بحسب التجربة النظرية المعروفة بـ«قطة شرودنجر» -نسبة للفيزيائي النمساوي إرفين شرودنجر-، إذا قمنا بوضع جزيء في صندوق مغلق، إمكانية تحلله تقدر بنسبة 50%، ويمكن لهذا التحلل أن يحرك مطرقة التي بدورها ستكسر قارورة غاز سام سيتسبب بمقتل قطة مسكينة داخل الصندوق، وفقاً لهذه التجربة فإن احتمال حياة القطة هو 50% أو بتعبير آخر هي ليست حية وليست ميتة في آن واحد.

على جانب آخر يعرف الحال لدى أبي هاشم الجبائي بكونه الأمر الثابت الذي لا يوصف بالوجود أو العدم وهو الأمر المشابه لقطة شرودنجر الحية الميتة في آن واحد يتشابهان في كونهما للوهلة الأولى يرفعان النقيضين -الوجود والعدم أو الحياة والموت- وهو ما نسعى من خلال هذا المقال أن نوضحه وذلك بشرح الإمكانات العلمية لمقولة الحال لدى أبي هاشم الجبائي.

الواسطة بين الوجود والعدم

لجأ أبو هاشم الجبائي إلى القول بالحال عندما وجّه إليه الأشاعرة -خصومه التقليديون- سؤالاً مفاده ما الفارق بين العالم منا والجاهل؟[1] في الإجابة عن هذا السؤال قدم الجبائي نظريته عن الحال، حيث قال: إن الفارق بين العالم والجاهل ليس لذات العالم أو الجاهل.

بمعنى أن ذات كل فرد منا قابلة للعلم، فالفارق إذاً في حال كل واحد منا تجاه العلم؛ فما هو هذا الحال؟ يطلق الحال عند الجبائي على الوصف القائم بموجود/بذات، لكن -هذا الوصف أو الحال – لا موجود ولا معدوم؛ بمعنى أن صفة العلم لشخصٍ ما صفة لا هي موجودة بحقه ولا معدومة؛ بل هي ثابتة في حقه؛ أي في مقدوره أن يكون عالماً؛ وإذا تعلم وقام به العلم أو تعلق به تصبح هذه الصفة موجودة أي تنتقل الصفة من الحالية إلى الحقيقية، أو بعبارة مختصرة فإن الحال من قبيل الصفات التي تحتاج أن تتعلق بذات، إذاً لماذا لا نقول عن الحال صفة ولماذا مصطلح الحال؟ الإجابة أن الحال صفة غير موجودة ولا معدومة بعكس بقية الصفات الموجودة.

لكن ما علاقة هذا الكلام بقطة شرودنجر؟ تعتبر قطة شرودنجر النموذج العلمي لنظرية أبي هاشم الجبائي الجدلية عن الحال، فالقطة في حالة غلق الصندوق بالوصف الموجود في التجربة تكون ليست حية وليست ميتة في نفس الوقت، فالحال هنا واسطة بين الوجود والعدم وكون القطة حية صفة لا موجودة ولا معدومة متعلقة بذات موجودة وهي القطة.

هذا التفسير بالضبط هو الحال إذا كان الجبائي سيصف وضع قطة شرودنجر هنا سيقول القطة الآن في «حال الحياة» هذه الحال لا موجودة ولا معدومة لكنها ثابتة، وبمثال آخر -لشرودنجر أيضاً- إذا كان ثمة أطباق مائلة للسقوط في غرفة خزانة ذات باب زجاجي أنت ترى من الخارج الأطباق ممالة وإذا فتحت الباب سقطت الأطباق بحسب شرودنجر هنا فالأطباق سليمة ومتكسرة في آن واحد.

يمكن أن نعتبر أن الـ Liminal Spaces هي أيضاً تطبيق -في العلوم الإنسانية- لنظرية الحال[2]، فالعتبة -عتبة الشعور أو الوعي بحسب الترجمة الحرفية للكلمة- التي تحدث عنها جورجيو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء أو القانون المشطوب، هي الحالة البينية التي لا هي قانونية ولا هي غير قانونية أو حرفياً العتبة التي تكون بين مكانين لا هي داخل الدار مثلاً ولا خارجه هي مساحة ثابتة له، لا تستطيع أن تدخلها أو تخرجها منه.

العتبة هنا هي الواسطة التي تؤسس لنظرية الحال، فهي ملغاة أو حالة من النفي هي «ليست موجودة وليست معدومة» ولم نقل «موجودة ومعدومة» الفرق بين العبارتين ليس بالهيّن ففي الأولى نحن ننفي كلاً من الوجود والعدم لنثبت واسطة بينهما لكن في العبارة الثانية إذا أثبتنا الوجود عقلاً لا نستطيع أن نثبت العدم أو بعبارة أخرى الواسطة أو الحال أمر ثابت بين نفيين وليس أمراً ثابتاً بين إثباتين!

اللاوجود والعدم

لجأ أبو هاشم الجبائي لهذه التفسيرات ليوضح أن صفات الله تعالى كالقدرة مثلاً أزلية ثابتة قبل أن يكون ثمة خلق، أو قبل أن يكون هناك أثر لهذه الصفة، وذلك للرد على خصومه من الفلاسفة القائلين بِقِدم العالم وقدم العالم هو مصطلح يعني ببساطة أسبقية العالم على الزمان يعني أن العالم لم يسبقه عدم بل هو موجود في القِدم، اضطر الفلاسفة المسلمون -كابن سينا وغيره- إلى القول بقدم العالم لأن العالم بالنسبة لهم ضروري لأن قدرة الله قديمة وما دام السبب في إيجاد العالم قديم -وهو قدرة الله- فليكن العالم قديم لعدم تخلفهما عن بعضهما.

رفض علماء الكلام -أشاعرة ومعتزلة- القول بِقِدم العالم؛ لكن الأشاعرة -نسبة لأبي الحسن الأشعري- أثبتوا لله قدرتين قدرة قديمة قدماً موجوداً وهذه القدرة هي التي رفضها الجبائي وأخرى قديمة قدماً معنوياً ثابتاً وهذه هي التي قال بها الجبائي وأخذها الأشاعرة لاحقاً واعتمدوها في سبع صفات أطلقوا عليها صفات المعاني -أي كونه تعالى قديراً كونه مريداً كونه عليماً- وهكذا في بقية الصفات السبع -القدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام والحياة-.

في الرد على أقوى أدلة خصومهم من الفلاسفة -دليل قدم العالم- جادل الجبائي بقوله إن قدرة الله قديمة قِدماً ثابتاً وليس قدماً موجوداً حقيقة بمعنى أن الله خالق قبل أن يكون ثمة خلق، ثم جادل الجبائي الأشاعرة القائلين بإثبات الصفات للذات الإلهية؛ فأبو هاشم الجبائي هنا أخذ موقفاً وسطاً بين إثبات صفات قديمة لله في تعدد القدماء -ولا قديم إلا الله -أي لا أول إلا الله- وهي الحجة التي اعتمدها المعتزلة لنفي الصفات عن الله- وبين نفي الصفة من الأساس كما فعلت المعتزلة فهو هنا -الجبائي- أثبت لله صفات ليست موجودة قديماً ولكنها ثابتة أزلية.

قطة شرودنجر بما لها من صلة بنظرية الحال تبدو مناقضة للمنطق القديم- منطق أرسطو-، فبحسب هذا المنطق فإن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، يعني أن الموت والحياة مثلاً لا يجتمعان في شخص واحد في نفس الوقت ولا يرتفعان معاً؛ فلا يكون الشخص حياً أو ميتاً في نفس الوقت.

ويبدو للوهلة الأولى أن القول بالحال ينقض هذا المنطق إلا أنه بحسب القائلين بالحال، فالتقابل بين الوجود والعدم -أو بين الحياة والموت- تقابل بين الشيء والمساوي لنقيضه وليس بين الشيء ونقيضه بمعنى أن العدم ليس هو نقيض الوجود ولكن نقيض الوجود هو اللا وجود، أما العدم فهو مساوٍ للنقيض أو مساوٍ للا وجود، وهذا يعني أن العدم ليس هو بالضبط اللا وجود، كما كنا نتصور لكنه قريب منه، وهو ما يفتح الباب أمام الاستعانة بأبحاث المادة الداكنة، فالعدم له خصائص يمكن أن تختبر.

ما هو العدم؟

اختلف المعتزلة في ما بينهم في الإجابة عن سؤال هل المعدوم شيء؟ ذهب البعض من المعتزلة إلى الاتفاق مع الأشاعرة على عدم الاعتراف بشيئية المعدوم منهم هشام بن عمرو القوطي الذي عبّر بقوله «المعدوم ليس بشيء وما ليس بشيء فلن يحوز أن يعلم»[3]، حجة القوطي هنا، هي عدم العلم بالمعدوم، أي عدم ذاتية المعدوم، أو كما يوضح أبو رشيد النيسابوري من المعتزلة (الغرض من قولنا ذات أنه يصح أن يُعلم ويخبر عنه)[4]، بالتالي يمكن الاستعانة هنا بما لجأ إليه أبو هاشم الجبائي مرة أخرى-هو وغالبية المعتزلة- بالقول بشيئية المعدوم. وإن العدم ليس هو مجرد سلب الوجود، كما يشير الإيجي في كتابه المواقف إلى أن «المعدوم لدى المعتزلة ليس مجرد سلب الوجود بل أشمل، فالتصورات الذهنية وإن كانت معدومة يمكن أن يحكم عليها أو يخبر عنها[5].

ولكننا عند الحديث عن المادة الداكنة نجد أنفسنا أمام عدم له خواص يتصف بها، أي له ذاتية، تثبت المادة الداكنة الشيئية أو الذاتية للعدم فالمادة الداكنة أو المظلمة لا تتفاعل مع المواد الأخرى ولا تخترقها أما عن جاذبيتها على المجرات فالعدم عند المعتزلة له صفات يمكن أن يوصف بالجوهر أو العرض ويبقى الفرق بين الوجود والعدم في الجسمية أي أن العدم لا يكون جسماً أو ذاتاً لها أبعاد -طول وعرض وعمق- وقد أورد الإسفراييني (إن المعتزلة وإن قالوا إن المعدوم شيء وجوهر وعرض وسواد وبياض فإنهم لا يقولون إنه جسم ولا يقولون إنه قابل للأعراض).[6]

إذا كان الحديث عن المادة الداكنة جرنا للحديث عن العدم فالحديث عن الثقوب السوداء يجرنا للحديث عن الوجود، فإذا كان الوجود الحسي هو المرتبة الأولى للوجود بحسب وعينا فما معنى وجود الثقوب السوداء أو ماذا يوجد داخل الثقوب السوداء؟ هل يمكن اعتبار الثقب الأسود بوابة لتحويل الوجود من وجود حقيقي إلى وجود نظري؟ تحويل النجوم المنسحبة داخل الثقب إلى نجوم ليست موجودة وليست معدومة.

تشير قطة شرودنجر إلى أن الشيء يتضمن نقيضه؛ بالضبط كوجهي العملة الواحدة كلاهما مختلفان أحدهما ملك والآخر كتابة لكن العملة مكونة من كليهما كما تشير تجربة الشق المزدوج إلى الاختلاف بين الماهية والوجود يمكن أن تخرج أفعالنا عن النمط المعتاد لها لكننا أبداً لن نخرج عن ماهيتنا، يمكن أن يصدر من الإنسان فعل لا إنساني شيطاني أو ملائكي لكنه لن يخرج عن ماهيته الحيوانية الناطقة/ الواعية فيه.

المراجع
  1. الأحوال وموقف الأشاعرة منها، محمد عبد النبي سيد.
  2. Moran, Dominique. 2013. Carceral Geography and the Spatiality of Prison Visiting, Available at: Visitation, Recidivism, and Hyper incarceration. Environment and Planning D: Society and Space. Volume 31. pages 174 – 190.
  3. شيئية المعدوم عند المعتزلة ومدى تأثرهم بالفلسفة اليونانية طه عبد المعز عارف ، 4216.
  4. المرجع السابق
  5. لمرجع السابق
  6. المرجع السابق