لطالما كان السؤال عن فترة «فجر الكون»، تلك التي بدأت بخروج المادة مما يسمى بـعصور الظلمات الكونية التي استمرت قرابة 400 ألف سنة وصولًا إلى المجرات الأولى، هو الهاجس الذي شغل متخصصي الفيزياء والفلك على مدى قرون عدة، شيئًا فشيئًا تشكّلت معرفتنا عن تلك الفترة بقفزات بحثية صغيرة، ويبدو أننا خلال الأسابيع القليلة الفائتة كنّا أمام واحدة من تلك القفزات.

حيث أعلن فريق بحثي من جامعة ميرلاند،في دراسة نشرت، مؤخرًا، في الدورية واسعة الشهرة «نيتشر»، بقيادة «مايكل كوس» من جامعة ميرلاند ومؤسسة «يوريكا» البحثية، عن تمكّنهم من رصد المراحل النهائية لالتحام مجموعة من أزواج المجرات، وكذلك سبر أغوار ذلك الالتحام والتقاط صور لثقوب سوداء عملاقة تقترب من بعضها البعض على مسافة قصيرة جدًا، لأول مرة على الإطلاق.


التحام العمالقة

«ما يجعل هذه المجموعة من المجرات حالة خاصة هو بالطبع أننا رصدناها في مراحل متأخرة قبل التحامها»

يقول «كوس» في حواره مع «إضاءات» مضيفًا أن ذلك لم يكن فقط الجديد في هذه الدراسة، فيقول: «كذلك فقد استخدمت الدراسة خاصتنا أعلى دقة تصوير ممكنة إلى الآن، لمحاولة معرفة ما إذا كانت الثقوب السوداء تتطور في لحظات الاندماج بنفس الطريقة التي تتنبأ بها عمليات المحاكاة الحاسوبية أم لا، ووجدنا بالفعل هذه الاندماجات الخفية»

فلك، فيزياء، ثقوب سوداء،
فلك، فيزياء، ثقوب سوداء،

لفهم الفكرة الخاصة بالدراسة الجديدة دعنا نبدأ من تجاذب المجرات، نحن نعرف أن الكون يتمدد بشكل متسارع، وتتباعد المجرات عن بعضها البعض بفضل ذلك. لكن هناك مجرات تكون قريبة من بعضها البعض بحيث تقاوم ذلك التمدد وتبدأ في الانجذاب، أحد أشهر الأمثلة هنا هو ما يحدث بالفعل حاليًا بين مجرتنا، درب التبّانة، والجارة «المرأة المسلسلة» أو «أندروميدا»، حيث تقتربان من بعضهما البعض بسرعة 300 كيلومتر في الثانية الواحدة فقط، يشبه ذلك أن تسافر من مدينة الإسكندرية المصرية إلى القاهرة في أقل من ثانية واحدة!

تقترب أزواج المجرات من بعضها البعض بحيث تبدأ أطرافها الخارجية في التجاذب، ثم – شيئًا فشيئًا – تتداخل المجرات معًا. لا يحدث الأمر في صورة ارتطامات كما قد يتصور البعض، بل يشبه الازدحام المروري الحادث حينما يتم فتح ميدان ضخم من جميع المداخل، ازدحام مروري مجري يتسبب في حالة من الفوضى العارمة في كلٍ من المجرتين.

«المشكلة التي تهتم الدراسة الجديدة بفحصها هي تلك المراحل النهائية للالتحام»، يقول الدكتور عمرو الزنط، مدير مركز الفيزياء النظرية بالجامعة البريطانية في مصر، والذي أوضح أن نواتي المجرتين تبدآن في التقارب شيئًا فشيئًا بفعل قوى الجاذبية، لكنهما تصبحان لامعتين بشدة في تلك المراحل الأخيرة بحيث لا يمكن للتلسكوبات على الأرض رصد تفاصيل ما يحدث في الداخل بتلك المراحل النهائية ومقارنتها بالنماذج النظرية في علم الكونيات. يحدث ذلك في مراحل مبكرة جدًا من التقاء أنوية المجرات، حتّى حينما تكون على مسافات شاسعة تصل إلى 130 ألف سنة ضوئية.


تقنيات جديدة

والسبب في ازدياد اللمعان، وبالتالي حجب قدرتنا عن رؤية ما يحدث أثناء التصادم، هو أنه كلما اقتربت نواتا المجرتين من بعضهما البعض أدى ذلك إلى تزاحم المادة للسقوط في الثقوب السوداء العملاقة الموجودة في مركز كل منها، بسبب حالة الفوضى التي تسبب بها اقتراب المجرتين من بعضهما البعض، مما يدفع بالمادة في كل مكان، فيلتقطها محيط الثقب الأسود لتدور حوله وترتفع درجات حرارتها بسبب التزاحم، فيزداد لهذا السبب لمعان النواتين بصورة أكبر وصولًا إلى المراحل النهائية للالتحام، والتي تقع في حدود 10 آلاف سنة ضوئية، بعد ذلك يندمج الثقبان الأسودان العملاقان في ثقب أسود واحد يساوي تقريبًا مجموع كتلتيهما معًا، ونحصل في النهاية على مجرة واحدة فقط.

في تلك النقطة يظهر الدور الفعّال الذي لعبه التلسكوب بات BAT أو «تلسكوب الإنذار بالدفقات Burst Alert Telescope»، وهو أحد أجزاء مشروع ناسا الواعد «سويفت» الذي ينوي التقاط أكثر الصور دقة للأجرام السماوية، ضمن نطاقات عدة في الطيف الكهرومغناطيسي، كأشعة جاما، والأشعة فوق البنفسجية والشعة تحت الحمراء.

يتمكن «بات» من التقاط صورًا ضمن نطاق الأشعة السينية الصلبة، وهي تختلف عن الأشعة السينية العادية في أنها تعمل ضمن نطاق طاقة أكبر، يقول فرانيس في حديثه مع «إضاءات»: «يتمكن BAT من التقاط الأشعة السينية الصلبة ذات الطاقة العالية» مضيفًا أن فائدة ذلك هي أن التلسكوب يتمكن من اختراق كتل الغاز والغبار المحيطة بعملية الاندماج المجري بين النواتين، ويستكمل: «كان هذا التلسكوب جزءًا أساسيًا من الدراسة نظرًا لأن هذه المجرات الملتحمة بالتحديد تحوي الكثير من الغموض، صور الأرصاد خاصتنا أكثر دقة ووضوحًا من أقرب الأرصاد لنا» مستكملًا حديثه: «يشبه هذا أن تنتقل من الدقة (20 / 200) إلى الدقة (200 / 200)، ولهذا السبب كانت دراستنا فريدة جدًا»


تأكيدات تجريبية

ويحاول الزنط شرح فكرة عمل «بات»، في أثناء حديثه مع «إضاءات»، قائلًا إن الأشعة السينية الصلبة تشبه إلى حد كبير ما يُستخدم في التصوير الطبي، ويضرب مثالًا سهلاً: «لا يمكن لك عبر العينين المجردتين أن ترى العظم بداخل جسم أي إنسان، لأن هناك أغلفة من العضلات والأعصاب والجلد فوقها تمنعك من ذلك، لكن الأشعة السينية يمكن لها أن تخترق كل ذلك وصولًا إلى الداخل، الأمر كذلك في حالة هذه الدراسة».

استهدف فريق الدراسة مجموعة من المجرات التي تقع ضمن نطاق قريب بالمعايير الفلكية، فقط 330 مليون سنة ضوئية، بعد الحصول على النتائج من التلسكوب «بات» انطلق الفريق البحثي للبحث خلف صور ضوئية لنفس المجرات في أرشيف التلسكوب هابل، والتي بلغ عددها 385 مجرة. كذلك قامت المجموعة بالتقاط صور أكثر دقة لـ96 مجرة أخرى عبر مرصد «كيك» الموجود على قمة «ماونا كيا» في هاواي، واحد من أكبر أدوات الرصد وأدقها في العالم.

«كانت النتائج غير متوقعة» يقول الزنط في حديثه مع «إضاءات» موضحًا أن: «17% من المجرات التي تم مسحها، بحسب الدراسة، احتوت على ثقوب سوداء تنمو في الحجم واللمعان وفي الطريق إلى الالتحام مع بعضها البعض، وهذه نسبة كبيرة».

لهذا السبب قرر الفريق البحثي مقارنة نتائج المسح الخاص بهم مع 176 مجرة أخرى من أرشيف التلسكوب هابل، لتجد أن ما قيمته 1% فقط من تلك العيّنة الجديدة المستخدمة للمقارنة هو ما يعطي لمعانًا مشابهًا، بالتالي فإن نتائج الدراسة تشير بالفعل إلى ثقوب سوداء عملاقة تتنامى في الحجم واللمعان وتقترب من بعضها البعض في المراحل النهائية قبل الاصطدام.


مصير درب التبانة

ويأمل باحثو الدراسة الجديدة أن تساعد نتائجهم في تكميل الصورة الكبرى التي تشرح آلية الاصطدام المرتقب، خلال 4 مليارات سنة ضوئية، بين مجرتنا وجارتها «أندروميدا»، خاصة وأن المجرات التي قامت الدراسة الجديدة بفحصها تقترب في الحجم والكتلة من درب التبانة وأندروميدا، مما يجعل من السهل أن نتصور سيناريو مشابهًا لحالتنا الخاصة.

يقول «كوس» في حديثه مع «إضاءات»: «حينما تقترب «أندروميدا» منّا فنحن نعرف الآن أن الثقوب السوداء العملاقة في مركزيهما ستنمو بسرعة كبيرة وسوف تختفي وراء كميات كبيرة من الغاز والغبار» مضيفًا أن «هذه الثقوب السوداء بعد اندماجها سوف تطلق موجات جاذبية يمكن رصدها» هكذا تكتمل الصورة الخاصة بارتطام المجرتين.

وكان فريق بحثي تابع للتلسكوب هابل، بقيادة رونالد فان دير ماريل، في عام 2012، قد تمكن عبر فحص لنجوم المجرتين استمر لعشر سنوات، من وضع أدق سيناريو ممكن لاقتراب درب التبانة وأندروميدا من بعضهما البعض، لكن المراحل النهائية لهذا السيناريو، والتي تتضمن آلية التحام نواتي المجرتين معًا، لم تكن مؤكدة بعد.

من جهة أخرى فإن الدراسة تقدم إضافة جديدة لفهم تلك الفترة من تاريخ الكون التي سبقت تكوّن المجرات بشكلها المعاصر. في بداية الكون كانت الالتحامات المجرية أكثر شيوعًا، وكانت المجرات أصغر، كقطع صغيرة تتجمع معًا شيئًا فشيئًا لتصبح أكبر، بالتالي يمكن لعلماء، عبر تلك النتائج الجديدة، أن يحققوا وصفًا أكثر دقة لتجمع المجرات في بدايات الكون، وبالتالي لتاريخ الكون ككل.

واهتمت الدراسة الجديدة كذلك بفحص صحة نماذج المحاكاة الحاسوبية التي تصف اندماج المجرات مع بعضها البعض ولم يكن من الممكن قبل ذلك أن يتأكد الباحثون من مدى صحتها، هذه النماذج كان باحثو الدراسة قد قاموا بإعدادها مع الاعتماد علىدراستينسابقتين تقدمان نماذج محاكاة شبيهة، لتُظهر النتائج الخاصة بالدراسة الجديدة صحة تلك النماذج، خاصة في الجزء المتعلق بتسارع نمو الثقوب السوداء قبيل الالتحام مباشرة.


مجال بحثي نشط

فلك، فيزياء، ثقوب سوداء،
فلك، فيزياء، ثقوب سوداء،

في الحقيقة، فإن عملية اندماج الثقوب السوداء في أنوية المجرات الملتحمة هي أحد الموضوعات البحثية النشطة للغاية حاليًا. على سبيل المثال، في أكتوبر الفائت،كان دراسة جديدة بقيادة مارتن كراوس من جامعة «هيرت فوردشاير»، نُشرت في الملاحظات الشهرية للجمعية الملكية لعلم الفلك، أحد أشهر الدوريات الفلكية، قد أوضحت المراحل قبل النهائية لالتحام ثقوب سوداء عملاقة في أنوية مجرات تقترب من بعضها البعض، في تلك المراحل تدور الثقوب السوداء من بعضها البعض كأنها تتراقص، ثم تقترب شيئًا فشيئًا وهي تفعل ذلك، حتّى تلتحم.

من جهة أخرى كانت ريبكا نيفن من جامعة كولورادو قد حاولت قبل فترة قصيرة صنع أفضل محاكاة ممكنة لالتحام المجرات، اعتمدت محاكاة «نيفن» على أكثر من 500 مليون صورة التقطها ماسح سلون الرقمي بداية من العام 1998،أعلن عن تلك الملاحظات في الاجتماع رقم 223 للجمعية الفلكية الأمريكية، ويمكن لتلك المحاكاة أن تحدد أكبر عدد ممكن من الالتحامات المجرية بحيث تُفيد الباحثين في هذا المجال في تحديدها، ويأمل كوس ورفاقه أن تساعد دراستهم الجديدة في دعم صحة تلك النماذج التي تحاكي التحام المجرات، في النهاية فإن تحقيق أفضل فهم ممكن لها هو بالتبعية تحقيق أدق فهم ممكن لتاريخ الكون.

«الخطوة القادمة هي أن نتعرّف على المزيد من التفاصيل»، يقول «كوس» في حديثه مع «إضاءات» مضيفًا: «على سبيل المثال، سيعطينا التلسكوب جيمس ويب الذي سينطلق قريبًا فرصة أفضل لتفصيل هذه الالتحامات المجرية»، أضف لذلك أن جيلًا جديدًا من التلسكوبات يتجهز للخروج إلى النور خلال السنوات القليلة القادمة، كالتلسكوب ذي الثلاثين مترًا، والتلسكوب الأوروبي الكبير جدًا، والتلسكوب الماجلاني الكبير، مما سوف يؤثر بقوة في فهمنا لأصول هذا الكون.

«نقف الآن أمام نموذج مثالي للعملية العلمية: نماذج محاكاه افتراضية، يتم بعد ذلك تأكيدها بالأرصاد»، يقول الزنط في ختام حديثه مع «إضاءات»، موضحًا أن صنع التقدم في العلوم يبدأ من فكرة يمكن عرضها في صورة فرضية رصينة، ثم يمكن للعلماء التجريبيين بعد ذلك – بذكاء شديد وعبر طرق غير مباشرة – التأكد من صحة أو خطأ تلك الفرضيات، إذا كانت خطأ يتم استبعادها، وإذا كانت صواب تستكمل المسيرة وتتطور وتجيب عن أسئلة أكبر، هكذا يتقدم العلم.