محتوى مترجم
المصدر
new republic
التاريخ
2016/06/17
الكاتب
ستيفن بينكر

كان كبار مفكري عصر المنطق والتنوير من العلماء. لم يقتصر عمل الكثير منهم على المساهمة في الرياضيات، والفيزياء، وعلم وظائف الأعضاء، بل كان جميعهم من المنظرين المتعطشين في علوم الطبيعة البشرية. كانوا علماء أعصاب إدراكيين، يحاولون تفسير الفكر والعاطفة من حيث الآليات المادية للجهاز العصبي.

كانوا علماء نفس تطوريين، يتكهنون عن الحياة في الحالة الطبيعية، وعن الغرائز الحيوانية التي «غُرِست في صدورنا.» وكانوا علماء نفس اجتماعيين، يكتبون عن الأخلاقيات التي تجذبنا نحو بعضنا البعض، والأهواء الأنانية التي تسيطر علينا، ونقاط ضعف قصر النظر التي تحبط أفضل خططنا.

هؤلاء المفكرين – ديكارت، سبينوزا، هوبز، لوك، هيوم، روسو، لايبنتز، كانت، سميث – معروفون على نحو أكبر بوضع أفكارهم في غياب النظريات الرسمية والبيانات التجريبية. لم تكن النظريات الرياضية للمعلومات، والحساب، والألعاب قد تم اختراعها بعد. لم تكن الكلمات مثل «خلية عصبية»، «هرمون»، و«جينات» تعني لهم شيئًا.

عندما أقرأ أعمال هؤلاء المفكرين، أشعر عادة برغبة في السفر عبر الزمن إلى الماضي لتزويدهم ببعض المعلومات العلمية البسيطة من القرن الحادي والعشرين التي قد تسد فجوة في حججهم أو ترشدهم إلى حل لمشكلة عصيبة. ما الثمن الذي كان أمثال هؤلاء الأساطير مستعدون أن يدفعوه مقابل هذه المعلومات؟ ماذا كان يمكنهم أن يفعلوا بها؟

ليس من الضروري أن نتخيل هذا السيناريو، لأننا نعيشه حاليًا. لدينا أعمال كبار المفكرين وورثتهم، ولدينا معرفة علمية لم يكن بإمكانهم أن يحلموا بها. هذا الزمن زمن استثنائي لفهم حالة البشرية. المشاكل الفكرية من العصور القديمة يتم تنويرها الآن من قِبل رؤى علوم العقل والدماغ، والجينات، والتطور. وقد تم تطوير أدوات قوية لاستكشاف هذه العلوم، بداية من الخلايا العصبية المُهَندَسة وراثيًا التي يمكن السيطرة عليها بأشعة الضوء متناهية الصِغَر وصولًا إلى التنقيب في «البيانات الكبيرة» كوسيلة لفهم كيفية انتشار الأفكار.

قد يتصور المرء أن الكُتاب في الإنسانيات سيكونون سُعَداء ومتحمسين لازدهار الأفكار الجديدة في العلوم. ولكنه سيكون مخطئًا. على الرغم من تأييد الجميع للعلم عندما يعالج مرض، يراقب البيئة، أو يسحق المعارضين السياسيين، إلا أن تسلل العلم إلى أراضي الإنسانيات هو شيء قد اِستاء منه الكثيرون. والأمر الذي ينال نصيبه من اللعن والاحتقار أيضًا هو تطبيق المنطق العلمي على الدين.

كثير من الكُتّاب الذين لا نرى أثر لإيمانهم بالله متفقون على أنه من غير اللائق أن يدلي العلماء بدلوهم في الأسئلة الكبيرة. في المجلّات الكبرى في الرأي، يُتَهم المُستجدّون في العلم بانتظام الحتمية، والاختزالية، والجوهرية، والوضعية، والأسوأ من ذلك كله، ما يسمى بــ «العلموية» لقد شهدت السنوات القليلة الماضية أربعة استنكارات من العلموية في هذه المجلة وحدها، جنبًا إلى جنب مع هجمات في بوكفورم، مراجعة كليرمونت للكتب، هافينغتون بوست، ذا نايشن، ناشيونال ريفيو أون لاين، ذا نيواتلانتيس، صحيفة نيويورك تايمز، وستاندبوينت.

تعكس السياسة الانتقائية لهذه المنشورات استياء كلا الطرفين المؤيد والمعارض. هذا المقطع، من مراجعة لسام هاريس لثلاثة كتب من تأليف المؤرخ جاكسون ليرز من عام 2011 في ذا نايشن، تعرض الرأي القياسي اليساري للمحاكمة:

«قدمت الافتراضات الوضعية الأسس المعرفية للداروينية الاجتماعية والمفاهيم التطورية الرائجة للتقدم، كما قدمت الأسس المعرفية للعنصرية والإمبريالية العلمية. هذه الميول ملتئمة مع علم تحسين النسل، وهي عقيدة أن رفاهية الإنسان يمكن تحسينها حتى تصل تدريجيًا إلى الكمال من خلال التربية الانتقائية «للصالح» والتعقيم لـ، أو القضاء على، «غير الصالح». … كل طفل في المدرسة يعلم ما حدث بعد ذلك:

القرن العشرين الكارثي، حربين عالميتين، الذبح الممنهج للأبرياء بمقاييس غير مسبوقة، وانتشار أسلحة مُدَمِّرة لا يمكن تصورها، والحروب المشتعلة على هوامش الإمبراطوريات: كل هذه الأحداث معنية، بدرجات متفاوتة، بتطبيق البحوث العلمية على التكنولوجيا المتقدمة.»

يُعرض هنا الرأي اليميني، المأخوذ من خطاب في عام 2007 لاستشاري أخلاقيات الأحياء للرئيس جورج دبليو بوش، ليون كاس:

«الأفكار والاكتشافات العلمية حول الطبيعة والبشر، المُرَحِبة والمُسالمة تمامًا في حد ذاتها، تُجند الآن لخوض معركة ضد تعاليمنا الدينية والأخلاقية التقليدية، بالإضافة إلى فهمنا الذاتي كمخلوقات ذات حرية وكرامة. وقد انتشرت بيننا عقيدة شبه دينية – اسمحوا لي أن أسميها «العلموية-اللاروحية» – تنُص أن بيولوجيتنا الجديدة، بدون أي خفايا، يمكنها أن تسرد لنا سردًا كاملا للحياة البشرية، وإعطاء تفسيرات علمية بحتة للفكر الإنساني والحب والإبداع والحكم الأخلاقي وحتى السبب في أننا نؤمن بالله. … ولكن لا تخطئوا الظن.

المخاطر هنا كبيرة: فلب القضية هو الصحة الأخلاقية والروحية لأُمتنا، واستمرارية حيوية العلم، وفهمنا الذاتي كبشر وكأطفال للغرب» هؤلاء النواب متحمسون حقا في هذه المحاكمة. ولكن قضاياهم ضعيفة. لا يمكننا أن نلوم العلم على أعمال الإبادة الجماعية والحرب، وهو بالتأكيد لا يهدد الصحة الأخلاقية والروحية لأُمتنا، بل هو بالأحرى لا غنى عنه في جميع المجالات التي تهم الإنسان، بما في ذلك السياسة، والفنون، والبحث عن المعنى والغرض والأخلاق.

مصطلح «العلموية» غير واضح تمامًا، بل هي كلمة تثير البلبلة أكثر من كونها مذهبًا متماسكًا. أحيانًا نجدها مرتبطة مع أفكار مجنونة، مثل أن «العلم هو كل ما يهم» أو أنه «ينبغي علينا أن نثق في أن العلماء سيحلون جميع المشاكل.» في بعض الأحيان يتم توضيح الأمر بصفات مثل «البساطة»، و«السذاجة»، و«الابتذال». يتيح لي الفراغ في التعريف للكلمة الفرصة أن استولي عليها و أصنع لها موقفًا أكون مستعدًا للدفاع عنه، مثلما فعل نشطاء المثلية الجنسية بالتباهي بكلمة «queer» التي كانت تستخدم في التحقير منهم في الأصل.

لا تعني العلموية أن كل الفرضيات العلمية الحالية صحيحة. فمعظم الفرضيات الجديدة في الواقع ليست صحيحة، لأن دورة التخمين والتفنيد هي شريان الحياة للعلم.

العلموية، بهذا المعنى الجيد، ليست الاعتقاد بأن العلماء يتمتعون بالحكمة أو النبالة بشكل خاص. بالعكس، فإن النشاطات المُعرِّفة للعلم، مثل المناقشات المفتوحة، ومراجعات الزملاء، والاختبارات باستخدام التعمية المزدوجة، قد صُمِمَت تحديدًا للتغلب على الأخطاء والذلات التي يقع فيها العلماء لكونهم بشر طبيعيين مُعرضين للخطأ.

لا تعني العلموية أن كل الفرضيات العلمية الحالية صحيحة. فمعظم الفرضيات الجديدة في الواقع ليست صحيحة، لأن دورة التخمين والتفنيد هي شريان الحياة للعلم. احتلال العلم لمجال الإنسانيات ليس من الإمبريالية، فإن العلم يوعد بإثراء وتنويع الأدوات الفكرية للعلم الإنساني، وليس محوه من الوجود.

فكرة أن الأشياء المادية هي الشيء الوحيد في الوجود ليست عقيدة. العلماء أنفسهم مغمورون في وسط أثيري من المعلومات، بما في ذلك حقائق الرياضيات، والمنطق في نظرياتهم، والقيّم التي توجه عملهم. في هذا المفهوم، العلم في نفس القارب مع الفلسفة والمنطق والتنوير الإنساني. يتميز العلم بالتزام صريح تجاه اثنين من المفاهيم، وهذه المفاهيم هي التي تسعى العلموية لتصديرها لبقية الحياة الفكرية.


أول مفهوم هو أن العالم واضح. الظواهر التي نتعرض لها يمكن تفسيرها بمبادئ أعم من الظواهر نفسها. هذه المبادئ يمكن تفسيرها بمبادئ أساسية أكثر، وهلم جر. في محاولاتنا لفهم عالمنا، يجب أن تكون المواقف التي نضطر فيها للتنازل عن التفسير العلمي قليلة، مثل قول «هذا هو الحال» أو «إنه سحر» أو «الأمر كذلك ﻷنني قلت ذلك».

الالتزام بالوضوح ليس مسألة إيمان غاشم، ولكنه يثبت نفسه تدريجيًا ريثما يصبح العالم تدريجيًا قابل للتفسير بالمصطلحات العلمية. عمليات الحياة، على سبيل المثال، كانت تُنسب إلى طاقة حيوية غامضة. أما الآن، فنحن نعرف أنها تتم عن طريق التفاعلات الكيميائية والفيزيائية بين الجزيئات المُعقدة.

يخلط نقاد العلموية في كثير من الأحيان بين الوضوح وخطيئة تسمى بالاختزالية. ولكن، شرح حدث معقد عن طريق مبادئ أعمق ليس تجاهلًا لثرائه. لن يحاول أي مُفكر عاقل أن يفسر الحرب العالمية الأولى بلغة الفيزياء، والكيمياء، وعلم الأحياء بدلًا من لغة التصورات لأهداف قادة أوروبا في عام 1914 الأكثر وضوحًا.

وفي الوقت نفسه، يمكن لشخص فضولي أن يسأل بصورة مشروعة عن سبب كون العقول البشرية عرضة لمثل هذه التصورات والأهداف، بما في ذلك القبلية، والثقة المفرطة، والشعور بالفخر، التي سقطت جميعها في تركيبة قاتلة في تلك اللحظة التاريخية.

الكثير من مؤسساتنا الثقافية تنمي الجهل واللامبالاة بالعلم.

المفهوم الثاني هو أن اكتساب المعرفة صعب. العالم لا يخرج عن طريقه للكشف عن طريقة عمله، وحتى لو فعل ذلك، فعقولنا عرضة للأوهام، والمغالطات، والخرافات. معظم الأسباب التقليدية للإيمان – كالوحي، والعقيدة، والسلطة، والكاريزما، والحكمة التقليدية، وإغراء اليقين الشخصي – هي من مولدات الخطأ، وينبغي أن نرفضها كمصادر للمعرفة.

لفهم العالم، يجب أن نخلق طُرقًا حول العوائق المعرفية لدينا، بما في ذلك الشكوك، والمناقشات مفتوحة، والدقة الرسمية، والاختبارات التجريبية، التي تتطلب براعة فذة في كثير من الأحيان. أي حركة تدّعي أنها «علمية» ولكنها تفشل في ملاحظة احتمالات بطلان معتقداتها الخاصة ليست حركة علمية. (مثال واضح هو قتل أو سجن من يختلفون معها)


إذن، ما هي الطُرُق التي يُنور بها العلم الشؤون الإنسانية؟ اسمحوا لي أن أبدأ بالأكثر طموحًا: أعمق الأسئلة حول كينونتنا، ومن أين أتينا، وكيفية تحديد معنى وهدف لحياتنا. هذه هي المناطق التقليدية للدين، والمدافعين عنها يميلون إلى أن يكونوا أكثر المنتقدين للعلموية انفعالًا.

هم عرضة لتأييد خطة التقسيم التي كتبها ستيفن جاي غولد في كتابه الأسوأ على الإطلاق، «Rock of Ages»، التي تنص على أن اهتمامات العلم والدين تنتميان إلى ما سماه ستيفن بـ«non-overlapping magisteria»*. يحصل العلم على الكون التجريبي، ويحصل الدين على الأسئلة ذات المعنى والقيمة الأخلاقية.

للأسف، تفشل هذه الخطة بمجرد بدء دراستها. تتطلب النظرة الأخلاقية لأي شخص متحرر علميًا – وهو شخص لم تصبه الأصولية بضيق الأفق – قطع جذري للمفاهيم الدينية للمعنى والقيمة.

بادئ ذي بدء، فإن ما توصل إليه العلم يستلزم أن تكون النظم العقائدية للأديان والثقافات التقليدية في العالم كله مخطئة – شاملة نظرياتهم لتفسير أصل الحياة، والبشر، والمجتمعات. نحن نعلم، ولكن أجدادنا لم يعلموا أن البشر ينتمون إلى نوع واحد من الرئيسيات الأفريقية التي صَنَعَت الزراعة، والحكومة، والكتابة في وقت متأخر من تاريخها.

نحن نعلم أن جنسنا البشري هو غصين صغير من شجرة الأنساب التي تحتضن جميع الكائنات الحية والتي ظهرت من مواد كيميائية سابقة للتكوين الجنيني منذ نحو أربعة مليار سنة. ونحن نعلم أننا نعيش على كوكب يدور حول واحدة من مائة مليار نجمة في مجرتنا، التي تعد واحدة من مائة مليار مجرة في كون يبلغ من العمر 13.8 مليار سنة، وربما واحد من عدد كبير من الأكوان.

نحن نعلم أن حدسنا عن المكان والزمان والمادة والسببية غير متكافئ مع طبيعة الواقع على المقاييس الكبيرة جدًا والصغيرة جدًا. ونحن نعلم أن القوانين التي تحكم العالم المادي (بما في ذلك الحوادث والأمراض والمصائب الأخرى) ليس لها أهداف تتعلق برفاهية الإنسان. الأشياء مثل القدر، والعناية الإلهية، والكارما، والسحر، والتعاويذ، والبشائر، والعقاب الإلهي، والإجابة على الصلوات كلها خاطئة – ومع ذلك، يمكن للتناقض ما بين قوانين الاحتمالات وأساليب عمل الإدراك أن يفسر سبب اعتقاد الناس أنها صحيحة.

نحن نعلم أننا لم نكن نعرف دائمًا هذه الأمور، وأن أعز القناعات في كل زمان و في كل ثقافة قد يثبت خطئها بشكل حاسم، بما في ذلك بلا شك بعض قناعاتنا التي نحملها اليوم. وبعبارة أخرى، فإن النظرة التي توجِه القيم الأخلاقية والروحية للشخص المثقف اليوم، هي النظرة التي يقدمها لنا العلم.

على الرغم من أن الحقائق العلمية في حد ذاتها لا تملي القيم، لكنها بالتأكيد تقلص الاحتمالات. فقد تم التشكيك في مزاعم الكنيسة اليقينية في مسائل الأخلاق عن طريق تجريد السلطة الكنسية من مصداقيتها بشأن المسائل الواقعية. يقوض التفنيد العلمي لنظرية الآلهة الانتقامية والقوى الغامضة ممارساتٍ مثل التضحية البشرية، مطاردة الساحرات، تضميد الجراح بالإيمان، المحاكمة بالتعذيب، واضطهاد الهراطقة.

من خلال كشف غياب الهدف في القوانين التي تحكم الكون، تجبرنا حقائق العلم على تحمل المسؤولية من أجل رفاهية أنفسنا، وجنسنا البشري، وكوكبنا. لنفس السبب، تقوم حقائق العلم أيضًا بإلغاء أي نظام أخلاقي أو سياسي مبني على أساس القوى أو الأسئلة أو المصائر أو الجدليات الغامضة، أو الصراعات، أو كل ما هو متعلق بالعصور المسيحية.

وبالاشتراك مع بعض القناعات التي لا يمكن الاعتراض عليها – أن كل واحد منا مهتم برفاهية نفسه وأننا كائنات اجتماعية تؤثر على بعضها البعض ويمكنها التفاوض حول قواعد السلوك – تناضل الحقائق العلمية نحو أخلاق يمكن الدفاع عنها، وهي التمسك بالمبادئ التي تعظم ازدهار البشر وغيرها من الكائنات الحية.

هذه الإنسانية، التي لا انفصام لها عن الفهم العلمي للعالم، أصبحت الآن بحكم الواقع تمثل أخلاق الديمقراطيات الحديثة، والمنظمات الدولية، وتحرر الأديان، ووعودها التي لم تملى بعد تحدد لنا الضرورات الأخلاقية التي نحتاج إليها اليوم.

وعلاوة على ذلك، فقد ساهم العلم – بشكل مباشر وكبير – في تحقيق هذه القيم. إذا قمنا بإدراج أكثر الإنجازات مدعاة للفخر لجنسنا (بدون أن نذكر إزالة العقبات التي وضعناها في طريقنا بنفسنا، مثل إلغاء الرق وهزيمة الفاشية)، فسنجد أن كثير منها يعد هدايا منحت لنا من قبل العلم.


الإنجاز الأكثر وضوحًا هو إنجاز المعرفة العلمية نفسها. يمكننا أن نقول الكثير عن تاريخ الكون، والقوى التي تجعله يعمل، والأشياء التي صُنِعنا منها، وأصل الكائنات الحية، وآلية الحياة، بما في ذلك الحياة العقلية الخاصة بنا. والأفضل من ذلك، أن هذا الفهم لا يتكون من مجرد سرد للحقائق، بل من مبادئ عميقة وأنيقة، مثل فكرة أن الحياة تعتمد على جزيء الذي يحمل المعلومات، ويوجه عملية التمثيل الغذائي، ويستنسخ نفسه.

وقد وفر العلم للعالم صور ذات جمالٍ سامي أيضًا: الحركة المجمدة ستروبوسكوبيًا، والكائنات الغريبة، والمجرات البعيدة والكواكب الخارجية، والدوائر الاستشعاعية العصبية، وكوكب الأرض المضيء و هو يرتفع فوق أفق القمر في سواد الفضاء. مثل كل الأعمال الفنية العظيمة، هذه ليست مجرد صور جميلة، بل هي نتاج التأمل، الذي يعمق فهمنا لمعنى أن نكون بشر، ومكاننا في الطبيعة.

وخلافًا للشائعة الرائجة الكاذبة القائلة بإن التكنولوجيا قد خلقت واقعًا مريرًا من الحرمان والعنف، فكل قياس عالمي لازدهار الإنسان آخذ في الزيادة. وتشير الأرقام إلى أنه بعد آلاف السنين من الفقر شبه العالمي، يوجد نسبة متزايدة بثبات من الإنسانية تعيش السنة الأولى من عمرها، تذهب إلى المدرسة، تصوت في الديمقراطيات، تعيش في سلام، وتتواصل عبر الهواتف المحمولة، تتمتع بالكماليات الصغيرة، وتعيش حتى الشيخوخة.

الثورة الخضراء في الهندسة الزراعية وحدها أنقذت قرابة المليار شخص من الجوع. وإذا كنت تريد أمثلة على العظمة الأخلاقية الحقيقية، انتقل إلى ويكيبيديا وابحث عن «الجدري» و«الطاعون البقري» (طاعون المواشي)، تجد التعاريف الآن في زمن الماضي، مشيرة إلى أن عبقرية الإنسان قضت على اثنين من أقسى أسباب المعاناة لجنسنا في التاريخ.

على الرغم من كون العلم جزء مفيد لا يتجزأ من حياتنا المادية والمعنوية والفكرية، إلا أن الكثير من مؤسساتنا الثقافية، بما فيها برامج الفنون المتحررة في العديد من الجامعات، تنمي الجهل واللامبالاة بالعلم بما يصل إلى الازدراء. يمكن للطلاب أن يتخرجوا من كليات النخبة دون التعرض البدائي للعلوم. عادةً ما يتم تضليلهم بأن العلماء لم يعد يهمهم الحقيقة ولكن مجرد مطاردة موضات نماذج التحول. يوجد حملة تشويه عفا عنها الزمن تتهم العلوم بجرائم قديمة ترجع إلى بداية التاريخ، مثل العنصرية والعبودية والقهر والإبادة الجماعية.

كما نجد إلقاء اللوم على العلم بسبب الحركات السياسية العلمية الزائفة – الداروينية الاجتماعية وعلم تحسين النسل بالذات – بنفس درجة الانتشار والجهل التاريخي. كانت الداروينية الاجتماعية تسمية خاطئة لفلسفة سياسة عدم التدخل لهربرت سبنسر. ولم يستلهم تلك النظرية عن طريق نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي، بل من مفهومه من العصر الفيكتوري لقوة طبيعية غامضة للتقدم التي كان من الأفضل تركها دون عوائق.

اليوم، غالبًا ما يستخدم هذا المصطلح لتشويه أي تطبيق للتطور على عملية فهم البشر. كان تحسين النسل حملة شعبية رائجة بين اليساريين والتقدميين في العقود الأولى من القرن العشرين، بالنسبة للشكل النهائي للتقدم الاجتماعي، وتحسين الأصول الوراثية البشرية. اليوم يستخدم هذا المصطلح عادة لمهاجمة الوراثة السلوكية، ودراسة المساهمات الوراثية في الفروق الفردية.

العلوم والتكنولوجيا تؤثر بشكل مباشر على طلابنا بالعديد من الطرق، سواء الإيجابية أوالسلبية: فقد أوجدت الأدوية المنقذة للحياة، شبكة الإنترنت، طرق تخزين الطاقة الأكثر كفاءة، والترفيه الرقمي؛ كما أنها قد ساهمت في الأسلحة النووية، عوامل الحرب البيولوجية، التنصت الإلكتروني، والضرر الذي يلحق بالبيئة

أستطيع أن أشهد أن هذه الاتهامات ليست من مخلفات الحروب على العلم في التسعينيات. عندما أصلحت جامعة هارفارد متطلباتها العامة للتعليم بين عامي 2006 و2007، قَدم تقرير فرقة العمل الأولي تدريس العلوم من دون أي ذكر لمكانها في المعرفة الإنسانية: «العلوم والتكنولوجيا تؤثر بشكل مباشر على طلابنا بالعديد من الطرق، سواء الإيجابية أوالسلبية: فقد أوجدت الأدوية المنقذة للحياة، شبكة الإنترنت، طرق تخزين الطاقة الأكثر كفاءة، والترفيه الرقمي؛ كما أنها قد ساهمت في الأسلحة النووية، عوامل الحرب البيولوجية، التنصت الإلكتروني، والضرر الذي يلحق بالبيئة».

تعد مساواة ما هو مفيد بما هو فاسد شيء مُمَيِّز لهذه الحالة دونًا عن الحالات الأخرى. (لك أن تتخيل إذا قمنا بتحفيز دراسة الموسيقى الكلاسيكية بالإشارة إلى أنها كانت تولّد نشاطًا اقتصاديًا وكانت إلهامًا للنازيين في نفس الوقت.) ولم يكن هناك اعتراف بأنه قد يكون لدينا أسباب وجيهة لتفضيل العلم والمعرفة على الجهل والخرافات.


في مؤتمر في عام 2011، لخصت زميلة أخرى ما اعتقدت أنه الإرث المختلط للعلم: القضاء على الجدري في كفة؛ ودراسة توسكيجي للزهري في كافة أخرى. (وفي هذه الدراسة، المسرودة بانتظام عن شرور العلم، يقوم الباحثين في مجال الصحة العامة ابتداء من عام 1932 بمراقبة تطور مرض الزهري غير المعالج المحتمل في عينة من الأمريكيين من الأصل الأفريقي الفقراء).

المقارنة في غاية البلادة، فإنها تفترض أن الدراسة كانت جانب مظلم لا مفر منه للتقدم العلمي بدلا من الخرق المستنكر عالميًا للقوانين، ويقارن فشل لمرة واحدة لمنع الأذى عن بضع عشرات من الناس بمنع مئات الملايين من الوفيات في القرن، إلى الأبد.

وكان تطبيق علم الأعصاب، والتطور، وعلم الوراثة لشؤون الإنسان مهمازًا كبيرًا للاستنكارات الأخيرة من العلموية. العديد من هذه التطبيقات سطحي أو مخطئ بالتأكيد، ويمكن نقده: فحص أدمغة الناخبين ريثما ينظروا إلى وجوه السياسيين، وربط الحرب بجين معين مسؤول عن العدوان، وتفسير الدين كَتَكَيُّف تطوري للربط بين الناس.

ومع ذلك، فإنه من الشائع أن يقوم المثقفين الأبرياء من العلوم بتطوير الأفكار الخاطئة أو السطحية، ولا أحد يطالب علماء الإنسانيات أن يعودوا إلى مكاتبهم والبقاء بعيدًا عن المناقشات في الأمور المهمة. ومن الخطأ استخدام بعض الأمثلة الخاطئة كحجة لعزل علوم الطبيعة البشرية عن محاولتنا لفهم حالة الإنسان.

التبسيط ليس أن يكون الأمر بسيط

خذ فهمنا للسياسة كمثال. يسأل جيمس ماديسون «ألا تمثل الحكومة نفسها أعظم الانعكاسات على للطبيعة البشرية؟» تفحص العلوم الجديدة للعقل الصلات بين السياسة والطبيعة البشرية، التي نوقشت باستفاضة في عصر ماديسون لكنها أصبحت مغمورة خلال فاصل طويل كان يُفترض فيه أن البشر عبارة عن حالات فارغة أو ممثلين عقلانيين.

البشر، الذين يزدادون تقديرًا، هم ممثلون أخلاقيون، تحكمهم القواعد والمحظورات حول السلطة، والقبيلة، والنقاء، وتقودهم الميول المتضاربة نحو الانتقام والمصالحة. تعمل هذه الدوافع عادةً دون إدراكنا الواعي، ولكن في بعض الظروف يمكن استرجاعها بالمنطق والنقاش. لقد بدأنا نفهم سبب تطور هذه الدوافع الأخلاقية وكيفية تنفيذها في الدماغ، وكيف تختلف بين الأفراد والثقافات والثقافات الفرعية، وأي الظروف تستطيع تشغيلها أو إطفاءها.

تطبيق العلم على السياسة لا يقتصر فقط على إثراء مخزوننا للأفكار، ولكن يوفر أيضًا وسيلة لمعرفة أيها يحتمل أن يكون صحيحًا. تداولت المناقشات السياسية تقليديًا من خلال دراسات الحالة، والخطابة، وما يسميه مهندسو البرمجيات بـ(رأي الشخص الأعلى أجرًا). وليس من المُستغرب أن الخلافات قد انحرفت دون حل.

هل تحارب الديمقراطيات بعضها البعض؟ ماذا عن الشركاء التجاريين؟ هل تحقد الجماعات العرقية المجاورة على بعضها البعض في صراعات دموية كما فعلت منذ فجر التاريخ؟ هل تحفظ قوات حفظ السلام السلام فعلًا؟ هل تحصل المنظمات الإرهابية على ما تريد؟ ماذا عن الحركات السلمية الغاندية؟ هل طقوس المصالحة بعد الصراع فعّالة في منع تجدد الصراع؟

يمكن للمهووسين بالتاريخ أن يستدلوا بالأمثلة التي تدعم أيًا من الإجابتين، لكن هذا لا يعني أن الأسئلة لا يمكن حلها. ضُربت الأحداث السياسية من ِقبَل العديد من القوى، لذلك فمن الممكن أن تكون قوة معينة ظاهرة في حالة معينة ولكن مغمورة في حالة أخرى.

ومع ظهور علم البيانات – تحليل مجموعات كبيرة من قواعد البيانات الرقمية والنصية المفتوحة – يمكن استخلاص الإشارات من المناقشات في التاريخ والعلوم السياسية وحلها بموضوعية أكثر. أفضل إجابات يمكننا طرحها في الوقت الحالي للأسئلة المذكورة أعلاه هي (بالمعدل المتوسط، وعلى قدم المساواة) لا، لا، لا، نعم، لا، نعم، نعم.

مجال الإنسانيات هو المجال الذي سبب تَدَخُل العلم فيه أقوى ارتداد. ولكن في نفس الوقت هو المجال الذي يبدو أنه الأشد حاجة لضخ الأفكار الجديدة. من معظم وجهات النظر، تعد الإنسانيات في ورطة. البرامج الجامعية تتقلص، والجيل القادم من العلماء إما عاطلين عن العمل أو يعملون عمالة ناقصة لا تستخدم كل إمكانياتهم، والروح المعنوية تغرق، والطلاب يقيمون في قطعان.

لا ينبغي أن يكون أي شخص مُفكِّر غير مبالٍ بسحب استثمارات مجتمعنا في العلوم الإنسانية، التي لا غنى عنها في الديمقراطية المتحضرة. يشير تشخيص علة العلوم الإنسانية مباشرة إلى الاتجاهات المعادية للفكر في ثقافتنا وتسويق جامعاتنا. ولكن تقييمًا صادقًا لا بد أن يعترف بأن بعض الأضرار ناتجة عن التأثير الذاتي.

ما زالت الإنسانيات تحتاج إلى التعافي من كارثة ما بعد الحداثة، بتضليلها المُتَعمّد، ونسبيتها العقائدية، واستقامتها السياسية الخانقة، و فشلها في تحديد أجندة تقدمية. وقد اشتكى لي عدد من رؤساء الجامعات ورؤساء المجلس المعلن أنه عندما يدخل العلماء إلى مكتب احدهم، يكون من أجل إعلان فرصة جديدة للبحث العلمي وطلب الموارد اللازمة لتحقيق ذلك. أما عندما يمر أحد علماء الإنسانيات، فانه يكون من أجل طلب الاحترام والدفاع عن الطُرُق القديمة التي فُعِلَت بها الأشياء دائمًا.

هذه الطرق تستحق الاحترام فعلًا، ولا يمكن أن يكون هناك بديل لأصناف القراءة المتأنية المختلفة، والوصف الدقيق، والانغماس العميق الذي يمكن أن يطبقه العلماء المثقفون على الأعمال الفردية. ولكن هل يجب أن تكون هذه هي المسارات الوحيدة للفهم؟ يوفر اتفاق الإنسانية مع العلم احتمالات لا حصر لها للابتكار في التفاهم.

الفن والثقافة، والمجتمع هو نتاج العقول البشرية. تتأصّل من كليات التصور والفكر والعاطفة لدينا، وتتجمّع وتنتشر عن طريق الديناميات الوبائية التي تتلخص في تأثير شخص واحد على الآخرين. ألا ينبغي علينا لنا أن نكون فضوليين لفهم هذه الاتصالات؟ لا بُد من فوز كلا الجانبين.

ستستمتع الإنسانيات بعمق توضيحي للعلوم، حتى لا تقول شيئًا من قبيل الأجندة التقدمية التي تناشد العمداء والجهات المانحة. ويجب أن تتحدى العلوم نظرياتها بالتجارب الطبيعية والظواهر الصالحة بيئيًا التي وُصِفَت بكل جدارة من قبل الإنسانيين.

في بعض التخصصات، هذا الاتفاق هو أمر واقع. نمى علم الآثار من فرع من التاريخ الفني إلى علم يستخدم التكنولوجيا الفائقة. علوم اللغة وفلسفة العقل تلمس العلوم المعرفية وعلم الأعصاب أيضًا.

يوجد فُرص مماثلة للاستكشاف. فيمكن للفنون البصرية أن تستفيد من الانفجار المعرفي في علوم الرؤية، بما في ذلك إدراك اللون والشكل والملمس، والإضاءة، والجماليات التطورية للوجوه والمناظر الطبيعية. ولدى علماء الموسيقى الكثير للنقاش حوله مع العلماء الذين يدرسون إدراك الكلام وتحليل الدماغ للعالم السمعي.

أما بالنسبة للمنح الدراسية الأدبية، فمن أين نبدأ؟ كتب جون درايدن أن العمل من وحي الخيال هو «صورة عادلة وحيوية للطبيعة البشرية، يمثل عواطفها وفكاهتها، والتغييرات في نصيبها، لصالح بهجة وتعليم البشرية.» يمكن أن تضيء علوم اللغة موارد قواعد اللغة والخطاب التي تسمح للمؤلفين بالتلاعب في تجربة القارئ الوهمية.

علم النفس المعرفي يمكن أن يوفر نظرة حول قدرة القراء على التوفيق بين وعيهم ووعي المؤلف والشخصيات. ويمكن للوراثة السلوكية تحديث النظريات الشعبية عن تأثير الوالدين على الأولاد بالاكتشافات في التأثيرات الجينية، وتأثير الأقران، وتأثير الاحتمالات، والتي لها آثار عميقة على تفسير السيرة الذاتية والمذكرات – وهو مجال يمكنه تعلم الكثير من علم النفس المعرفي للذاكرة وعلم النفس الاجتماعي للعرض الذاتي.

يمكن لعلماء النفس التطوري التمييز بين الهواجس المنتشرة عالميًا من تلك التي يبالغ فيها من قبل ثقافات معينة، ويمكن تصفية الصراعات والتضاربات داخل الأسرة، وبين الأزواج، والصداقات الحميمة، والخصومات التي هي القوة المحركة للمؤامرة.

وكما هو الحال مع السياسة، فظهور تطبيق علم البيانات على الكتب والدوريات والمراسلات، والنُوتات الموسيقية يعدنا بتوسعة جديدة تسمى ب«العلوم الإنسانية الرقمية». تقتصر إمكانيات النظريات والاكتشافات فقط على الخيال، وتشمل أصول وانتشار الأفكار، وشبكات النفوذ الفكري والفني، واستمرار الذاكرة التاريخية، وازدهار وانهيار الموضوعات في الأدب، وأنماط الرقابة غير الرسمية والمحرمات.

ومع ذلك، فقد كان رد فعل العديد من علماء الإنسانيات لهذه الفرص مثل البطل في المثال النحوي لفعل المضارع الإرادي: «أنا سوف أغرق. لا يجب أن ينقذني أحد» وإذ تلاحظ أن هذه التحليلات تقلل من ثراء الأعمال الفردية، فإنها تستخدم الصفات المعتادة: التبسيط، الاختزالية، السذاجة، والابتذال، وبطبيعة الحال، العلومية.

الشكوى حول التبسيط غير مشروعة. شرح الشيء هو أن يدرج تحت مبادئ أكثر عمومًا، والذي يتطلب دائمًا درجة من التبسيط. ولكن التبسيط ليس أن يكون الأمر بسيطًا. ويمكن لتقدير تفاصيل العمل أن يتواجد في العديد من مستويات التفسير الأخرى، بداية من شخصية المؤلف والوسط الثقافي، وكليات طبيعة الإنسان، والقوانين التي تحكم الكائنات الاجتماعية.

يذكرنا رفض البحث عن الاتجاهات والمبادئ العامة بـ ـ«الإمبراطورية الخيالية» لخورخي لويس بورخيس التي وجهت «نقابة رسام الخرائط لرسم خريطة للإمبراطورية بحجم الإمبراطورية، نقطة بنقطة. ورأت الأجيال التالية … أن الخريطة الواسعة عديمة الفائدة وتركوها تتعفن و تنسل تحت الشمس والشتاء.»

وينبغي على النقاد أن يكونوا حذرين في استخدام الصفات. إذا كان هناك أمر ساذج وبسيط، فهو الاقتناع بأن الإرث الأكاديميي ينبغي علينا الآن تحصينه، وأننا يجب أن نكون مكتفين إلى الأبد بالطرق الحالية لتفسير عالمنا. بالتأكيد، يمكن لمفاهيمنا السياسة والثقافية والأخلاقية أن تتعلم الكثير من فهمنا الأفضل للكون المادي ولتكويننا كسلالة.

* «non-overlapping magisteria»: هي وجهة نظر ينادي بها ستيفن جاي غولد تنص أن العلم والدين يمثلان مناطق مختلفة من التحقيق: الواقع مقابل القيم، ولا ينبغي على المجالان أن يتتداخلا.