مع ازدهار القدرات التفسيرية للعلم وتمكنه من لمس حيوات الناس مباشرة، تملكت الأذهان فكرة تربط بين الاختزالية ووحدة العلم في كيان أكبر يشمل الطبيعة بأسرها. بذلك ساد الاعتقاد – ساذجًا أم لا – بأن للطبيعة بروتوكول عام موحد متجانس تعبّر عنه نظرية عامة واحدة شاملة، وأن كل المعرفة العلمية يمكن اختزالها؛ أي إيجاد وحدات بنائها الأساسية التي لا يمكن تبسيطها لما هو ابسط منها، إلى هذا البروتوكول المتحد.

اختلفت النظريات حول ماهية «وحدة» العلم المذكورة، لكن الحديث منها حمل دائمًا نكهة وضعية منطقية كما حمل إرثًا ثقيلاً من الخطّية (linearity) التي لا يبررها إلا الخطأ البشري المعهود الذي يجاهد لمطابقة ما هو طبيعي وما هو منطقي، تلك الخطية التي تفترض أن العالم يتكون من طبقات تحتوي كل منها الأخرى وتقوم بتفسيرها، ويمكن اختزال كل طبقة للأخرى بأريحية.


توحيد العلم بتفكيكه

يمكن تشبيه منظور «بول أوبنهايم» و«هيلاري بوتنام» لهيكلية العلم بمنظور الكنسيين الأوائل للعالم أو الفلكيين القدامي للكون. كان هؤلاء يرون العالم مؤلفًا من دوائر منضبطة وتناظر صارم، كان عالمهم «كاملاً» لا يحتوي على أية منغصات تؤذي الذهن السطحي. كذلك كان العلم بالنسبة لأوبنهايم وبوتنام، فالنسبة لهما كان التصميم العام للعالم يشبه حلقات الجحيم في كوميديا دانتي الإلهية، يظهر العلم على هيئة طبقات يتم تفكيك كل طبقة منها إلى مكوناتها الأساسية، التي تكون بدورها الطبقة التالية، ثم نستمر في التفكيك إلى الوحدات الرئيسة حتى نصل لطبقة لا يمكن تفكيكها إلى ما هو أبسط منها تمامًا كما نظر الإغريق للمادة والذرة، يسمى ذلك باسم الاختزال المصغر (microreductionism).

ناشد بوتنام وأوبنهايم العلماء أن يطاردوا هذه الطبقة الأساسية الأعمق على الإطلاق بواسطة سلسلة من الاختزالات. كل طبقة من المعرفة يتم تفكيكها إلى مفاهيم من العلم الذي يليها، حتى نصل للعلم الأساسي الأوحد؛ أي من علم النفس وعلم الاجتماع إلى الكيمياء والفيزياء في خط واحد متصل. يبدو الأمر نوعًا من أنواع علم النفس الشعبي الذي يحاول أن يرتب خزانته المعرفية في رفوف لعدم قدرته على تحمل رؤيتها متنافرة؛ لا لأنها هي بالفعل مرتبة ضروريًا، تراتبية طبيعية مخترعة وليست مكتشفة.

يموج نقد نظرية توحيد العلم بالاختزال المصغر بالأسئلة التي لم توجد إجابة لها في المقالة الشهيرة. كيف يمكن معرفة أن النظرية أ هي النظرية الموحدة؟، هل إذا كنا غير قادرين على معرفة «شكل» النظرية الموحدة يظل بإمكاننا الاعتقاد بوجودها؟، كيف يمكن وصف الاختزال المطلوب بدقة؟، لمَ لم يتم استنتاج منهج ثابت لطريقة الاختزال وتطبيقه على أي نظرية لاستنتاج وحداتها البنائية؟، ألن يقودنا ذلك بسلاسة إلى المعرفة المطلقة؟.

لم يستطع الثنائي إجابة هذه الأمور رغم تشديدهما على أن وحدة العلم هي فرضية فعالة (working hypothesis)، ربما يمكن تفسير فعاليتها السطحية إلى استنادها لأمثلة معروفة مسبقًا لم تكن بحاجة لصيغة اختزالية مطبقة. من السهل القول بالطبقات الستة المذكورة؛ المجتمعات، الكائنات الحية عديدة الخلايا، الخلية، الجزيء، الذرة وأخيرًا الجسيمات الأولية، عندما تكون على دراية مسبقة بوجودهم. كان الأمر سيكون صعبًا قبل اكتشاف الجسيمات الأولية أن نطبق صيغة اختزالية ما على الخلايا لنحصل في نهاية المعادلة على الجسيمات الأولية.


الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك

تسقط فكرة التعقيد من حسابات معظم التوجهات مفرطة الاختزالية. رغم محاولة أصحاب موقف وحدة العلم التقرب من المنظور التطوري، فإن هذا المنظور ذاته هو ما يوفر الدليل على عدم ضرورة صدق هذا التفكير الخطي. بالطبع مرت الأنواع بمرحلة كونت فيها طبقة مشتركة، لكن التفرع والتعقيد الشديد أدى لنشوء «تفرعات» وليس طبقات. تشترك هذه التفرعات في الأصل لكن ينفصل كل منها عن الفرع الآخر بما يكفي لجعل تفسير قدرة النسر على التحليق بواسطة نموذج تطور سمكة السلمون من كائن وحيد الخلية مجرد هذيان.

حتى في المثال الأشهر على فعالية الاختزال المتطرف في بساطته وهو أن الذرة تتكون من جسيمات أولوية، يمكن بسهولة الاعتراض بالنظر لما يمكن أن تكونه (constitute) الجسيمات الأولية غير الذرات. مر الكون بمرحلة –وما زال الأمر مستمرًا في قلب النجوم- تواجدت فيها الجسيمات حرة، أيضًا تتواجد كينونات كيميائية مختلفة عن الذرات والجزيئات المتعارف عليها. هناك متراكبات ومجموعات ذرية مشحونة وأيونات مستقرة بشحنتها أكثر من استقرارها كذرة. هنا يضرب التعقيد بجذوره في قلب الطبيعة مرة أخرى.


وحدة من نوع آخر

إذا رأينا أن الطبقية والتراتبية العلمية تبدو كحالة متضخمة من مغالطة السبب الأوحد، فهذا لا يعني أنه لا توجد إمكانية لتوحيد العلم بطريقة أخرى. هنا نتحدث عن توحيد منهجية العلم عن طريق الطريقة العلمية (scientific method)، أو من خلال إيجاد لغة مشتركة للتعبير عما هو علمي كالرياضيات والمنطق أو علم الوجود التطوري (Evolutionary epistemology) الذي يشتق منظوره للعالم من فكرة وجيهة.

تتأتى فعالية علم الوجود التطوري من قدرته على تكوين حجة تربط بين ذاتية التجربة الحسية وبين العالم الموضوعي. إذا علمنا أن التطور والتكيف قد قادوا البشرية إلى امتلاك صفات معينة مناسبة للصمود والبقاء على هذا الكوكب، فإن البشر بصفاتهم الحالية هم مردود للواقع الخارجي عنهم، وبالتالي يمكن من خلال فهم أنفسنا وفهم ميكانيكية التطور استنتاج معلومات على قدر من الدقة حول العالم وصفاته. تتقبل هذه الفكرة التعقيد والتشعب اللذين أغفلها بوتنام وأوبنهايم عندما قاما باستعارتها. ومع ذلك، تطل المعضلة الأساسية من جديد حتى مع تلك المقاربة. نحن لسنا بحاجة إلى تفسير علمي فقط بل إلى تأكيد هذا التفسير بطريقة ما.

عارض أرسطو أستاذه أفلاطون في فكرة وحدة العلم وآثر الاعتماد على المعرفة بواسطة العلاقات؛ أي أن معنى الشيء يأتي من علاقته بالأشياء الأخرى. فيما كان وجود صفة واحدة مشتركة بين كينونتين كافيًا لأن يعلن أفلاطون في جمهوريته ثم في محاورة السوفسطائي أن المعرفة واحدة خيرة، ولا يتم تقسيمها إلا لدقة فحصها ليس أكثر. يأتي سبيوسيبوس ليذهب بالأمر نحو التطرف أكثر وأكثر ليخبرنا بأن كل المعرفة علائقية وأن الأشياء تُعرف فقط بواسطة تشابهها واختلافها عن بعضها، لذا لنعرف أي شيء علينا معرفة كل شيء.

كانت تلك رحلة في حلم يراود البشرية منذ زمن بعيد. نحن لم نتعلم أن نقنع بفهم الطبيعة كما هي إلا حديثًا بعدما أجبرتنا ميكانيكا الكم على الرضوخ لما يتعارض مع ما نظنه منطقيًا بالمعنى الدارج للكلمة. هل بالإمكان تحديد ما إذا كانت وحدة العلم نزوة أم فكرة زرعتها فينا طبيعتنا التطورية كانعكاس لوحدتها فعليا؟. رغم النجاحات العديدة والإخفاقات المأساوية، لا يبدو أن نهاية الصراع ستحل في أي وقت قريب.

المراجع
  1. ROBERT L. CAUSEY- UNITY OF SCIENCE
  2. Malcolm_Wilson- Aristotle's Theory of the Unity of science
  3. Unity of science as a working hypothesis- Paul Oppenhein, Hilary Putnam