في عالم أقل تطرفاً عن عالمنا المعاصر، كانت الأشجار لتحمل أطفالاً يمرحون، وكانت الوديان والسهول لتشهد تقافزهم وسباقاتهم، كانوا ليتحاربوا مع الريح، ويصادقوا فئران الحقل.

بطريقة ما حوت طفولتهم صفوفًا كئيبة، ومعلمين متجهمين، وخيم اللون الرمادي على المشهد بدلاً من ملابسهم المزركشة الملطخة بالطين. قصة طويلة جداً جعلت من احتجاز طفولتهم بالصف ذنباً ضرورياً تقترفه أيدينا جميعاً، وأشياء عظيمة جداً فقدت بذاك الذنب.

إذا، لتبدأ الحكاية…


الأم الجديدة والأطفال الجدد

بظهور الدولة الحديثة ظهرت معها معايير الصواب والخطأ، الحق والباطل، كان المجتمع والدين يعرفان ذلك بسهولة، في سياق ممتد من داخل الأفراد إلى خارجهم، حلت الدولة محل المجتمع، والقانون محل الديانة.

وبظهور الآلة وحاجة المصانع للأيدي العاملة، وحاجة الدولة بدورها للمصانع وزيادة الإنتاج لزيادة الثروة، بدا أن صواب الدولة الحديث الذي ستخلقه، أنشودة العمل المقدس الذي سيخرج الجميع إليه كل صباح، والذي لا ينظر للأم أن تكون أماً أفضل، بل مواطناً أفضل وعاملاً أفضل ولو تطلب الأمر تركها لأولادها 9 ساعات يومياً.

ولأن الدولة تقوم بدور المجتمع فهي تخلق البديل المناسب لغياب الأم عن أولادها، لا حاجة للأم أن نتركها لتسبر غور أمومتها وتختار بديلاً يتناسب مع معنى أن تكون أماً في عين نفسها.

الحل الذي تقدمه الدولة هو «المدرسة»، المكان الذي سيحل محل الأمومة والمجتمع المنشغل فى المصانع والعمل الدؤوب عن التربية بأدوارها. لكن ذلك المصنع المخلوق حديثاً_ألا وهو المدرسة_ عليه أن يتخير منتجاً ينتجه، هذه المرة الحرب ستفي بالغرض.

يروي لنا «عمار سليمان» في كتابه «خلف أسوار المدارس» كيف بدأت فكرة المدرسة النظامية، يقول:

وإذا انتقلنا حين تبلور مفهوم الأمة واتخذها المعنى المركزي في الحقبة الأوروبية نظر قادة هذه الأمم إلى وجوب تركيز فكرة المدرسة على إنتاج مواطنين جديدين وجنود أقوياء، أما فيما يخص الدرس، فيجب التركيز على تمجيد أرض الأجداد، والمعجزات التي تحققت على يد القادة الأوائل، وبث مناقبهم وأخلاقهم مع التشديد فى الدروس على حماية الأمة من الأعداء الكثر الذين يتربصون بها.

بهذه الطريقة بدأت المدرسة تقوم بكافة الأدوار المفتقدة، فهي أم بديلة لمدة 9 ساعات يومياً، وتحدد أدوار الأم وتصوراتها عن أولادها في غير هذه الساعات التسع، وهي منزل وأسرة ومجتمع داعم ومرب، وهي مصنع للمواطنين الشرفاء الذين سيقتاتون أمجاد أممهم الوليدة ويخدمون أوطانهم بطاعة عمياء.

الطاعة العمياء تحديداً هي ما صممت على أساسه المدارس النظامية، هكذا يصف «راسل» فلسفة «فيتشة» في التعليم الإجباري، ينقل لنا عمار سليمان مقولته:


الفلسفة الحاضرة والغائبة دومًا

ثمة حقيقة سائرة، جهلناها أم عرفناها، أن فلسفة ما تحكم أي تحرك يجريه مجموعة من البشر، خلق عالم الحداثة فكرة «النمط» الشكل الصواب الذي يجب أن يكون عليه الفعل الإنساني، بحيث يمكن إدخاله في معادلات علمية قابلة للفهم، مدخلات ومخرجات ونتائج.

ضرب بالإنسانية عرض الحائط، وأخذت النمطية الحداثية تضرب بمعولها فيها لتشكلها كما تقبل فلسفتها، أحد هذه المعاول وأهمها هي المدرسة،تلك المؤسسة التي صممت لتخلق أنماطًا بشرية مقولبة، عبر إدخال مدخلات موحدة، دون خلق مجال حتى للتمايز والفردية في معالجتها، ليكون المنتج فهماً واحداً وأداء واحداً.

لهذا يكون من قصور النظر قصر تدخل إيديولوجيا الدول وفلسفة العصر في تخليق الأجيال بالمدارس، عبر النصوص الصريحة والتعليمات الواضحة، فالشيطان يكمن في التفاصيل، والفلسفة كذلك.

في فنلندا، تلك التي حافظت مدارسها على المرتبة الأولى في جودة التعلم لعقود، تكمن فلسفة الاستمتاع بالحياة في تفاصيل مدارسها، لا في مناهجها العلمية، بل في تقسيم الفصل، وعدد المحاضرات، في الحديقة بغير سور، في الحرية التي هي صنوان الحياة.

في أمريكا معقل الرأس مالية الأول، تغطي قيمة التنافسية على كل قيمة، تعرف ذلك فى المدرسة أيضاً، تملك الدولتان مفهومين مختلفين عن التعلم، هناك تعلم حياتي حر لانمطي، وهناك تعلم تنافسي، هناك تعلم يخدم العيش الماتع، وهناك تعلم يخدم السوق.


العقول البلاستيكية

تعرف الحضارة الحديثة فكرة زراعة الصوب البلاستيكية منذ عقود، وتعرف دجاجات مزارع التفريخ والسمك المخلق في أحواض صناعية، ولا تعرف الحياة أياً من ذلك.

في المدرسة هناك علاقات واضحة قائمة على المصلحة المتبادلة بشكل خطي بالأساس، تبدأ المعادلة بمدرسة رأس مالية وجدت لكسب المال، أو حكومية وجدت لسد وظيفة من وظائف الدولة أو بلورة عقول المواطن الجديد، ثم معلم يؤدي دوره في المؤسسة، ويحصل على المال الكافي أو غير الكافي، وطالب يحصل على منفعته من المعلم لينجح في الاختبار فيحصل على قيمة ومكانة اجتماعية ويأخذ موقعه بالهرم الاجتماعي.

منافع خطية متبادلة أشبه بتبادل المنفعة في سوق تجارية، تفتقر إلى المعنى، وإلى الإجابة على السؤال الحقيقي (هل هذه هي طبيعة العلاقات الحقيقية التي تقبلها الحياة؟)

الحياة الحقيقية التي هي في المنزل، والعمل، والحقل، وعند الطبيب، ووحيداً تعاني مشاعرك وأفكارك، والتي بها الأب والابن والأخ والصديق، والتي نطبخ فيها بالصباح ونلعب الرياضة ونتشاجر ونتعاتب ونطلب بعض أعمال النجارة من حرفي، ونحيك أثواباً، ونصلح الكهرباء.

هذه هي الحياة الحقيقة، التي لا تمتد إلى المدرسة ولا تمتد المدرسة إليها، بل تخلق المدرسة عمالاً وموظفين مؤهلين لسوق العمل، لا للعمل الحقيقي نفسه، فأي حاجة حياتية ملحة تلك التي ستحلها معادلة كيميائية لا مكان لها خارج المعمل.

لا يملك السياق المدرسي المسور عن الحياة بأسوار معدنية تلك القدرة على تدريب عقل الطفل على حل مشكلات حياتية بسيطة، كالفصل في منازعة تنشب بين صديقين، ولا حتى حل مشكلات حياتية معقدة، كالحديث مع النفس ومواجهة مخاوفها ونزعاتها وحل إشكالاتها الجوانية.

العالم الجواني والفردي الذي امتاز به الإنسان عن أي مخلوق آخر، هو أبعد ما يكون عن عين المدرسة، فطبقاً لوظيفة المدرسة التي أسلفنا ذكرها، فأي التفات لذلك العالم هي من قبيل الخروج عن ذلك النسق وتلك الوظيفة، وشذوذ عنها.

يخلق ذلك عقولاً بلاستيكية، قادرة على حل معضلات الرياضة والكيمياء ببراعة، لكنها لا تقدر على خلق حل إبداعي لمشكلة إنسانية، بلاستيكية كتلك الأزهار التي زرعت في صوب بلاستيكية وبيئة غير حقيقية.


التعلم المقاوم

يرى فيتشه أن التعليم يجب أن يقتل حرية الإرادة، فبعد خروج التلاميذ من المدرسة يجب أن يعدموا القدرة على التفكير أو التصرف بطريقة غير التي تم تعليمهم إياها في المدرسة طيلة حياتهم الباقية.

يعد المبدأ الأساسي لفلسفة ما بعد الحداثة، هو التفكيك، تفكيك كل ما هو صلب والدوران في دورات من التفكيك أو التشكيك على أقل تقدير في كافة الحقائق الثابتة. تنتج هذه الفلسفة فلسفات تعليمية فرعية، نحتاج لدراستها والنظر إليها في سياقها هذا أن نعتبرها نوع مقاومة للفلسفة الحداثية.

ثمة مقاومة في مجال التعلم على المستوى الفلسفي وعلى المستوى العملي، ما يهمنا من نماذج المقاومة المختلفة في هذا المقال هو ما يتعلق بفلسفة التعليم المنزلي، لماذا خلق، وعلام يجيب، وهل بإمكانه أن يقاوم بذاته؟

يمتد تاريخ التعليم المنزلي طويلاً، لعصور اضطهاد الزنوج في أمريكا، حيث لا يحدد له زمن معين ولا إطار محدد، غير أن فئات من المخالفين إيديولوجياً ودينياً لأمريكا تخيروه وسيلة لتعليم أطفالهم وتجنيبهم الخوض في الفلسفات التي يرفضونها .

إذا كانت بداية مسار التعلم المنزلي، الحماية لا المقاومة، فكيف نراه مقاومة؟

بخلاف حقيقة أن حماية الأجيال الجديدة من إيديولوجيات الدول يعني مقاومة لتلك الدول التي تهدف إلى السيطرة على عقول أفرادها فرداً فرداً، فإن اعتبار التعليم المنزلي فلسفة مقاومة، يكمن فى النظر خارج الإيديولوجيات الجزئية، فهو بإمكانه أن يكون مقاومة للعولمة التي تقتات على القولبة وفصل الثقافات المحلية والشعبية عن الواقع والتركيز على ثقافة عالمية واحدة.

وللحداثة التي تعتمد بدورها أيضاً القولبة والفصل التام للذات عن الفعل وللفوارق الفردية عن التنظير والفعل وتوغل في الفصل عن المجتمع وسياق الامتداد الثقافي والمجتمعي للعلم.

تكمن إمكانية نجاح التعليم المنزلي كمقاوم نظرياً في قدرته على إعادة التعليم لسياقاته الحياتية الطبيعية، كأن يعيد التعلم في المنزل، ويجزئ عملية التعلم على أفراد الأسرة وبالتالي يعيد ربط أفراد الأسرة بعضهم البعض عبر أدوار محورية كالتعليم والقدوة.

وأن يعيد المادة المتعلمة إلى سياقها الحياتي الطبيعي فلا يبني فوارق وفواصل بين تلك المادة والحياة، ويمددها بثقافتها وبيئتها المحلية فيصبح التعلم مغزياً للبيئة المحلية لا مفرقاً لها.

يكمن السؤال حول عمليات تعلم حر ومقاوم فيما إن كان بإمكاننا التعلم في الحقل والسوق والمطبخ وعند الجدة ومع الأصدقاء دون أن نتعلم في الفصل؟