محتوى مترجم
المصدر
The Critique
التاريخ
2015/04/01
الكاتب
عارف أحمد

كثيرًا ما يؤكد السياسيون في بريطانيا وأوروبا وأمريكا هذه الأيام أن «الإسلام دين سلام»، وهناك نوعان من الأدلة على ذلك، يفتقران سويا إلى التماسك.

أولا: إذا كانت الأغلبية العظمى من المسلمين ترفض بشكل قاطع الإرهاب والعنف السياسي الذي يمارسه بعض إخوانهم في الدين، لوجدت الرفض في غزة أكثر انتشارا وحِدّة منه في فرنسا، والبلاد الإسلامية – شيعة وسنة – من بين أهم حلفائنا في المنطقة ضد هذه الحركة.

لكن رفض معظم الأتباع للعنف لا يعني بالضرورة سلمية دين أو عقيدة ما. فلن يزعم أحد أن القومية الأيرلندية في السبعينات والثمانينات كانت حركة مسالمة، على الأقل مقارنة بالقومية الأيرلندية والأسكتلندية الحالية، على الرغم من الرفض الذي كان الجمهوريون ليبدوه آنذاك لوسائل الجيش الجمهوري الأيرلندي.

ثانيًا: صحيح أن القرآن يرفض التعصب والعنف في مواضع كثيرة، لكن في الوقت نفسه – كما الكتاب المقدس- يتحدث كثيرًا عن محاربة الكفار والمصير البشع الذي ينتظرهم في الآخرة. لعله كتاب متضارب، فيكون ادعاء سلمية الإسلام حينئذ ضربًا من التحيز. أو لعله يملك رسالة محكمة، لكنها شديدة التعقيد بحيث يعجز السياسيون من غير الباحثين عن إصدار توصيف صحيح.

على كل حال، إن ضرورة إصدار القادة السياسيين مثل هذه الأحكام لهو أمر مفهوم وغير مفاجئ، فهم أشد اهتماما بإثارة التسامح بين الأديان منهم بصحة زعمهم.

وتقبل بعض الأتباع للعنف أمر مشترك بين الإسلام والمسيحية. فسبب الصدمة التي تصيبنا عند مشاهدة أفعال داعش والقاعدة يرجع إلى كونها معروضة على التلفاز اليوم. أما الوحشية ذات الدوافع الدينية فهي أمر ألفته البلاد الأوروبية التي شهدت قرونا من الهيمنة المسيحية.

مضى على ظهور الإسلام ١٤٠٠ عام تقريبا. ولو رجعنا بالزمن إلى عصر القديس بطرس، لوجدنا أيدي الكنيسة الكاثوليكية ملوثة بالتعذيب الجماعي للمهرطقين، وحرق الـ«ساحرات»، واضطهاد اليهود. كان كل ذلك قبل وقوع أحداث مثل مذبحة سان بارتيليمي، ومحاكم التفتيش الإسبانية، ومعاهدة لاتران. ولا شك أن البابا لم يعد يمتلك اليوم أي كتائب قتالية، وهو منذ فقدها اكتسب استعدادا غريبا للاعتذار عما قام به أسلافه من أصحاب الكتائب القتالية.

الحركات الأصولية الإسلامية «حركات سياسية وفلسفية»، ذات فكر متماسك ومنظم يستحق مزيدًا من البحث. ويمكننا الحصول على صورة أوضح لها عبر كتابات «سيد قطب» أهم رموزها المعاصرين.

وارتكاب الفظائع باسم التدين أمر غير مفاجئ، فالأنظمة الإسلامية والمسيحية – على عكس اليهودية – لا تكتفي بتسيير حياة بني جلدتها فقط، بل البشرية جمعاء: أصلها، وطبيعتها، وعلاقتها بالإله، وتحوي الثالثة عندهم معنى الحياة كله. إن مثل هذه الأنظمة الاعتقادية فيروسية، بمعنى أن كل من يتبناها يسعى إلى نشرها بين الجميع ولو على حساب حياته وحياة الآخرين. ويقارن «إدوارد جيبون» بين اليهودية والمسيحية المبكرة قائلا: «إن وعد التأييد والمحاباة الإلهية مقدم إلى الأحرار والعبيد، إلى الإغريق والبرابرة، إلى اليهود والأغيار، وليس محصورا في سلالة إبراهيم. فكل الامتيازات التي من شأنها رفع المؤمن من الأرض إلى السماء لا تزال محفوظة لأعضاء الكنيسة المسيحية؛ إلا أنها في الوقت ذاته دعوة موجهة إلى البشرية كلها لتحوز التميز الإلهي، بما فيهم المجرمون والجناة، وذلك التميز ليس منحة مهداة بل هي التزام مفروض.» [١]

لكن الأساليب العنيفة ليست التهديد الوحيد الذي تمثله الأصولية الإسلامية، بل ولعلها ليست التهديد الأخطر. ربما كان بعض أنصار داعش والقاعدة من المجرمين السيكوباتيين، لكن الحركات نفسها حركات سياسية وفلسفية. والأصولية الإسلامية فكر متماسك ومنظم يستحق مزيدًا من البحث. ويمكننا الحصول على صورة أوضح لها عبر كتابات أهم رموزها المعاصرين، وأعني بذلك «سيد قطب» الكاتب المصري وأحد الناشطين السياسيين في القرن العشرين.

ولد «سيد قطب» في عام ١٩٠٦م، وقضى الجزء الأول من شبابه معلمًا، قبل أن يصبح موظفًا حكوميًا في وزارة التعليم المصرية بالقاهرة. ثم سافر إلى الولايات المتحدة في أواخر أربعينيات القرن العشرين وقضى فيها عامين. ولا بد أن هذه الزيارة قد بلورت بعض الأفكار في ذهنه، حيث استقال بعد عودته من الوظيفة وانضم إلى تنظيم «الإخوان المسلمين» المصري.

كان ذلك التنظيم حينها حليفًا للكولونيل «جمال عبد الناصر»، الذي تسلم السلطة في ثورة ١٩٥٢م، وعرض على «سيد قطب» منصبًا في الحكومة الجديدة،لكنه رفض المنصب لعلمه بما يخططه عبد الناصر سرًا ضد الإخوان المسلمين. كان ذلك قبل خروج الخطة إلى حيز التنفيذ بعد محاولة التنظيم الفاشلة لاغتياله عام ١٩٥٤م، وقضى «سيد قطب» نفسه معظم الاثنتي عشرة سنة التالية في السجن، قبل أن يتم إعدامه بقرار من «عبد الناصر» عام ١٩٦٦م.

معتقد «سيد قطب» بأنه «لا حاكمية إلا لله» ينزع الشرعية عن كل نظام سياسي ظهر أو سيظهر يوما، ما عدا استثناء وحيد هو السلف، أي الأجيال الأولى من المسلمين.

إن أثر «سيد قطب» في الأصولية الإسلامية أمر معروف، وقد عرضه «بول بيرمان» بوضوح في كتابه المهم «الإرهاب والليبرالية». ولقد كان لكتابات «سيد قطب» تأثير واضح على «بن لادن»، و«الظواهري»، و«العولقي»، كما تسعى القاعدة وداعش إلى تنفيذ الأهداف السياسية التي نص عليها في كتابه الشهير «معالم في الطريق»، الذي كُتب في السجن، ونُشر لأول مرة عام ١٩٦٤م. فهذا الكتاب يحوي مجموعة من النقاط الهامة، من الواضح أنها نتاج فكر ثاقب شديد التنظيم، وهناك أربع من هذه النقاط تستحق الذكر هنا:

١. ينطلق كتاب «معالم في الطريق» من عقيدة التوحيد، وهي العقيدة المركزية في الإسلام، بمعنى أن لا إله إلا الله. وينتج عن ذلك تبعية جميع السلطات السياسية لله وحده. فلا يملك أي بشري السلطة التشريعية. وفي عصرنا، يمكن للجهل بالسلطة الإلهية أن يظهر «في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة». [٢] و«لا إله إلا الله» تعني «لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله». [٣]

هكذا ينزع ذلك المعتقد الشرعية عن كل نظام سياسي ظهر أو سيظهر يوما، ما عدا استثناء وحيد – حسب «سيد قطب» – هو السلف، أي الأجيال الأولى من المسلمين. لذا يمكن وصف الحركة الإسلامية بأنها حركة تحرير، بمعنى أنها تحرر كل فرد من أسر الآخر بنفيها الحق التشريعي لأي إنسان، مهما كان مصدر سلطته، طبقيًا كان، أو عرقيًا، أو اقتصاديًا، أو ديموقراطيًا. «يهدف الجهاد إلى التحرير العام للإنسان في الأرض،بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك». [٤]

٢. تسري مشيئة الله على كل شيء في الكون، مادي وروحاني. ونرى نتاج ذلك التصور في الشمولية التامة للعقيدة الإسلامية، بحيث تكون – حسب «سيد قطب» – مصدرًا «نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق، وجود الله سبحانه. ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة، وقيمنا وأخلاقنا، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة».

أما التطبيق السياسي لذلك فهو تغلغل القانون الإلهي – الشريعة – في كل مناحي الحياة الإنسانية، حتى أكثر الأمور رتابة وحميمية. وكما أن الشريعة تحدّد السلوك الإجرامي وتعين عقوباته، فإنها تحكم السلوك الاقتصادي، والصلوات، والنظافة الشخصية، والنظام الغذائي، والعلاقات الزوجية والملبس. وهي في هذه الناحية تتعارض بوضوح مع المسيحية، التي تفرق بين المجال الروحاني من الحياة، وبين المجال العملي، وتميل إلى إهمال الأخير نسبيا.

٣. إن سبب تفرد الحضارة الإسلامية هو استثارتها لجوهر الإنسانية، تلك الخصوصية التي تجعل الإنسان إنسانا لا مجرد حيوان. ويقول «سيد قطب»: «لكن الإنسان مع اشتراكه في بعض الصفات مع الحيوان ومع المادة، له «خصائص» تميزه وتفرده، وتجعل منه كائنًا فريدًا»،والخصيصة الرئيسية هنا هي الميل الروحاني إلى العقيدة التوحيدية، وهو ما يعتبره الفكر الإسلامي بشكل عام أمرًا فطريًا.

فهناك حضارات أخرى أخطأت بتأكيدها على الجانب الحيواني/المادي للإنسانية. فالإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البريطانية – على سبيل المثال – قامتا على أنظمة طبقية استثمرت أنانية الإنسان وجشعه. وبالمثل كانت – ولعلها ما زالت – الولايات المتحدة وروسيا الماركسية مجتمعات مادية تماما: الولايات المتحدة في ممارساتها حيث تشجع على السعي وراء الثروة المادية، والشيوعية في نظريتها حيث ترى الإنسان وتاريخه باعتباره مجرد تجلٍّ لتفاعل القوى المادية.

رغم حضور الجهاد بقوة في رؤيته، إلا أن «سيد قطب» يرفض أن تُفرض العقائد الإسلامية بالقوة، عملا بالقاعدة القرآنية «لا إكراه في الدين»، ولا يتعارض هذا مع العنف السياسي الهادف إلى تدمير المؤسسات التي تحول بين البشر والإيمان

أما المجتمع الإسلامي فكان – على عكس ذلك – مجتمعًا إيمانيًا، لم يبدِ أي اهتمام بالفوارق الطبقية، أو القومية، أو العرقية. واجتمع أفراده «كلهم على قدم المساواة وبآصرة الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فبذلوا جميعهم أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعًا على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد». [٦] وبسبب مخاطبة المجتمع الإسلامي لما هو خصيصة بشرية وعالمية في الوقت نفسه، كان هو في السياسة المثل الأعلى للبشرية جمعاء.

٤. في أثناء السعي لإقامة المدينة الفاضلة – بالجهاد- يسمح باستخدام القوة، إلا أن «سيد قطب» يضع تفرقة حادة هنا. فهناك سعي لفرض العقائد الإسلامية بالقوة من ناحية، وهو ما يرفضه «سيد قطب» امتثالا للقاعدة القرآنية «لا إكراه في الدين»، أما على الناحية الأخرى فهناك عنف سياسي يهدف إلى تدمير المؤسسات التي تحول بين البشر والإيمان، تلك التي «تعبَّد الناس للناس، وتمنعهم من العبودية لله». والمثال على ذلك هو المؤسسات العلمانية في الولايات المتحدة الأمريكية، وأدواتها في فرض سلطتها المدنية والعسكرية. حيث يرى «سيد قطب» شرعية استهدافها. ولا شك أن ضحايا برج التجارة العالمية كانوا ليجدونها مجرد تفرقة أكاديمية.

لكن، هل هذا صحيح؟

بخصوص النقطة (١)، إن أردنا مناقشة الإيمان بإله ما، فلن نجد بقية كلام تستحق الذكر، بعد أن تكفل بذلك الفلاسفة المتشككون، بدءًا من «ديموقريطس» و«لوكريتيوس» إلى «هيوم»، و«راسل». فلا تقدم المشاهدة ولا المنطق أي أسباب تبرر الإيمان بآلهة من أي نوع، ناهيك عن كونه إلهًا واحدًا، تولى خلق الكون، واحتفظ لنفسه بسلطة تحديد جميع قيم ومنطلقات السلطة السياسية.

أما النقطة (٢)، فتكشف تقارب الحركة الأصولية الإسلامية مع الفكر الشمولي، وأعني به النظام السياسي الذي تسيطر فيه أيديولوجية الدولة على جميع نواحي حياة أفرادها. وقد يعترض أحد بأن الإسلام – عند فهمه على وجهه الصحيح – يتناغم مع سماتنا الأساسية، على عكس التنظيمات الشمولية – مثل الاتحاد السوفيتي والفاشية الإيطالية – التي حاولت فرض أنظمة غريبة عن الطبيعة الإنسانية بالأساس.

هذا يقودني إلى النقطة (٣)، التي تحتوي على أخطاء ثلاثة.

الخطأ الأول، أن مفهوم «الجوهر”» نفسه مجرد خرافة فلسفية كان علينا تخطيها منذ زمن داروين. هناك عدة خصائص تفصل بين الإنسان الحيوان والحيوانات الأخرى، مثل انتسابه إلى ذوات القدمين مع خلوه من الريش، لكني لا أرى أن أيًا من هذه الخصائص- مثل الميل إلى الإيمان بالإله – تحدد ما يعنيه حقا أن تكون إنسانا، بغض النظر عن جودتها البلاغية مثلا.

يكمن سرّ الجاذبية العميقة لفكر «سيد قطب»، في تقديمه رؤية معينة للحياة تسمو بنا فوق سباق الاقتناء اللانهائي عديم الفائدة، الذي يرى فيه كثير من المعارضين خصيصة تميز حياة الطبقة الوسطى في بريطانيا وأمريكا.

يمكنك كذلك القول إن هذا الفارق يكمن في قدرتنا على تأليف الموسيقى، أو فهم الرياضيات، أو استيعاب حتمية الموت، أو أي من هذه الأشياء الأخرى التي تجعل من أحدنا «إنسانًا حقيقيًا». وما ستختاره من بين هذه الخصائص يعتمد غالبًا على ما تريد دفع المستمع إلى اعتقاده، أو قوله، أو فعله. فلو أردت منهم التبرع بالنقود للأعمال الخيرية لقلت إن ما يجعلنا بشرًا حقًا هو القابليةللعطف على الآخرين. ولو أردت منهم قتل غير المؤمنين يمكنك القول إن ما يجعلنا بشرًا حقًا هو اعترافنا بوجود الإله. لكن أيًا من ذلك لن يكون صحيحًا.

الخطأ الثاني، أن فكرة تناغم الشريعة مع الدوافع البشرية العالمية تناقض الحقيقة الفلسفية التي تنص على إمكانية اختلاف العقلاء على الأهداف. فقد ترغب في سلوك درب ما في حياتك، وأود أنا سلوك درب آخر؛ ولا يستلزم ذلك وجود خطأ ما. فإنكار هذه النقطة هو ما يجعل من الفلسفة المثالية فلسفة فاشية. وذلك ما يدفع الفيلسوف المصري إلى الاتفاق مع «جان جاك روسو» – لعله المفكر الغربي الأقرب إلى قلب «سيد قطب» – بأن من يرفض الفلسفة المثلى يجب «إجباره على الحرية». [٧]

لكن تقبل ذلك يشجع على تصورات عن القانون والدولة أكثر تواضعًا مما يقدمه «سيد قطب». إن القانون إطار يمكن فيه لكل مواطن أن يخطط لسعيه نحو سعادته الخاصة وينفذ مخططه، أينما قاده ذلك. وهذا الإطار ضروري لمنع أي إنسان من تقييد حرية الآخر. لكنه لا يهدف إلى إعادة تنسيق جميع الأنشطة البشرية سعيًا وراء هدف عام واحد – سواء أكان مجد الإله، أو كان انتصار البلوريتاريا، أو كان تفوق عرق – يفترض فيه وجود موافقة مسبقة للجميع عليه.

الخطأ الثالث، أن الاعتراض الأوثق صلة بالتفكير العملي، هو أن على النظم السياسة تخفيض اهتمامها بمعرفة أي الدوافع هي خصيصة بشرية، مقابل اهتمامها بأي الدوافع هي أشد قوة وانتشارًا بين البشر. وأعتقد هنا أن «توماس هوبز» كان الأقرب إلى الحقيقة عندما قال أن الإنسان بطبعه يهوى التسلط على الآخرين [٨]، وهو ما أحسن «فريدريك حايك» و«الورد أكتون» بالتعليق عليه عندما قالا إن أسوأ البشر هم من يتسنّى لهم عادة تحقيق ذلك.

ولو اقتصر عطاء التاريخ الروماني على درس واحد، لكان هذا هو الدرس، حيث نشهد مسيرة ملعونة من الأباطرة تضم أمثلة على كل خبث بشري بدءًا من المرتشي والفاسد، وحتى أشد السيكوباتيين تطرفًا. ولن يحتاج أحدنا أكثر من دقيقتين للتفكير في أمثلة أخرى من كل زمان ومكان. وحتى في بلادي (بريطانيا) المسالمة الديموقراطية، نجد أن الخداع والفقر الأخلاقي اليوم في طبقة السياسيين لهو مضرب الأمثال.

إن فكرة الدولة ذات القوانين شديدة التغلغل والتطفل، التي تتولى سلطة مدنية خيرة ونزيهة تطبيقها بعدل، هي وهم خطير. لأن الذين يتسلمون السلطة في أي دولة هم الأكثر رغبة فيها. وهل يملك أحد تصور الطرق التي سيسلكها هؤلاء الناس للفوز بها؟ أو نوعية القيود التي سيطبقونها عند تسلمها؟ لقد لوثت شهوة السلطة حضارة «سيد قطب» الإسلامية ذاتها. فكان النزاع على خلافة محمد هو ما سبب ذلك الانشقاق العظيم في الدين الذي استمر لقرون، وهو ما يدفع الشرق الأوسط كله إلى حرب ستزول معها أي ملامح للحضارة من هذه البقعة.

إن كل من يتقبل البشر كما هم، بدلا من تخيلهم في الصورة التي يريدها، سينظر إلى طريق «سيد قطب» المؤدي إلى مدينته المدنسة ويختار نقيضه على الفور. فالسياسة لا تهدف إلى تشييد نظام يحوز الكمال تحت إدارة القديسين، وإنما نظام لا ينتزع منه كل القبول تحت إدارة أحد المرضى بجنون العظمة. يعني ذلك دولة مقيدة ومنقسمة: مقيدة بمعنى وجود قيود دستورية واضحة على المساحات الخاضعة لسلطة الحكومة، ومنقسمة بمعنى توزيع السلطات على إدارات الحكومة المتباينة/المتخاصمة. وعلى الرغم من كل عيوبها على أرض الواقع، فإن دستور الولايات المتحدة يعكس إدراكًا أكثر وضوحًا لما عليه البشر – بصيغة أفضل: ما عليه البشر عادة – أكثر مما تقدمه كتابات «سيد قطب».

ربما يعجب البعض في الغرب بفكر «سيد قطب» لما له من جاذبية على قدر من العمق، فهو يقدم رؤية معينة للحياة تسمو بنا فوق سباق الاقتناء اللا نهائي عديم الفائدة، الذي يرى فيه كثير من المعارضين خصيصة تميز حياة الطبقة الوسطى في بريطانيا وأمريكا القرن الواحد والعشرين.

لكن الاستهلاكية – ببساطة – مجرد عرَض لا جوهر الحضارة الغربية. إن أكثر مقتنياتنا قيمة ونفاسة ليست الهواتف الذكية أو شاشات البلازما أو حتى الأنظمة الترفيهية. بل هي الحرية: حرية الاعتقاد فيما تشاء، وحرية التعبير عن الرأي، وحرية العيش بالطريقة التي تختارها سعيًا وراء الأهداف التي تبث فيها أنت القيمة. وحقوق المثليين مثال جيد على ذلك. فلا شك أن الظروف بعيدة كل البعد عن الكمال المنشود، لكن لا تزال أوروبا الغربية، وكندا، والولايات المتحدة، وأستراليا، ونيوزيلاندا أفضل الأماكن لحياة المثلي، رجلا كان أم امرأة.

أجدني فخورًا بالعيش في بلد تتزايد فيه معدلات تقبل المثلية الجنسية بدرجة كبيرة وملموسة. لكن العالم الإسلامي على النقيض من ذلك، فهناك تجريم لهذه الممارسة وعقوبة تصل إلى الإعدام في عدد من هذه البلاد. وهذا الفارق لا يتعلق بقيم الغرب المادية، بل يعكس التفوق الروحاني للغرب. فكل رجل وامرأة هو فرد حر يستحق امتلاك حرية الاختيار فيما يتعلق بالأشياء التي تهمه، وكيفية السعي إليها.

لا ينبغي أبدًا للمواطن الفرد أن يكون عبدًا لأي شخص آخر؛ ولا للرأي العام؛ ولا لنظام أخلاقي- قانوني شمولي قمعي، مدعم برؤية ترجع إلى العصر الحجري جنبًا إلى جنب مع ثروات الدولة الحديثة. لقد وضع «جورج بوش» يده على الفرق الجوهري بين الرؤية الغربية للحياة ورؤية الأصوليين المتدينين، حينما قال في خطابه أمام البرلمان «إنهم يكرهون حريتنا».

أؤمن أن للفلسفة دورًا في تذكيرنا بما نحارب لأجله. شدد سكرتير الدولة للتعليم السابق على أن يكون أحد أهداف دراسة التاريخ هو التركيز على الأحداث والأشخاص المؤثرة في الحياة البريطانية ممن أسهموا في تكوين الفكر القومي. ولست أوافق على ذلك، بل أرى أن بإمكان التاريخ والفلسفة إبراز مراحل تطور القيم التي قام عليها العالم الغربي – لا بريطانيا فقط – والكشف عن أثرها العملي، فهي أكثر أهمية من مجرد حضارة مادية متطورة. على هذه العلوم سرد قصة الأحداث والأشخاص والأفكار التي تضمنها الكفاح من أجل الحرية، ضد القمع والتعصب، ابتداءً من ماجنا كارتا وانتهاءً بسقوط جدار برلين، ومن سقراط حتى جون ستيوارت مِل.

وحتى مجرد تدريب تمهيدي في الفلسفة الحديثة يمكنه – وكذلك يتوجب عليه – غرز القيمة الفكرية العظمى، تلك التي نحتاج إليها كدرس أول وأخير: فكر بنفسك! ولما كانت الفلسفة توفر تدريبًا جيدًا على المنطق والتفكير النقدي، لم يكن دورها مقتصرًا على حفظ قدرة الإنسان على التفكير والنشاط المستقل، بل عليها شحذها أيضا، فتلك القدرة تشكل الضمانة الأخيرة للحريات التي حارب الكثيرون وماتوا لتحصيلها والحفاظ عليها.


[١] إدوارد جيبون، اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها، الجزء ١، فصل ١٥.[٢] سيد قطب، معالم في الطريق.[٣]سيد قطب، معالم في الطريق.[٤]سيد قطب، معالم في الطريق.[٥]سيد قطب، معالم في الطريق.[٦]سيد قطب، معالم في الطريق.[٧] جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، الجزء ٤، الفصل ٧.[٨] توماس هوبز، اللفياثان، الجزء ٢، الفصل ١٧.