تحل اليوم الذكرى الـ49 لاستشهاد المفكر الإسلامي الأوسع تأثيرًا في القرن العشرين «سيد قطب». ربما تصيب كلمة استشهاد بعض القراء بالقشعريرة للوهلة الأولى، إلا أن من المفترض به إذا تذكر أن الرجل قتل في التحليل الأخير للأمور بسبب موقف سياسي نابع عن قناعات أخلاقية، أن تنقشع عنه تلك السخافات الأيديولوجية.

تحل تلك الذكرى في ظرف استثنائي تنقسم فيه الأمة على نفسها، ويرمز «سيد» فيها لكل ما تنقمه إحدى الفرقتين على صاحبتها. هذا ما يدفعنا إلى تجاوز الرثاء العاطفي لـ«سيد» الراحل بطابعه الذاتي، والذي هو من حق كل أحد، إلى الحديث عن «سيد قطب» الحي الباقي بيننا، الحاضر حضورًا يراه بعضنا أزمتنا الكبرى، بينما يراه بعضنا آخر ما بقي من الحياة فينا. فما الذي بقي من «سيد قطب»؟


تأسيس الأيديولوجية الإسلامية

عرفت النهضة العربية أيديولوجيات عبرت عنها تيارات سياسية متنوعة، وكان لكل منها أنظمة سياسية راعية ومواطن نفوذ، كما كان لها منظروها وأدبياتها. ولدت القومية في الشام، ووجدت مع «ساطع الحصري، وقسطنطين زريق»، وغيرهما نضجها الأيديولوجي، بينما عاشت الليبرالية في مصر عصرها الذهبي.

عبّرت مقالات «طه حسين، وأحمد لطفي السيد»، وغيرهما من رواد الثقافة المصرية الوطنية عن قناعاتها. أما الماركسية؛ فإنها وإن افتقدت حتى الستينات لأدبيات ذات أصول عربية خالصة، إلا أنها وجدت في المصادر الأصلية للماركسية، والمنشورات الدعائية، والمدرسية التي صدرها الاتحاد السوفيتي غذاء أيديولوجيا لحضورها الثقافي.

هكذا كان المشهد الثقافي موزعًا بين الليبرالية والقومية والماركسية، بينما غاب عنه المثقف الإسلامي. وعلى الرغم من الحضور الجماهيري الضخم للإخوان المسلمين وانتشارهم؛ إلا أن الإسلاميين لم يقدموا حتى ذلك الحين ما يشرعن حضورهم في المجال الثقافي.

كما افتقدوا غذاء أيديولوجيًا، حيث اكتفوا بخطب متفرقة ورسائل مقتضبة لأستاذهم «حسن البنا» وغيره من الخطباء، إضافة إلى خطاب فقهي عاجز عن تبرير حضور ثقافي قوي، أو بناء أيديولوجية عصرية.

جاءت أعمال «سيد قطب» لتكون أول مساهمة من الإسلاميين في الثقافة العربية. أسهم اسم «سيد» الذي كان يتمتع بسمعة لا بأس بها؛ في الوسط الثقافي المصري في تأكيد تلك الطفرة الثقافية لدى الإسلاميين.

لا يعكر صفو تلك المقولة الالتفات إلى إسلاميات «العقاد، والرافعي»، أو كتابات جمعية العلماء المسلمين في الجزائر أو نحو تلك الأعمال. لم تكن تلك الأعمال بطابعها الأدبي والمنفتح لتؤسس لأيديولوجيا متماسكة تستهدف التوجيه الحركي، ومقارعة الأيديولوجيات المنافسة في ساحة فكرية، مستقطبة كالساحة العربية حينها.

من هنا نبع الحضور الطاغي لـ«قطب» في المنطقة العربية وما يحيط بها، وهو السياق نفسه الذي تأسست فيه تجربة معاصره «أبي الأعلى المودودي» في الهند.


التفسير السياسي للإسلام

في أزمته مع الحضارة الغربية وموقفها الإقصائي تجاه الدين؛ كان من الطبيعي أن يسلك الإسلامي أحد تفسيرين لتبرير استعادة حضور الإسلام في الواقع: إما التفسير السياسي/ الإجتماعي الذي يتمركز حول الإسلام كنظام سياسي اجتماعي يقوم على الحاكمية الإلهية وتوجيه الشريعة.

أو التفسير الفردي/ الصوفي الذي يتمركز حول الدين كتجربة إنسانية فريدة لا يمكن للإنسان العزوف عنها، حيث تمثل سر ارتقائه الروحي. الأول يقوم نقده للغرب على استرقاقه المعلن أو المضمر للإنسان بعد تجريده من التوحيد، أو الخضوع لحاكمية الإله. بينما الثاني يستعيد دور الدين عبر بوابة الفرد وحاجاته الروحية والأخلاقية.

أخذ «سيد قطب، والمودودي»، واللذان توجه إليهما مباشرة نقد «أبي الحسن الندوي» في كتابه «التفسير السياسي للإسلام»، ولاحقًا «علي شريعتي» بمشروعه عن «أدلجة» الإسلام وتثويره؛ المسار الأول. بينما أخذ «محمد إقبال، وفريد الأنصاري، وطه عبد الرحمن»؛ المسار الثاني.

ومع أن قراءة موضوعية لمجمل أعمال كل من هؤلاء وأفكاره لا تفيد ذلك التقسيم الحاد، ولا يعني بالطبع لفت النظر إلى جانب من جوانب الدين نفي سائر جوانبه وأبعاده؛ إلا أن التأويل الأيديولوجي، والنزوع الإنساني إلى التمايز، والتحيز الفكري والاجتماعي لا يترك الأفكار على براءتها الأولى.

ما بقي لنا اليوم من «سيد قطب»، صورة مغرقة في الراديكالية، ورمزية للمظلومية التاريخية. يختفي الإنسان في تلك الصورة ليترك مكانه للإله الحاكم، وتختفي الصورة وراء خيوط الشريعة العنكبوتية، ولا يمكن أن يخرج منها بعد ذلك سوى مقاتل جمدت ملامحه سنوات الحرب التي لا تنتهي، واحترق قلبه بنار الانتقام، التي ستحرق أول ما تحرق محيطه الذي استمتع باحتراقه، قبل أن يوجه سهامه إلى البشرية التي يعيش في عزلة عنها كلها.

الانتقام هو ما يحركه لا الشفقة، العقاب لا الرحمة. الجماعة المؤمنة بقيادتها المقدسة والعزلة عن جاهلية تستشري في العالمين، أو الاغتراب، وطموح الهيمنة هو ما أراده «سيد» لنا أو بنا. هل تلك الصورة حقًا هي ما كان ينبغي أن يبقى من «سيد قطب»؟


التوتر القطبي والإسلام الإنساني

يعد «سيد قطب» أول مثقف إسلامي عرفته الأوساط العربية، وأعماله هي أول مساهمة من الإسلاميين في الثقافة العربية. فهو مؤسس الأيديولوجية الإسلامية المعاصرة.

قد تبدو تلك الصورة القاتمة مناسبة لنقاد «سيد قطب». فـهو منظر الأصولية والعنف، والأب الروحي للإرهاب، والاحتمال الموضعي لداعش مستقبلية!. لكنها في الحقيقة ليست خاصة بنقاد «قطب» فحسب، بل بكثير من محبي «قطب» حد احتكاره. لكن إذا كان هذا هو ما أبقاه التاريخ من «قطب»؛ فهل بإمكاننا أن نستبقي منه سوى ذلك؟

الحضارات لا تقوم ولا تنهار جراء صعود معدلاتها الإنتاجية أو انخفاضها، بل تتقوم على رصيد القيم الذي تمتلكه ويمكن أن تلهم عبره البشرية.

وإذا كانت الحاكمية في أحد وجهيها تعني تغولًا إلهيًا واستلابًا للإنسان، أو هي تفسير سياسي للإسلام يلغي تجربة الإنسان الوجودية مع الدين؛ فإنها -من وجهة نظر أخرى- صيحة تحرير للإنسان من الطواغيت المادية والمعنوية، سواء الأصنام البدائية، أو الملوك المقدسين، أو حتى تلك السلع والآلات التي لا يمكن أن يستعيض بها الإنسان عن سؤاله الأصلي عن معنى الحياة.

هنا لا يعني الإسلام شريعة مفروضة بقدر ما يعني حاجة إنسانية أصلية لا ينبغي الإدبار عنها. يتنبأ «قطب» بأفول الحضارة الغربية بجناحيها السوفيتي والأمريكي -ليس لشيء- سوى لأن كليهما لم يعد لديه من رصيد القيم ما يستحق به مقعد القيادة.

يبدو الإنسان هنا في القلب من المسألة لا قيم «السوبرمان» التي استبدلت لغويًا فحسب بالحديث عن الصفوة الإلهية، الطامحة إلى الهيمنة. فإذا كان «قطب» هنا قادرًا على أن يكون ملهمًا لأعتى الحركات الرجعية، فإنه كذلك يمكن أن يكون ملهمًا لأكثرها تقدمية ونقدًا وتحررًا. الإنسان لا ينتمي إلى قوميته بل ينتمي إلى دينه.

يبدو الدين هنا مجرد بديل عن القومية، لكن قراءة من جهة أخرى تعني تحريرًا للإنسان من حتميات الجغرافيا والإثنية، إلى اختياره الحر للإنتماء إلى جماعة متخيلة تشاركه قيمه وإيمانه.

«الإسلام هو الحضارة»، شعار يمكن أن يقرأ من كلا الجهتين، وإذا كان الغالب هو الإصرار على قراءته من اليمين أو نفيه مطلقًا؛ فإن بالإمكان كذلك أن نعيد قراءة الإسلام والحضارة كليهما بما يسمح بقراءته من اليسار!.

يتولد الإبداع عبر التوتر، التنازع والحيرة بين طرفين، الأحادية تعني مزيدًا من الاتساق والوضوح، لكن بقاء التوتر يأتي أكثر إنسانية. هكذا يمكن الكشف في حياة كل مبدع عن توتر كامن، عنه ولدت أفكاره التي لا يمكن اختزالها، وردها أو مراكمتها أو استنساخها.

ولم يكن «سيد قطب» استثناء من ذلك. لم يكن التوتر هنا توترًا بين الدين التجربة، والدين الأيديولوجية فحسب؛ بل هو كذلك بين دين الإنسان، ودين يصادر الإنسان. يمكن أن يلهم «قطب» كليهما، لكن ربما إذا تحررت أعماله من القراءة الأيديولوجية؛ فإنها ستقترب كثيرًا من الأول.