تبدأ الثورات السياسية بأزمة لا تلبث مع الوقت إلا أن تتفاقم، مؤدية إلى صراع بين كتلة ثورية تدعو إلى نظام جديد، وبين المتمسكين بالنظام القديم، ولأن في مثل هذه الحالة لا يمكن الرجوع لشيء للاحتكام إليه، فإن الأقدر على الإقناع والتحريض هو من ينتصر. فهل في تاريخ العلم ثورات تماثل الثورات السياسية في كونها منبثقة عن أزمات متفاقمة واستقطابية ولا مرجعية لها؟ في هذا المقال أحاول أن أتبين الفكرة الأساسية في كتاب (توماس كون – Thomas Kuhn) عن الثورات العلمية، مع بيان أهم المفاهيم التي اعتمد عليها الكاتب، وبسطها من خلال الأمثل، بغية إعطاء صورة عامة تساعد القارئ على التعرف على الكتاب وأهميته.


مفهوم التقدم التراكمي للعلم في مقابل مفهوم التقدم من خلال الثورات

بدأ (توماس كون)* فيزيائيا، وانتهى كفيلسوف. في العام 1962م، نشر (كون) كتابه (بنية الثورات العلمية)** الذي نصَّبه بين أهم فلاسفة العلم المعاصرين، وقد أثار الكتاب جدلا واسعا، وأصبح حدثا فارقا في دراسة المعرفة العلمية من نواحيها التاريخية والفلسفية والاجتماعية والنفسية، بما أضافه من رؤية جديدة في موضوعه.

وتبدأ رؤية (كون) مع ملاحظته أن أمهات الكتب العلمية التي أسست للعلم الحديث غالبا ما تعطينا صورة مغلوطة عن تطور العلم، ذلك أنها قد كُتبت بعد أن استقرت المناهج العلمية واكتملت، بينما هي لا تفصح عن الوضع ما قبل هذا الاستقرار. إن لجوءنا لهذه الكتب كمراجع لتأريخ العلم يجعلنا نتلقى صورة غير كاملة عن العلم، مفادها أن العلم عملية تطور تراكمية عن طريق تجاوز نقص المعلومات وخلط المفاهيم والخرافات. يبيّن (كون) من خلال قراءة مختلفة لتاريخ العلم أن العلم يعمل من خلال ما يسميه النماذج الإرشادية، ويتطور من خلال الثورات على هذه النماذج الحاكمة.


العلم العادي والنموذج الإرشادي

يلاحظ (كون) أن العلوم لا تولد ناضجةً، وإنما يبدأ كل علم بمرحلة من البحث العشوائي، والتي يتوافر فيها كم كبير من المشاهدات أو الوقائع «الخام»، ولكن لا يمكن لتلك الوقائع أن تؤدي لأي معنى ما لم يكن هناك رؤية ما (مجموعة من المعتقدات النظرية والمنهجية المتكاملة) تسمح بالاختيار والتقييم والنقد. في هذه المرحلة يمكننا أن نسمى هذا العلم بأنه علم غير ناضج. يقول (كون):

وإذا لم تكن هذه المجموعة من المعتقدات [النظرية والمنهجية] قائمة بين حصاد الوقائع، يتعين إضافتها من الخارج، ربما عن طريق نظرة ميتافيزيقية سائدة، أو عن طريق علم آخر، أو عن طريق حدث شخصي أو تاريخي. ولا عجب إذن أنه في المراحل المبكرة لتطور أي علم، يكون للأشخاص المختلفين الذي يواجهون نفس المدى من الظواهر – دون أن تكون بالضرورة نفس الظواهر تحديدا – أوصاف وتفسيرات متباينة.
الفصل الثاني ص 49

أي أن الظواهر نفسها تكون قابلة لأكثر من تفسير وأكثر من رؤية وفقا لنظرة كل تيار، تلك التي يستمدها من عناصر غير موضوعية، وتفرز تلك الرؤى مع تطورها مجموعة من المدارس المتباينة والمتنافسة فيما بينها. ولأسباب تتعلق بقدرة كل مدرسة على استخدام رؤيتها للتأكيد على شيء مميز في مجموعة الوقائع التي تختارها وتقوم بتقييمها وتفسيرها، تتحول رؤية المدرسة الأكثر إنجازاً إلى أول نموذج إرشادي Paradigm يهيمن على باقي الرؤى ويطغى عليها! وفي هذه المرحلة يسمى ذلك العلم علما عاديا Normal Science.


الطبيعة التحكمية للعلم العادي

للعلم العادي والنموذج الإرشادي تعريفان متداخلان، فالعلم العادي هو النشاط العلمي الذي رسخ بنيانه على إنجاز علمي أو أكثر، والنموذج الإرشادي هو القالب المبحثي Disciplinary Matrix المنبثق عن مجموعة الإنجازات الراسخة في فرع علمي ما، والذي يتفق حوله أهل ذلك العلم، ويرسم لهم كيف يحددون مشكلاتهم وكيف يبحثون حلولها في المستقبل***. ويكون عمل الباحثين هو أن يفسروا كل المشاهدات على أساس الفروض المكونة لذلك النموذج، وبعبارة أخرى استخدمها (كون) «أن يدفعوا الطبيعة قسراً داخل إطار معدٍ مسبقا وجامدٍ نسبيا زودنا به النموذج الإرشادي» (الفصل الثالث ص 58) هذا الجمود والتحكمية هما من وجهة نظر (كون) ما يميزان العلم في مرحلة النضوج، وهما ما يجعلانه قادرا على الوفاء بالتزاماته. يقول (كون):

الفصل الأول ص 34

إن افتراض العلماء أنهم «يعرفون صورة العالم» يعني أنهم لا يبحثون عن صورة مجهولة، ولكن جُلَّ عملِهم أن يأتوا بالمشاهدات والإثباتات على صحة الصورة التي «يعرفونها مسبقا»! ولعل هذه الفكرة، والتي يمارس العلماء من خلالها عملهم بوعى أو بدون وعي، تتنافي مع التصور الشائع لدور العالِم بوصفه كاشفا للحقيقة..


ما الذي يحدث لمسار العلم عندما تأتي المشاهدات على عكس ما توقعت النماذج الإرشادية؟

إذا كان الأمر كذلك، فسيكون مهما لنا أن نعرف ما هو مصير العلم الذي يقمع المجددين فيه عندما يواجه مشكلات لا توافق توقعاته المبنية على نموذجه الإرشادي. وعلينا أن نتبين هنا بوضوح أن تلك المشكلات سوف تظهر لا محالة، لأن الطبيعة لا يمكن أن توافق النظرية بالشكل التام.

هناك تصور تقليدي مفاده أن المشاهدات الشاذة هي سبب كافٍ لرفض النظرية علميا، وذلك ما يرى (كون) أنه غير موافق للواقع.. إن الواقع التاريخي يبين أن العلماء لا يعتبرون المشاهدات التي تأتي على عكس التوقعات شذوذا عن النموذج الإرشادي، وإنما يعتبرونها كألغاز تستدعي منهم براعة أكثر.. ولذا فهم يطورون أجهزتهم، ويزيدون معلوماتهم، ويجرون تعديلات جزئية على فهمهم للنموذج الإرشادي، كل ذلك بغية التوفيق بين المشاهدات غير المتوقعة والنموذج الإرشادي. وقد ينجحون في مساعيهم، ولكن حتى عندما يفشلون رغم كل ذلك، فإنهم لا يتخلون عن نموذجهم الإرشادي، وإنما يتم تنحية تلك المشكلات على أساس أن فهمها هو مسألة وقت أو إمكانيات.


استمرار الشذوذ يؤدي إلى انبثاق أزمة

غير أن ذلك لا يدوم للنهاية، لأن تلك المشكلات عندما تتراكم، أو يطول عليها الزمن بلا حل، أو تسفر عن مشكلات تقنية تجعل من النموذج الإرشادي قاصرا عن أداء وظيفته، أو تؤدي إلى إفراز صور متباينة من تفسير النموذج الإرشادي الواحد – أو أن يحدث بعض أو كل ما سبق- فإنها تتحول من مجرد ألغاز تحت عباءة النموذج الإرشادي إلى ما يشبه الشذوذ السافر عنه، ويبدأ بعض العلماء في اليأس من العمل بالطريقة ذاتها (العلم العادي)، والشك في قدرته على الاستمرارية، وهنا تبرز الأزمة.

ولنا في نموذج بطليموس الفلكي Geocentric Ptolemaic Model بوصفه نموذجا إرشاديا عانى مثل تلك الأزمة خيرُ مثالٍ، فقد قام العلماء على مر السنين بإدخال تعديلات على فروض النموذج بغية التغلب على المشكلات في تفسير الظواهر، وقد تم الاستعانة بمفهوم الدوائر المركبة أو أفلاك التدوير deferents and epicycles – كما هو بالصورة – من أجل تعليل مشاهدات الحركة الظاهرية المخالفة للتوقعات لبعض الأجرام (ترى ذلك النموذج متحركا من هنا)، حتى أصبح النموذج على درجة عالية جدا من التعقيد، وفي نفس الوقت غير دقيق في تنبؤاته، مما أدى بالمعاصرين من المختصين وغير المختصين إلى إبداء شكوكهم في أن يكون مثل ذلك التصور المعقد للكون صحيحا.


استمرار الأزمة يقود إلى نظرة جديدة للعالَم

إن استمرار الأزمة مع عدم قدرة النموذج الإرشادي المهيمن على التغلب عليها يزعزع الثقة في النموذج الإرشادي نفسه، مما يعني ضرورة التخلي عن تلك النظرة التي نستمدها من النموذج الإرشادي إلى نظرة جديدة. وفي تلك الأثناء يصيب الحقل العلمي فوضى وعشوائية تشبه تلك التي كانت قبل ظهور أول نموذج إرشادي، أي أنه يكون لدينا عدة تفسيرات تُستمد من نظرات بديلة، تتنافس فيما بينها كبديل للنموذج الإرشادي الفاشل القديم.

وعندما يثبت أحد تلك التفسيرات الجديدة قدرته على توليد رؤية كاملة قادرة على حل المشكلات التي كانت سببا في الأزمة السابقة – ولا يشترط أن تكون تلك الرؤية قادرة على حل كل المشكلات، بل يشترط فقط أن تكون قادرة على التعاطي مع المشكلات التي تسببت في الأزمة – من ثم يكون له الأفضلية على النموذج الإرشادي القديم وعلى كل المحاولات الأخرى لتوليد رؤية جديدة. وهذا ما يسميه (كون) بالتحول في النموذج الإرشادي Paradigm-shift.

في مثال نموذج بطليموس كان تحول في النموذج هو التخلي عن فكرة الأرض كمركز الكون Ptolemaic Geocentrism، وإحلال الشمس محلها في نموذج كوبرنيكوس Copernican heliocentrism ، وقد قادت النظرة الجديدة إلى نظرية قادرة على أن تفسر بدقة أكبر حركة الأجرام دون الحاجة إلى تعقيدات أفلاك تدوير. إن هذه النظرية الجديدة – ونظريات أخرى داعمة تنبثق من نفس النظرة الجديدة – ساهمت في انبثاق قالب مبحثي جديد تبناه أهل العلم وجعلوا له مركزية خاصة في تفسير باقي الظواهر وتحديد المشكلات.


ختام

إن العلم العادي هو النشاط الذي يرصد له العلماء جل وقتهم، ويقوم على افتراض أن المجتمع العلمي يعرف صورة العالم، ويتوقف القدر الأكبر من نجاح المشروع على رغبة هذا المجتمع العلمي في الدفاع عن هذا الافتراض، حتى لو كلفه كثيرا عند الضرورة. مثال ذلك أن العلم العادي غالبا ما يقمع الإبداعات الجديدة الأساسية، لأنها تدمر بالضرورة التزاماته واعتقاداته الراسخة!

إن مفهوم الثورة العلمية scientific revolution الذي اختار (كون) أن يجعله اسما للكتاب، يتضح معناه عند مقابلته لمفهوم التراكم، فالتحول هنا حصل بشكل ثوري، أي بشكل إحلال التفسير الجديد محل القديم، وبتلك الطريقة وحدها يتطور العلم. وليس بشكل تدريجي قطعةً قطعةً عن طريق رفض المشاهدات الشاذة واحدة واحدة، إذ إن هذا الشكل لو فرضنا حدوثه فلن يقود إلى أى معنى، بل قد يعود بالعلم إلى مرحلة ما قبل النضوج، وهي مرحلة نشوء العلم لا مرحلة عمله.

كذلك فإن رؤية (كون) تقودنا إلى تصور جديد عن العلم، ومن ثم عن العالِم scientist، فهو ليس شخصا ينتظر من تجاربه أن تفاجئه بنتائج غير متوقعة ليحقق إنجازا علميا، بل هو يجري التجارب التي يمكنه أن يتنبأ بنتائجها مسبقا. والحقيقة أن النتيجة غير المتوقعة هي الأكثر إرباكا للعالِم، إذ تعني أن عطبا ما بالطريقة التي يعمل بها، أو بالنظرية التي يعمل على أساسها!

كذلك فإن التقدم العلمي scientific development من وجهة نظر (كون) لا يعني الاقتراب أكثر من حقيقة الكون والطبيعة، كما هو المفهوم الشائع للتقدم عند العامة وعند فلاسفة العلم، وإنما هو يعني –حصرا– إحلال نظريات علمية أحدث تكون أفضل من سابقتها من حيث قدرتها على حل المشكلات التي تقابلها.

في هذا المقال تعرضنا لأهم الأفكار والمفاهيم التي اعتمد عليها الكاتب، مثل النماذج الإرشادية، والعلم العادي، والثورة العلمية في مقابل التراكم، والتقدم العلمي في مقابل المفهوم العام للتقدم.. ومع ذلك يبقى الكتاب أثرى من أن يتم احتواؤه في مقال واحد.


* توماس كون (1922- 1996م) : Thomas Kuhn فيلسوف وفيزيائي ومؤرخ علم أمريكي.** تأليف توماس كون، ترجمة شوقي جلال. الهيئة العامة المصرية للكتاب 2015. الطبعة الإنجليزية:Kuhn, T.S. The Structure of Scientific Revolutions. Chicago: University of Chicago Press, 1962.*** محاولا التمييز بين النظرية والنموذج الإرشادي يرى (كون) أن مصطلح «نظرية» كما يجري استخدامه الآن في مجال فلسفة العلم يدل على بنية أضيق من حيث النطاق والطبيعة من البنية التي يعنيها بمصطلح النموذج الإرشادي، ولذلك فهو يستخدم مصطلح «القالب المبحثي» لمزيد من التمييز. إن النظريات هي أحد عناصر القالب المبحثي، من بين عناصر أخرى مثل التعميمات الرمزية، والجوانب الميتافيزيقية، والقيم المشتركة. للمزيد ارجع إلى الفصل الثاني من الكتاب، وإلى حاشية الكتاب (1969م)، الفصل الفرعي 2.