الرجل الذي أنطق المجهولين وأظهر أصواتهم.

وبدأت أتساءل حول العلاقة بين النظرية وحياتنا اليومية. وهل يمكن لنص علمي رصين أن يتضمن كلمات كالسمنة والدقيق والأنجر والجاز؟ وكيف يصبح ما نراه من معايشة يومية عادية متنًا على هوامش النص العلمي الأكاديمي؟ وكيف لظاهرة قد ترفضها شرعًا – كالتوسل بالأضرحة – أن تصبح محلاً لبحثك الشغوف؟ ثنائية الذاتية والموضوعية هذه المعضلة غير المحسومة لدى بعض علماء الاجتماع نجدها جدلية منتجة، تتفاعل بسلاسة في أعمال سيد عويس الذي جعل بانوراما الواقع المصري المعاصر قبلته الأولى التي يولي وجهه نحوها متسلحًا بقرابين النظرية ومناهج البحث. وتضافرت ثنائية الذاتية والموضوعية معًا بشكل بارع في ثلاثيته «التاريخ الذي أحمله على ظهري» حينما جعل ذاته نفسها دراسة حالة اجتماعية، وليس مجرد سيرة ذاتية أدبية.

ويعد هذا المقال استكمالًا لرحلتي مع سيد عويس، رحلة مع عالم الاجتماع الذي رحل عام 1988 عن عمر يقارب الـــ 85 عامًا، وما زال حاضرًا بأعماله التي تنبض بالحياة.


سيد عويس بين شقّي الرحى

يقول سيد عويس:

ثورتي على حياتي الماضية ثورة على الأوضاع الاجتماعية والثقافية بمفاهيمها وتقاليدها وعاداتها وأساليب حياتها ومستواها الاقتصادي، كنت وحدي أحارب في جبهات عديدة وعندما بدى لي أنني انتصرت لاحظت أنني ما زلت أكافح وأعاني، حتى حينما وضعت في طبقة اجتماعية أعلى اخترت بنفسي أن أكون فيها أحسست بالقلق والضياع؛ فرائحة شخصيتي وطعمها وأهدافها هي على الرغم من كل شيء تنتمي إلى طبقتي الأولى، أنها بلا تحفظ تظهر لي في كل المواقف التي أواجهها مع الطبقة الجديدة. فأحس دومًا أنني بين شقي الرحى، ولكن مرحبًا بالفشل ومعاناة الفشل للانتصار من أجل الإنسان.

هذه الفقرة تلخّص مكابدة سيد عويس التي تمخضت عنها رحلته البحثية وكتاباته التي تناولت الظواهر الاجتماعية المختلفة، وتشريحه للنماذج المنحرفة اجتماعيًا بحنو بالغ، وتعاطفه مع المهمشين والكادحين، وإبراز تناقضاتهم وتفهم منابع هذا التناقض. حينما سئل عويس عن طبيعته الحانية في تناول الظواهر الاجتماعية، أجاب بأنه قد عاش طفولته وشبابه حتى سن 27 في حي الخليفة بين أزقته وحواريه، حيث الأغلبية الساحقة فيه من صغار الحرفيين، اقترب من شخوصهم وعوالمهم، فهم – على حد تعبيره – أولاد حتته، فقد صادق أبناءهم ولعب معهم، رأى منهم من لا يجد عملًا سوى ثلاثة أشهر في السنة، فيشتري من عائد عمله جلبابًا من الجوخ وحذاءً وذهبًا لامرأته وثيابًا لأولاده ثم يبيعهم خلال أشهر السنة المتبقية ويمشي حافيًا.

كذلك رأى عويس منهم النشال الذي يسرق ويعطي المال لأمه وأخته ولأصدقائه الذين يزفونه بالحانطور بعد خروجه من السجن. فالنشال قد يكون صديقا وابنًا بارًا وأخًا وفيًا ومجرمًا. فأدرك من هذا السياق أن حدوث الجريمة له عوامل عدة، أهمها قصور أجهزة المجتمع التي تقوم بتنشئة الفرد اجتماعيًا كالأسرة والجيرة والمدرسة والمنظمة الدينية ومؤسسات شغل أوقات الفراغ والمؤسسة السياسية والثقافية والإعلام عن أداء وظائفها لتكوين مواطنين صالحين، مما أدى لظهور الجرائم المنظورة وغير المنظورة.

فهم عالم الجريمة هو هم سيد عويس الرئيسي، هذا الشغف الذي بدأ مع التحاقه بمدرسة الخدمة الاجتماعية بالقاهرة عندما فتحت أبوابها لتستقبل أولى دفعاتها ليستكمل عويس مسار تعليمه الذي قطعه لوفاة والده. فكان أول أخصائي اجتماعي مصري محترف في ميدان خدمة الجماعة[نظرات باحث، ص5]، و زاد اهتمامه بعوالم الأحداث والجريمة بعدما سافر في سن الأربعين إلى بوسطن بالولايات المتحدة لينال درجة الدكتوراه في علم الجريمة في دراسته عن المقارنة بين الجريمة في حي بولاق بالقاهرة وبوستن بالولايات المتحدة.

يذكر سيد عويس أن شغفه بالكشف عن ملامح المجتمع المصري المعاصر تولد أثناء قيامه بأول دراسة حالة لحدث جانح أثناء التحاقه بمدرسة الخدمة الاجتماعية، حيث تَطّلب منه أن يقوم بمقابلة أسرة الحدث التي تسكن في حوش قرافة، وتعيش حياة الأشباح مع الأموات، وتحيا في ظلام دامس في سرداب تحت الأرض لا تدخله أشعة الشمس في وضح النهار.

وهو ذلك الطفل الذي اعتاد لعب الكرة في أحواش القرافة مع أصدقاء حتته بين هدوء الموتى لم يتوقع أن يرى هذا المشهد، فيذكر أنه عندما خرج من الحوش التي تعيش فيه هذه الأسرة إلى شوارع الخارطة الجديدة ومنها إلى شوارع الإمامين (الإمام الليثي والإمام الشافعي) إلى الشوارع التي تؤدى إلى بيته، كان شخصًا آخر. ويصف شعوره حينها قائلًا: «أحسست أن عيني قد استبدلت بها عينان أخريان، أحسست بأنني لا أرى أشياء وأناسًا، وإنما أرى ظواهر ومواقف وعلاقات اجتماعية. كان شعوري بالضآلة أمام ما يجري جارفًا. منذ هذا الحين أيقنت أن المجتمع المصري هو معمل اجتماعي ضخم وموسوعة اجتماعية»[التاريخ الذي أحمله، ص4].

كانت تجارب سيد عويس الشخصية ووقائع حياته نبراسًا لموضوعاته البحثية، فنجد أن أهم أعماله كرسائل الإمام الشافعي ودراسته لصناديق النذور، مستمدة بالأساس من تأثره بتجربته الشخصية حينما كان صبيًا حريصًا على النجاح في المرحلة الابتدائية، فاستمع لنصائح من حوله بكتابة وريقة يطلب فيها من الإمام الشافعي العون، ثم يودعها مقصورة الضريح. وبعد مرور 30 عامًا على هذه الواقعة، فكر عويس في أن هذه الرسائل بما تحمله من آمال وشكاوى صادقة قد تصبح مصدرًا جديدًا لدراسة الجرائم غير المنظورة في المجتمع المصري[من ملامح المجتمع، ص20].

واستلهم أفكار كتابه الإبداع الثقافي على الطريقة المصرية التي درس فيها نماذج بعض الأولياء والقديسين في مصر من فكرة تشكيل المحكمة الباطنية التي تضمنتها الرسائل المرسلة إلى ضريح الإمام الشافعي، ليحاول الإجابة عن عدة أسئلة منها؛ لماذا يلجأ بعض المصريين للمحكمة الباطنية المستقرة في أعماق وجدانهم بدلًا من محكمة الأحياء؟ ودور الطرق الصوفية – بوعي أو دون وعي – في نشر الدعوة الشيعية، مستخدمًا الأسلوب الثقافي الاجتماعي التاريخي في التحليل[الإبداع الثقافي، ص61]. وهكذا تولد أعمال سيد عويس بعضها بعضًا لأنها تحتوي على نصوص حية.


تلاقي سيد عويس ونجيب محفوظ

إذا أمعنا النظر في حياة سيد عويس وعلاقته بحي الخليفة وأزقته وشوارعه نجد تلاقيًا بينه وبين نجيب محفوظ، كل منهما جعل من المكان وشخوصه مادة خصبة لأعماله، ولكن كلا بمنظور مختلف، فحينما جعلهم نجيب محفوظ أبطال رواياته، جعلهم سيد عويس دراسات حالة في بحوثه الاجتماعية.

فلا غرو أن نجد أن كليهما امتلكا ثلاثية، فبينما كتب نجيب محفوظ ثلاثيته الأدبية الشهيرة، كتب سيد عويس ثلاثيته التي تناولت سيرة حياته كدراسة حالة اجتماعية أسماها التاريخ الذي أحمله على ظهري. جزؤها الأول: الجذور والبذور تحدث فيه عن عوالم حي الخليفة وأسرته الممتدة، والثاني: ماء الحياة تناول فيه رحلات سفره للخارج ومعايشته للفترة الناصرية الأولى، وكلاهما (البذور وماء الحياة) أخرجا الجزء الثالث الذي أسماه الثمار ذكر فيه ما خلص به من رحلته الطويلة.

يشترك نجيب محفوظ وسيد عويس في قدرتهما على التقاط الصور الحية مكثفة الرموز والدلالة من تفاصيل الحياة اليومية،يشير إلى ذلك جمال الغيطاني حينما امتدح ما انتبه إليه عويس من رصده لردود فعل الجنود المصريين العفوية حينما عملوا تعظيم سلام للملك فاروق وهو على متن السفينة راحلًا خارج البلاد بعد 23 يوليو 1952.

يمكننا أن نتناول بمزيد من التفصيل التلاقي بين نجيب محفوظ وسيد عويس في مواطن أخرى، ولكننا سنكتفي في هذا المقام بذكر مثال واحد؛ وهو دراسة حالة سيد عويس عن أبو فانوس مطفي وروايتي نجيب محفوظ زقاق المدق وخان الخليلي.

يذكر عويس أنه قرأ رواية زقاق المدق بعد عودته من بعثته التعليمية بلندن سبتمبر/أيلول 1948، ولم يكن نجيب محفوظ معروفًا حينئذ، وساهمت هذه الرواية في ذكر اسمه بين الشباب. وقد استهوته الرواية لأنها عكست حياة أهله البسطاء؛ فأبطال زقاق المدق هم أبطال الحياة التي عايشها.

ففي دراسته أبو فانوس مطفي،يناقش عويس معنى الانتماء عند أبناء الطبقات الدنيا، وعلاقتهم المرتبكة بالطبقة التي ينتمون إليها، ولا يستطيعون الفكاك منها، وكيف يمارس المجتمع النبذ لأفراده، وينبذ الفرد الجماعة التي عاش معها. ويذكر عويس أن في الطبقات الدنيا ثمة أشخاص ينفرون من الانتماء إلى طبقتهم الاجتماعية وهم عادة عساكر البوليس، وصغار المقاولين وصغار التجار وشيخ الحارة والأسطى إبراهيم. والأسطى إبراهيم أو إبراهيم أفندي هو أحد أشخاص حتته، الذي وجد فيه نموذجًا لهذا الصراع والسخط للانتماء للطبقات الدنيا.

فيذكر عويس أنه حينما سأل إبراهيم أفندي عن رأيه في الحياة رد قائلًا: «أنا مبقولش لمراتي على سر، النسوان مالهومش أمان، مفيش حاجة هتنفعك غير عينك وعافيتك والقرش اللي في جيبك»، وعن أصدقائه وأعدائه أخبره قائلًا: «أصحاب مين في الحتة الزفرة دي، هما دول ناس دول بهايم، المرة بتضرب الرجل على قفاه، إخص على دي حتة ودي ناس».

ويستطرد قائلًا: «بسطاء إيه، ناس معندهومش تربية ولا أصول وذوق بيوت الباشوات»، حيث يرى إبراهيم أفندي أنه رغم جهله بالقراءة والكتابة إلا أنه ينتمي لأحد بيوت الباشوات، ولكن شقاوته تسببت في خلافه مع أخيه الأكبر الذي يتحكم فيه بعد وفاة والديه، فسوء حظه لكونه يتيمًا هو الذي أتى به إلى هذه المنطقة، واضطر للعمل كطبال. يبين سيد عويس أن هذه الحكاية اختلقها إبراهيم أفندي لينسب نفسه لطبقة الباشوات. يواصل عويس أسئلته لإبراهيم أفندي، فيخبره لماذا لا تحب لقب الأسطى، فيتصبب عرقًا حينئذ قائلًا: «الأفندية أحسن مني في إيه، أنا عندي مفهومية لولا أإي حظي وحش واتربيت يتيم».

علاقة إبراهيم أفندي بالحارة مرتبكة، فهو لم يمقتهم كل المقت ويظهر ذلك حينما سأله عويس: «بيقولوا أنت أول واحد ضرب التليفون للإسعاف لما ابن ستهم قرصته العقربة»، فرد عليه قائلًا: «هو الضفر يطلع من اللحم، هما أولاد حتتي، جتهم الهم، ولما ضربت التلفون للإسعاف، عشان الولد ابننا وستهم بنتنا مش عشانهم».

هذا الشعور بالقذارة والرغبة في الانفكاك عن الطبقة الدنيا يتلاقى مع حميدة بطلة رواية زقاق المدق التي ترى أن مكانها مع الطبقات العليا من أهل الذوات وليس أهل الزقاق البؤساء.

ويؤكد عويس على أن أهل الحتة نبذوا إبراهيم أفندي كما نبذهم، وبحثوا عن شائنة يصمونه بها، فوجدوا في جسمه غايتهم، فرغم أنه وسيم وضخم البنية ولا يبدو على أنه قد جاوز الستين، إلا أنه فقد عينه اليمنى وهو طفل يلهو في أزقة الحي، فدأبوا على مناداته بأبو فانوس مطفي. وكانت تغازله الفتيات بـــ«خسارة الحلو ما يكملش، لو مكنتش العين الزجاج كان برنس أبو فانوس مطفي».

فترك لهم إبراهيم أفندي الحارة وواظب على الخروج مبكرًا حتى المساء إلى إحدى مقاهي الحي المجاور حتى يتحاشى اللقب اللعين، الذي يثير حقده ويهزه هزًا. فكان يجلس مع صغار الموظفين من الحي المجاور، ويتحدث في الاقتصاد والدين والسياسية ويزهو ويفخر ويظن بسعادة هذه الشلة له أنه واحد منهم؛ أي أنه ارتفع درجة من أبناء طبقته، إلى أن سأله أحد أفراد شلته «هو أنت سيادتك بكالوريا ولا تجارة؟»، فذهب ولم يعد لهم بعدها أبدًا، وظل يعيش على هامش الحياة.

مشهد إبراهيم أفندي على المقهى بالحي المجاور يتماثل وحالة أحمد عاكف في رواية خان الخليلي، الذي كانت حياته عذابًا متصلاً وشقاءً مقيمًا لشعوره باضطهاد المجتمع له، وعدم تقديره لذكائه وعلمه.


المجتمع المصري في مرآة المرأة المصرية

يؤمن سيد عويس بمقولة توفيق الحكيم في عودة الوعي بأنه «إذا جيء بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة، من تجارب ومعرفة رسبت بعضها فوق بعض وهو لا يدري». لذا يرى عويس ثنائية الأصالة والمعاصرة ثنائية غير ذات موضوع، فالمصري قديم متجدد وجذوره الثقافية لا تزال موغلة في القدم.[التاريخ الذي أحمله، ص91] والمجتمع المصري ليس مجتمعًا جامدًا؛ فقد غيّر المصريون لغتهم مرتين، واستبدلوا دينهم بدين آخر مرة أو مرتين، وجمعوا بين القديم والحديث في مظاهر حياتهم وألوان ثقافتهم، فالعادات الجنائزية على سبيل المثال ترجع إلى عهد ما قبل الأسرات. ولم يتم القضاء عليها، فقد صارت نعيًا في الجرائد أو حفلات طويلة ومؤثرة، وهي في واقع الأمر استمرار للعادات الجنائزية القديمة. [الإبداع الثقافي، ص7]

فلكل شيء تاريخ، وينبغي لفهم أية ظاهرة اجتماعية الرجوع للماضي السحيق، ونجد صدى هذه الرؤية في أعمال عدة لسيد عويس منها تناوله لظاهرة التوسل للأولياء والقديسين التي رصدها منذ حورس وأوزوريس، وكذلك موضوع المرأة الذي سنركز عليه كنموذج هنا.

فحين تناول عويس موضوع المرأة المصرية المعاصرة نجده تحدث عن الزواج والطلاق والنظرة للجسد منذ الفراعنة حتى العصر الحديث، مركزًا على التراث الشعبي وتحليل مصادره المختلفة من البرديات حتى المواويل والأزجال[حديث عن المرأة، ص38]، ومن شواهد القبور حتى اللافتات على العربات، من الأمثال الشعبية إلى طقوس العزاء وشكاوى الأولياء [حديث عن المرأة، ص36].

فبحث في التاريخ الفرعوني عن وثائق الزواج والطلاق، كنص وثيقة طلاق في الأسرة الرابعة[حديث عن المرأة، ص45]:

لقد هجرتك ولم تعد لي حقوق عليك كزوج، ابحثي عن زوج غيري؛ لأنني لا أستطيع الوقوف إلى جانبك في أي منزل تذهبين إليه، ولا حق عليك من اليوم فصاعدًا باعتبارك زوجة تنسب إليّ وشريكة لحياتي، اذهبي في الحال بلا إبطاء أو تراخٍ. (زوجك المطلق أمون حوتر)

يكشف عويس في دراسته حديثًا عن المرأة المصرية المعاصرة عن تناقض المجتمع حيال المرأة ما بين العشق والوله بها وانتهاكها في الآن نفسه. فيتم التغزل بالمرأة منذ الأزل، ويستشهد ببردية هيراطيقية يرجع أصلها إلى مدينة طيبة عاصمة الدولة الحديثة التي أسستها الأسرة الـــ18 حيث يصف المحب حبيبته:

شعرها لازورد أصيل ذراعها يفوق الذهب أصابعها أزهار اللوتس

وينتقل من البرديات إلى المواويل فيشعرك أن المصري ممتد من هناك. وقد عكست المواويل الشعبية الخلاف حول معايير الجمال الأنثوي كالخلاف على لون البشرة ما بين البياض والسمار، على سبيل المثال:

يا بيض يا بيض إحنا السمر خير منكم وأنتم مصاص القصب وإحنا حلاوتكم وأنتم مصاص القصب على الكوم مرمية وإحنا بلاليص العسل في الضل مخبية البيض زي اللبن إن عوقوا رابوا والسمر زي العسل إن عوقوا زادوا

ولكن على الرغم من التغزل بالمرأة وتقدير منزلة الأم إلا أنه يتم سبها انتهاكًا لقداستها في المجتمع نفسه، وقد يسخر من النساء حتى وهن حوامل. فيذكر عويس أنه عندما رأت الحكومة أن تمنح الموظفين علاوة لأول ثلاثة أطفال في الأسرة، فسارت المرأة الحامل في الشارع المزدحم تتلقى ضمن ألفاظ السخرية عبارة «أوعى العلاوة».

وقد نضحت رسائل النساء للإمام الشافعي بالأنين والألم الذي تعانيه النساء الكادحات لتدني المستوى الاجتماعي الذي يعشن في كنفه وتعرضهن للظلم، فترسل محفوظة من الشرقية رسالة بتاريخ 24 إبريل/نيسان 1958 إلى الضريح قائلة:

وترسل أخرى شاكية:

إلى جناب المحترم السيد الإمام الشافعي قاضي الشريعة مقدمته لسيادتكم نزهة.. بما أني حرمة فقيرة الحال ومسكينة وغلبانة، تتفسر في الذي كسر بيتي، وأخد مني البهايم والبرسيم، تتفسر فيه وتخبله بأي داء في جميع جسمه أو يلقوه مكتول (مقتول) مرمي، أنا ولية مسكينة وشاحتة منك ومن الله وشكوتي لك ولله.

وترسل «لولي» (تقيم في المعادي) رسالة للضريح فتقول[حديث عن المرأة، ص119]:

سيدي الإمام الشافعي بأتوسل إلى الله بأن يمنع عني عبده اللي بيشتغل معايا، وظلمني وكل يوم يضربني ويشتمني، وإن ربنا يمنعه عني ويخلص لي. والسلام عليكم ورحمة الله. من لولي بنت (….. ) بالمعادي شغالة طرف الباشا(….) وأمام الطباخ تمنعه عني.. والسلام ختام.

يرى عويس أن النساء المصريات يجدن في التعبيرات القاسية النابية نافذة اجتماعية ثقافية للتنفيس عن الشعور بالعداوة التي يشعرن بها في ظل ظروفهن القاهرة، فالدعاء بخراب البيوت و(يوووه قطيعة) أي الحرمان هو الأشهر تداولًا على ألسنة النساء.[حديث عن المرأة، ص202]


لمحات من أعمال سيد عويس

أما بعد فقد حصل يا سيد الإمام الشافعي أن إبراهيم (…) من مركز (…) قد ضربني بالبلغة، وتهجم عليا بدون سبب، وأن أخي كامل هو الذي حرضه على ذلك رغم أنه احتكر مبلغ 100 جنيه شبكة، وزوجني رغم أنفي، وضيع مالي للمستأجرين، وتهجم علي بكل أذية، وسلط علي كل من يؤذيني، وأخي محمد ضربني على يدي.

واصل عويس اهتمامه بالبحث عن التحولات التي تمر بها الأسرة المصرية، فقام بعدة بحوث خلال الفترة من 1972-1973. وخلص منها إلى عدة نتائج منها؛ عدم نضج النظرة للجنس الآخر، وفقدان الثقة المتبادلة بين الذكر والأنثى في المجتمع المصري المعاصر. فالشباب والفتيات لا يفهمون الاختلاط بشكل سليم. وأن الزواج من خارج الأقارب وإن ساهم في تفتيت أواصر الأسرة الممتدة إلا أنه لا ينفي الصلة الوثيقة أو على الأقل الشعور بالانتماء لها. وأن دور الحماة قد عاد للظهور بأشكال مختلفة عن العقود السابقة نتيجة لعمل المرأة. وأن معاملة الآباء للأمهات في أوساط المتعلمين سواء من أبناء الريف والحضر غير مرضية[حديث عن المرأة، ص167]. ولاحظ عويس كذلك أن النساء – في ضوء بحثه – لا يطلبن المساواة حد التطابق، فاعترافهن بالمساواة غير قائم وقتئذ، وإن بدا له أنه غير بعيد في المستقبل القريب [حديث عن المرأة، ص179].

يؤكد سيد عويس على أن نموذج الأسرة المثالية نادرة في المجتمع المصري، وأن الأجيال أصبحت أجيالاً ثقافية أكثر منها أجيالاً زمنية خاصة في المدن. وأن الصراع في المجتمع هو صراع أجيال وليس صراع طبقات[حديث عن المرأة، ص257]. وتزداد احتمالية وجود الصراع الاجتماعي كلما كانت التغيرات الاجتماعية التي يضطر أعضاء المجتمع للتكيف معها تحدث بخطى سريعة. وأن تسارع وتيرة التغييرات في مكونات المجتمع المادية وغير المادية يحُدّث التخلف الاجتماعي الذي يصاحبه الخلل الاجتماعي، وهذا الخلل يحمل معه القلق والاضطراب والتناقض في العلاقات الاجتماعية [حديث عن المرأة، ص254].

ويرى عويس في دراسته عن أساليب مقاومة القهر والمحن أن التدين الزائد عن الحد قد يكون وليدًا للقهر والمحن بألوانها العديدة، وقد يتضمن هذا النمط من التدين التعصب. ويولد القهر التوترات إن لم يجد المنافذ الاجتماعية غير الضارة لتفريغ الشحنات العدوانية كالرياضة، والفنون، والمواكب والاحتفالات والمهرجانات والموالد، النكات[الأساليب السلوكية، ص7]. ورصد عويس مواقف المجتمع المصري لمواجهة القهر والمحن في الآتي؛ موقف المتفرج أي اللامبالاة أو موقف المنافق المستضعف، أو موقف الصابر الذي ينتظر تغير الأحوال، أو موقف الشكاء يشكون القهر والقاهرين للأحياء أو الأموات، أو موقف المنحرف [الأساليب السلوكية، ص13-14].

وفي دراسته «هتاف الصامتين» التي حلل فيها العبارات المكتوبة على هياكل السيارات، رأى أن المصريين قد اخترعوا جهازًا إعلاميًا يحاولون فيه أن يسمعوا أصواتهم دون أن يراهم أحد، وأن يهتفوا بمحض إرادتهم. وتعكس هذه العبارات الثقافة غير المادية التي تملأ المناخ الثقافي والاجتماعي، وتعيد إنتاج هذه المعاني وترسيخها في وعي أفراد المجتمع على امتداده ريفًا وحضرًا.[عويس، 1973]

يؤكد عويس على أن مهنة عالم الاجتماع لابد أن توظف لخدمة المجتمع، وهذا يتطابق ومساره المهني الذي أورده في دراسته عن تاريخ الخدمة الاجتماعية في مصر، وفيما قام به من أعمال كباحث منفرد أو كمستشار في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية كدراسته عن رفع الروح المعنوية للجنود قبل حرب 1973[عويس، 1959]، ودراسته بندر أسوان لدراسة التغيرات التي حدثت في هذه المنطقة [عويس، 1970].

قد لا يحمل مشروع سيد عويس الاجتماعي رؤى فلسفية كبرى، ولكنه حمل رؤيته الصادقة للحياة والمجتمع والكادحين. وندعي أن المجتمع في حالته الراهنة بحاجة لمن يستمع إلى أصواته كما فعل سيد عويس، أن يزيح بالعلم الغبار عنه ولا يحجب أصواته بدعوى الموضوعية، ونزعم كذلك أن سيد عويس يصالحنا على المجتمع المصري بتناقضاته دافعًا لفهمها أملًا في تغييرها.

المراجع
  1. سيد عويس، نظرات في المرأة المعاصرة، المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم.
  2. سيد عويس، من ملامح المجتمع المصري المعاصر: ظاهرة إرسال الرسائل على ضريح الإمام الشافعي، المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم.
  3. سيد عويس، الإبداع الثقافي على الطريقة المصرية، المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم.
  4. سيد عويس، التاريخ الذي أحمله على ظهري.
  5. سيد عويس، من الإبداع الثقافي على الطريقة المصرية.
  6. سيد عويس، حديث عن المرأة المصرية المعاصرة: دراسة ثقافية اجتماعية.
  7. سيد عويس، بعض الأساليب السلوكية المصرية لمواجهة القهر والمحن، إبريل 1983.
  8. سيد عويس، نشأة مهنة الخدمة الاجتماعية في مصر: تاريخ شخصي، 1973.
  9. سيد عويس، بحث علمي اجتماعي لبندر أسوان، المركز القومي للبحوث الاجتماعية الجنائية، 1959.
  10. سيد عويس، الروح المعنوية لأعضاء القوات المسلحة، 1970.