قبل الاحتلال الإيطالي شهدت ليبيا حركة من التوسع الإيطالي في افتتاح المدارس في بنغازي والخمس ومحلة الظهرة بطرابلس، وملاجئ للصبيان ومدرسة ابتدائية للإناث وأخرى للذكور، وأنشأت مدارس ليلية لتعليم الكبار. قامت تلك المدارس بتعليم المنهج الفرنسي باللغة الإيطالية، مضافًا إليه اللغة العربية والعبرية واليونانية، وتولت الحكومة الإيطالية الإنفاق عليها بشدة، بالإضافة إلى صحيفتين في طرابلس كانتا تعملان على زيادة تغلغل الثقافة الإيطالية في البلاد.

إن تلك الخطة الإيطالية كانت تهدف لإيجاد موالين لها حينما تنوي غزو ليبيا، وعبَّر الإنذار الذي وجَّهته حكومة إيطاليا للباب العالي عشية الغزو عما نفثته المدارس الإيطالية والصحافة داخل البلاد من دعاية حضارية لصالح إيطاليا التي تريد إنقاذ البلاد من التخلف. فقد جاء في الإنذار أن إيطاليا تسعى لإنقاذ أهالي طرابلس وبرقة الذين تفشى فيهم الجهل والفقر، هذا الإنقاذ تتطلبه المقتضيات العامة للمدنية، ويعد مصلحة حيوية من الدرجة الأولى بالنسبة لإيطاليا.

إن تمهيد الاحتلال بالمدارس قبل الرصاص كان نهجًا استعماريًّا معروفًا للقوى العظمى آنذاك، بل كان تنافسيًّا بينهم في الكثير من الأحيان.

فيروى أن الدكتور كرنيليوس فاندايك، رئيس مبشري الأمريكان البروتستانت في بلاد الشام، كان يقول: «أنا ذاهب لأفتح مدرستين في تلك القرية»، فإذا قيل إنها لا تتحمل لصغرها، قال: «سأكتفي بواحدة، ولكنني متأكد أن اليسوعيين سيأتون بعد مدة قليلة ليفتحوا مدرسة ثانية».

تعبر تلك المقولة عن نوع آخر من الحروب شهدته المنطقة العربية والإسلامية في عهد التنافسات الاستعمارية الكبرى، وهي حروب الورقة والقلم أو حروب المدارس.

فقد كانت الدول العظمى آنذاك تتوسل التعليم من أجل فرض نوع من أنواع النفوذ في المستعمرات العربية التي بدأ التنافس عليها كإرث الرجل العثماني المريض، وحاولت العديد من الدول العظمى أن تحافظ على مصلحة في تلك المنطقة من خلال اختراقها بالعديد من المدارس، تلك المدارس التي تقاطع فيها الديني مع السياسي، فقد كانت كل إمبراطورية كبرى، على الأغلب عن طريق بعثاتها التبشيرية، تنشئ مدرسة تدين بمذهب الدولة المسيحي، وقد كان لتلك المدارس آثارها في النهاية على زعزعة النسيج الداخلي للعديد من المجتمعات العربية، ولصناعة حالة من تضارب المصالح والفرقة في داخلها.

وهكذا تحت ذرائع حماية المسيحيين ونشر العلم، نشأ على الأرض العربية والإسلامية عدد كبير من المدارس الأجنبية المعززة بالمطابع وحركة النشر والصحافة الواسعة الانتشار والتأثير.

حلم القيصر

في دراسته بمجلة «دراسات تاريخية»، «البعثات التبشيرية الأرثوذكسية الروسية في بلاد الشام (سوريا وفلسطين) 1840-1914م»، يذكر محمد حبيب صالح أن العلاقات بين روسيا والعرب كانت طيبة وتعود إلى القرن العاشر الميلادي، حتى الدور الذي لعبته روسيا أثناء فتح محمد علي باشا لبلاد الشام في مؤتمر لندن والتسويات الناتجة عنه، ما أفقدها بريقها لدى العرب وانتزع من يديها حل مجموعة من المسائل العالقة في المنطقة، وباتت في المرتبة الأخيرة وسط الدول العظمى الخمس الكبرى كلاعب في المنطقة العربية، وأصبح الشام فسيحًا واسعًا للدعاية الكاثوليكية والبروتستانية المعادية للأرثوذكسية خاصة في فلسطين.

وكانت الخسارة الأكبر التي مُنيت بها روسيا، حرمانها من الامتيازات التي مُنحت لها بموجب اتفاقية (هنكاراسكله سي) التي عقدتها مع الدولة العثمانية عام 1833م، حيث كانت بموجبها صاحبة الحق في حماية الأرثوذكس داخل الدولة العثمانية، وكنيستها كانت ذات مكانة رفيعة في الأرض المقدسة.

في حرب القرم التي دخلتها القيصرية ضد الدولة العثمانية (1853-1856م) وانتهت بهزيمتها، أصبحت دبلوماسيتها في الشرق الأوسط في وضع محرج للغاية، وفي سبيل الحفاظ على الممتلكات الروسية في الأرض المقدسة خلال الحرب، كانت القيصرية قد أنشأت المجلس الفلسطيني التابع لوزارة الخارجية، وأوكلت إليه مهمة الاهتمام بإعادة إحياء العلاقات الروسية مع العرب، وكان أبرز وأهم ما فعلته هو بناء المدارس.

إذن، كل تلك الظروف تضافرت لتدفع روسيا إلى الدخول في ساحة الصراع من الباب الخلفي، حيث كانت القيصرية الروسية تهدف من خلال مدارسها إلى مواجهة أربعة أطراف، أولها الدولة العثمانية، وثانيها السيطرة اليونانية على كنيسة أنطاكية وثقافتها، وثالثها الكثلكة التي تقوم بها المدارس التبشيرية الفرنسية، وأخيرًا المدارس البروتستانتية الإنجليزية.

يذكر ناصر زيدان، في كتابه: «دور روسيا: الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من بطرس الأكبر حتى فلاديمير بوتين»، أن أول مدرسة روسية أنشئت في الشام 1885م، أنشأتها الجمعية الأرثوذكسية الإمبراطورية الفلسطينية بغرض توجيه الوعي الديني عند الروس تجاه القدس وفلسطين والمشرق حيث أرض المسيح، وبواسطة تلك الجمعية توسع افتتاح المدارس في فلسطين ممتدًّا إلى سوريا ولبنان حتى قاربت مائة مدرسة عام 1912، درس فيها قرابة 5155 تلميذًا.

قامت تلك المدارس بنشر الكتب والأبحاث والعديد من الدراسات التاريخية عن اللغات القديمة والحفريات، والتي أسهمت في بناء جيل من المستشرقين الروس.

كانت المدارس الروسية ظاهريًّا ذات غرض خدمي للمواطنين الأرثوذكس في الشام، وباطنيًّا أرادت أن تراقب كل حدث في المنطقة، وقد أتاح لها فرصة التنقل في كل أصقاع المنطقة أنها كانت تجري التنقيبات الأثرية، ومن خلال ذلك الانتشار قد رصدت نشاطات الدول الغربية في المنطق.

كانت المدارس الأرثوذكسية فتحت أبوابها لاستقبال التلاميذ من أبناء الطائفة الأرثوذكسية حصرًا، ولم تقبل تدريس أبناء الطوائف المسيحية الأخرى للحفاظ على العقيدة الأرثوذكسية، ولم تسعَ كبقية المدارس الطائفية الأخرى إلى إدخال المسلمين في العقيدة المسيحية.

وعلى جانب آخر، غازلت تلك المدارس المشاعر القومية العربية عند سكان المشرق العربي لمواجهة الخصم المتمثل في الإمبراطورية العثمانية، سعيًا لتفكيكها من الداخل. وقد اعتمدت في تدريسها على اللغة العربية إلى جانب الروسية؛ لتعزيز مكانة اللغة العربية في مواجهة سياسة التتريك العثمانية. سر آخر في شعبية تلك المدارس هو استهدافها تعليم الطبقات الفقيرة في المناطق الهامشية والطرفية إلى جانب المدن المركزية في بيروت والناصرة ودمشق. وقدمت تلك المدارس الملابس والكتب والدفاتر بشكل مجاني للفقراء، وكانت ذات طبيعة مجانية في التعليم.

كانت المدارس الأرثوذكسية تربي في التلاميذ العرب الأرثوذكس حب وطنهم وقوميتهم العربية والاعتزاز بها، وتحرضهم على النضال من أجل استقلال بلادهم وسيادتهم، في الوقت الذي كانت فيه دول البلقان قد قامت بثوراتها وتمرداتها هي الأخرى ضد الدولة العثمانية.

منعت المدارس الروسية تعليم اللغتين المنافستين لها استعماريًّا، الإنجليزية والفرنسية، ولكنها لم تستطع منافستهما في حضورهما الطاغي في بلاد الشام، بالإضافة للصراع بين الثقافتين الأرثوذكسيتين الروسية واليونانية، حيث كان هناك صراع كنسي بين الروس واليونانيين على استمالة كنيسة أنطاكية، ما ورط الروس في لجوء إلى سياسة التعريب والترجمة إلى اللغة العربية، وكانت تلك نقطة الضعف التي وجَّه إليها المستشرقون الروس سهام النقد، حيث رأوا أن تلك المدارس التي تمولها تبرعات الفلاحين الروس لا تخدم أهدافها.

مع بدايات الحرب العالمية الأولى وإعلان ألمانيا الحرب على روسيا أصبحت المؤسسات التابعة للجمعية الإمبراطورية في وضع صعب بسبب استحالة وصول المساعدات المالية إليها من روسيا، فاتخذ مجلس الجمعية الإمبراطورية إجراءات تتعلق بإغلاق جميع المدارس التابعة للجمعية، وتم تخيير المدرسين الذين كانوا يعملون في هذه المدارس بين العودة للوطن أو البقاء في مناطق آمنة ضمن القدس أو مصر.

القط والفأر

كانت مصر مرتعًا للمدارس الأجنبية، حيث ضمت مصر مدارس فرنسية وإنجليزية ويونانية وأمريكية وأرمينية، وفي كتابه: «الأجانب في مصر: دراسة في تاريخ مصر الاجتماعي»، يذكر محمود محمد سليمان أن تلك المدارس كانت تستقطب عددًا كبيرًا من المصريين، حيث كانت نسبة كبيرة من تلاميذها مصريين، ففي عام 1922 بلغت نسبة التلامذة المصريين 45% من تلامذة المدارس ككل، حتى وصلت تلك النسبة إلى 49% قبل اندلاع ثورة يوليو 1952م.

ورغم أن تلك المدارس الأجنبية لها فضل على تشكيل النخبة الليبرالية السياسية المصرية في ذلك الوقت، خاصة من خريجي المدارس الفرنسية، فإنها كانت تشكل الشباب المصري تشكيلًا يناسب اتجاهاتها وأغراضها الدينية والاجتماعية والسياسية، فكما يذكر سليمان لقد كانت بعض الكتب التي تفرضها بعض هذه المدارس على تلاميذها موضوعة بطريقة استعمارية لا تتماشى مع الاتجاهات الوطنية المصرية، فقد كانت الكتب تمجد الدولة صاحبة المدرسة، بالإضافة إلى شرعنتها الأفكار الاستعمارية وتمجيدها، حيث زخرت بالمناهج التي تمجد تاريخ تلك الدول الاستعمارية، وتمدح تفوقهم المادي والعلمي والأدبي، وتغفل تاريخ مصر وحضارتها.

وكانت الملاحظة الأخطر على نهج تلك المدارس أنها أغفلت اللغة العربية تمامًا، وهي لغة البلاد القومية، وقد نلاحظ ذلك في مثال عابر في مذكرات لوسيت لنيادو التي بعنوان: «الرجل الأبيض ذو البدلة البيضاء الشركسكين» ،حيث إن لوسيت تلك بنت الأسرة المصرية اليهودية، كانت هي وإخوتها جميعًا يعيشون في بيت لا أحد يتكلم فيه سوى الفرنسية، والتي هي مدارسهم.

كانت تلك المدارس تحتفل بأي مناسبة قومية أو دينية أجنبية دون المناسبات المصرية، فقد كان من العادي في ذلك الوقت أن يحتفل طلبة الفصول المصريون بأعياد القديسين والرهبان، وفي شهر مايو بأكمله كانت تقام الاحتفالات بعيد العذراء مريم. وكانت المدارس الأجنبية في مصر ترفض تدريس الدين الإسلامي لتلاميذها المسلمين، كالمدرسة الإنجليزية بالقاهرة، والتي أنذرت أولياء أمور الطلبة في يونيو 1948م بفصل أبنائهم في آخر العام، وأنها لن تقبل طلبة غير مسيحيين مرة أخرى.

في كتابه: «أثر الاحتلال البريطاني في التعليم القومي في مصر 1882-1922م» اهتم جرجس سلامة بعرض المساعي البريطانية في تشكيل منظومة التعليم الجديدة في مصر، حيث كانت بريطانية تهدف من خلال نظام التعليم الجديد إلى إعداد مجموعة من الموظفين والطبقة الوسطى الجديدة التي ترتبط مصالحها بالوجود البريطاني في مصر. ولكن أكثر ما يلفت الاهتمام في كتاب سلامة هو التنافس البريطاني الفرنسي الذي طال ساحة التعليم المصري وكيف كانت بريطانيا تواجه ذلك.

لقد كانت أولى اللغات الأجنبية التي درست في المدارس المصرية هي اللغة الإيطالية، والتي كانت نتاج جهود الراهبات الفرنسسكان وكانت تلك اللغة صاحبة النفوذ حتى أواخر القرن الـ 18، وكانت البعثات ترسل إلى إيطاليا وحركة الترجمة كانت في سبيل اللغة الإيطالية إلى العربية.

وبمجيء الحملة الفرنسية حنق الفرنسيون على الإيطاليين حين رأوا أن نفوذهم يعلو على كل نفوذ أجنبي آخر في مصر، فحاولوا إحلال نفوذهم مكان الإيطاليين، وساعدهم على ذلك مركزهم السياسي الجديد في البحر الأبيض والسياسة الدولية، وقد انكمش النفوذ الإيطالي وألغي تدريس تلك اللغة في العهد الفرنسي في مصر، ودرست الفرنسية في المدارس بكثرة.

كانت تلك بدايات تغلغل النفوذ الفرنسي في الحياة التعليمية والثقافية في مصر، والذي عززه محمد علي في عهده حين أنشأ نظامًا تعليميًّا على الشاكلة الفرنسية، وتبادل البعثات العلمية مع فرنسا، وهذا ما سترثه بريطانيا.

كان عهد محمد علي زاخرًا بنشاط الإرساليات الكاثوليكية الفرنسية، فاشتد ساعدها وتنوعت حتى أصبحت جاليات كاثوليكية فرنسية وأرمينية وكلدانية وقبطية ويونانية ملكانية ولاتينية ومارونية وسريانية.

حتى احتلال بريطانيا مصر كانت المدارس الإنجليزية في مصر لا تتعدى مدرستين في الإسكندرية، ومثلهما في القاهرة، وفور احتلال بريطانيا مصر أقام الاحتلال ثماني عشرة مدرسة إنجليزية في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس. ولكن بالتوازي مع ذلك، لم يكن النفوذ الفرنسي يتوقف بل يتوسع، فقد أنشأت هيئة الفرير ثلاثين مدرسة فرنسية بعد الاحتلال، ووفدت ثماني عشرة إرسالية نسائية كاثوليكية فرنسية، أنشأت بدورها عددًا من المدارس بلغت 179 مدرسة عام 1928م.

ولم تنجح بريطانيا في زحزحة تلك السيادة للثقافة الفرنسية لأسباب يعددها جرجس سلامة، فلقد كان لفرنسا رسوخ في مصر بحكم أنها مشتركة في صندوق الدين واتفاقها مع إنجلترا عام 1904م، كان من ضمن شروطه العديدة أن تتمتع المدارس الفرنسية في مصر بنفس الحرية التي تمتعت بها في الماضي، بالإضافة إلى النقطة الأهم، وهي أن الفرنسيين كانوا يقدمون الكثير من التسهيلات المادية للمصريين، وحتى قبولهم بالمجان، وإنشاء مدارس مجانية لهم، في الوقت الذي اقتصرت فيه المدارس الإنجليزية على البريطانيين حتى تحافظ عليهم من الذوبان في المجتمع المصري، ولكن سرعان ما ستسمح بقبول 20% من الطلاب من غير البريطانيين في مدارسها لتحتفظ بالأغلبية للطلبة البريطانيين.

إن نفوذ التعليم الفرنسي في مصر يتضح في مفارقة ساخرة أن التقرير السنوي للورد كرومر كان يطبع باللغتين الإنجليزية والفرنسية.

عن طريق دانلوب مهندس السياسة التعليمية للاحتلال البريطاني في مصر، سُنَّت عدة قوانين تحاول إحلال الموظفين البريطانيين محل الفرنسيين، وقد طُبق هذا الأسلوب في مدرسة الحقوق التي كانت معقلًا فرنسيًّا من حيث أساتذتها وناظريها وقوانينها كذلك، فقد أخذ دانلوب بتضييق الخناق على المسيو لامبير ناظرها حتى استقال وعين بدلًا منه مستر هيل الإنجليزي.

إن هذا القرار تحديدًا كان له صداه على مستوى العلاقة الدبلوماسية بين البلدين، حيث إن إنجلترا اتُّهمت بأنها بهذا القرار لم تراعِ نصوص الاتفاق فيما يخص فرنسا وحريتها في النظام التعليمي في مصر كما كان قبل الاحتلال البريطاني.

وقد لحق بهذا القرار قرار استبدال ناظر المدرسة الحربية وإلغاء مدرسة المعلمين التوفيقية التي أُنشئت 1880 بغرض تخريج معلمين لتدريب اللغة الفرنسية.

حاولت بريطانيا أن تحل اللغة الإنجليزية محل الفرنسية، ففي كل مدرسة كان بها قسم فرنسي أُنشئ قسم إنجليزي لمنافسته والقضاء عليه، وبدأ يزداد عدد تلاميذ الأقسام الإنجليزية حتى عام 1901 الذي تقدم فيه 1175 تلميذًا يدرسون اللغة الإنجليزية، يقابلهم 756 تلميذًا للغة الفرنسية.

كما اتخذ الإنجليز قرارًا بجعل اللغة الإنجليزية هي لغة التدريس في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية، ويذكر كرومر في تقريره السنوي 1904م أنه كانت هناك محاولة لإدخال اللغة الإنجليزية في الكتاتيب المصرية أيضًا، وأنشئت مدارس لتعليم المدرسين المصريين تدريس اللغة الإنجليزية، ولكن الأمور تغيرت بحلول الحرب العالمية الأولى، وأصبحت لغة التعليم في المدارس الحكومية هي اللغة العربية.

أمريكا ما قبل البحث عن النفط

كانت بدايات التغلغل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت الحجة آنذاك حماية السفن ومصالحها التجارية من القراصنة في حوض البحر المتوسط، وظهرت صور ذلك التغلغل في نشاط المؤسسات التبشيرية والخيرية الأمريكية في عهد الإمبراطورية العثمانية، وامتد نشاط البعثات التبشيرية الأمريكية ليشمل عموم إمبراطورية آل عثمان، فقد بلغ عدد المدارس في عام 1914م 675 في تركيا، بالإضافة لافتتاح مدرسة بروتستانتية في بيروت عام 1835م، تحولت فيما بعد وأصبحت الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد بلغ في نهاية القرن التاسع عشر عدد المدارس التبشيرية في سوريا وفلسطين 200 مدرسة متصلة مباشرة بالهيئات الدبلوماسية الأمريكية. بالإضافة للعديد من المدارس في بغداد والبحرين وافتتاح الجامعة الأمريكية في القاهرة.

لقد كان المحرك لذلك التوجه الأمريكي حينما رأوا المدارس الفرنسية في إسطنبول التي اهتمت بتعليم البنات اهتمامًا كبيرًا، والعديد من المدارس الأجنبية الأخرى لمختلف الدول في أنحاء الدولة العثمانية، فأسسوا معهد روبرت كوليج الأمريكي الذي أنشئ في أعلى مكان في إسطنبول إلى جوار قلعة الروملي الشهيرة، وفي كتابه: «تطور الأوضاع الثقافية في تركيا من عهد التنظيمات إلى عهد الجمهورية»، يذكر سهيل صابان أن سايروس هاملن منشئ المعهد قد قال في الافتتاح: «إن الإسلام دخل من هذا المكان إلى إسطنبول، وينبغي أن تدخل منه النصرانية أيضًا».

كان هدف روبرت كوليج كما يذكر محمد حرب في كتابه: «المثقفون والسلطة، تركيا نموذجًا» هو إيقاظ الفكر القومي بين شعوب الدولة ومساعدة الأجانب والمتأثرين بالثقافات الأجنبية في الحصول على النفوذ الاقتصادي والاجتماعي داخل الدولة، وإيجاد مثقفين يتحمسون للفكر الغربي وللولايات المتحدة، وهو الذي أنتج جيلًا من المثقفين يطلب الحماية الأمريكية قبيل حرب الاستقلال، في مقدمتهم خالدة أديب.

أبرز دليل على العدد الكبير للمدارس الأمريكية وانتشارها في الدولة العثمانية أنه في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي أمر السلطان عبد الحميد بإغلاق أربعمائة مدرسة كونها افتتحت بدون رخصة.

أما في مصر، فقد انعكست المعركة بين بريطانيا وفرنسا على التعليم في مصر، في ميادين إرساليات التبشير، حيث إن بريطانيا كانت تحمي الإرساليات البروتستانتية خاصة، سواء كانت إنجليزية أم أمريكية أم ألمانية، وقد كان للإرساليات الأمريكية حضورًا قويًّا في التعليم في مصر.

فكانت الإرساليات الأمريكية قد عملت على إنشاء المدارس الدينية في أنحاء مصر، وبشكل خاص ومركز في أسيوط بالصعيد والقاهرة والإسكندرية، وقد افتتحت أول مدرسة في أسيوط عام 1865م، وبحلول عام 1887م، كما يذكر الكاتب جمال رشدي في كتابه: «الحرب الصهيونية ضد الكنيسة المصرية»، قد بلغ عدد المدارس التابعة للإرساليات الأمريكية نحو 168 مدرسة يدرس فيها أكثر من عشرة آلاف تلميذ.

كانت تلك الإرساليات الأمريكية تتلقى مساعدات من الحكومة المصرية، فقد كانت تعفى من بعض الرسوم، وتعطى قطعًا من الأرض لبناء منشآت إرسالية أمريكية عليها، وفي عهد الاحتلال الإنجليزي سُوعِد المبشرون في عملهم، فقد اعتبر بلفور وزير الخارجية البريطانية أن المبشرين عيونه التي تقوم بإطلاع الدول الغربية على النواحي التي تهمها معرفتها من آراء وثقافات، وقد كانت بريطانيا تدعم الإرساليات الأمريكية أيضًا بسبب أنها كانت بروتستانتية المذهب.

وتمظهر النشاط التعليمي للإرسالية الأمريكية في افتتاح كلية أسيوط 1856م وكلية رمسيس للبنات 1910م الذي حضره الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت، كما افتتحت مدرسة شوتس بالإسكندرية، والتي هدفت إلى تقديم نوع من الثقافة الأمريكية لأبناء أعضاء الإرسالية والسفراء والقناصل والخبراء الأجانب المقيمين في مصر والسودان والحبشة والكاميرون، والمدرسة الأمريكية بالزقازيق، والتي كانت تتميز باحتوائها على طلاب مسلمين، حيث إن عام 1924م كان عدد تلاميذ المدرسة 285، نصفهم من المسلمين.

لتكون كل هذه الجهود شاهدة على تلك الحرب الفريدة التي تصارع فيها الغرب على عقول العرب، ليس بالبنادق هذه المرة، ولكن بالمدارس، طمعًا في الاستئثار بعقولهم وثقافتهم.