تخيَّل أنك على شاطئك المفضل تستمتع بمنظر الشمس فوق المياه، ونسيم البحر المنعش باسترخاء. تخيل لو أن كل ذلك قد اختفى للأبد! فقد ارتفع مستوى سطح البحر، وتحرك الخط الساحلي مئات الأمتار للداخل متسببا بغرق الساحل كله.

قد يكون من الصعب تخيل هذا المشهد وتلك التغيرات الكبيرة حاليا، لكن علماء المناخ يأكدون أن هناك أدلة دامغة على أن مستوى سطح البحر يرتفع، وبمعدلٍ سريعٍ أيضا! فما هو أقصى ارتفاع قد يصل له مستوى سطح البحر؟

المناخ الحار للكوكب، وكذلك التلوث، وذوبان الجليد، هم المسبب الرئيسي لارتفاع مستوى سطح البحر

في أوائل القرن العشرين، لاحظ العلماء أن مستوى سطح البحر في تغيرُّ مستمر. ففي عام 1941م، وبتحليل البيانات التي تم جمعها من أجهزة قياس المد، لاحظ العالم بينو جوتنبرج أن مستوى سطح البحر كان في ازدياد مستمر خلال المائة عام السابقة التي يمكن التأكد من صحة تلك البيانات خلالها. في الوقت الحالي، تعتبر بيانات أجهزة قياس المد غير دقيقة ولا يمكن الاعتماد عليها بشكل تام، ولذلك فقد قامت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) بالتعاون مع وكالة الفضاء الفرنسية باطلاق رادار مثبَّت على أحد الأقمار الصناعية لمراقبة ارتفاع مياه سطح البحر في عام 1993م، وبذلك أصبح لدينا تصوُّر أفضل وأكثر دقة لارتفاع سطح الماء في مختلف أنحاء الأرض، وقد أثبتت البيانات التي تم جمعها أن سطح البحر في ارتفاع مستمر.

نحن نعرف حاليًا أن المناخ الحار للكوكب هو المسبِّب الرئيسي لذلك التغيير، فعلى سبيل المثال، تخبرنا قوانين الفيزياء البسيطة أن الماء يتمدد بارتفاع درجة حرارته،يقول العالم الفيزيائي جون كراستينج:«يُعتبر التمدد الحراري في المحيطات المصاحب لارتفاع درجة حرارتها أهم أسباب ارتفاع مستوى سطح البحر خلال القرن الماضي». ومن المتوقع أن يستمر التمدُّد الحراري كأحد أسباب ارتفاع مستوى سطح البحر، لكن هناك مشكلة أخرى قد تؤدي إلى تغييرات جذرية في مستوى سطح البحر في المستقبل؛ ذوبان الجليد، حيث يؤدي ذوبان الأنهار الجليدية (المتجمدة) على الجبال إلى إطلاق كميات كبيرة من المياه في المحيطات مما يؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بدرجة كبيرة، لكن لأي مدى يمكن أن يكون ذلك سيئا؟!


هل يساعدنا التَّاريخ؟

http://gty.im/524843424

إحدى الطرق التي يمكنها أن تساعدنا في الإجابة عن السؤال السابق، هي البحث في تاريخ تغيرُّ مستوى البحر وتحليل النتائج. يستطيع علماء الجيولوجيا فحص الصخور الرسوبية في محاولة لتحديد مستوى سطح البحر تاريخيًا بتحديد نقاط التقاء الماء باليابسة، ويقوم بعض العلماء بالبحث عن قرائن تشير إلى مستوى سطح البحر تاريخيا في أصداف الكائنات القديمة المدفونة في رواسب المحيطات والبحار.

بدراسة التَّاريخ، يبدو أحد العصور التاريخية لكوكب الأرض أكثر أهمية من غيره؛ عصر البليوسين (منذ حوالي 3 ملايين سنة). «ووفقا لمورين رايمو» (عالمة المناخ الشهيرة)، فإن درجات الحرارة التقديرية في ذلك العصر تزيد عن درجات الحرارة الحالية بدرجة أو درجتين، تلك الحقيقة تجعل دراسة مستوى المياه في ذلك العصر مفيدة لتوقع ما يمكن أن تصل إليه مستويات المياه في المستقبل حين نضع في الاعتبار ما قرَّره زعماء العالم في اجتماعهم العام الماضي في باريس بوضع حد لارتفاع درجات الحرارة على سطح الكوكب بمقدار درجتين عمَّا نعاصره حاليا. تقول رايمو:«إن السِّجلات الجيولوجية تشير إلى أن ارتفاع درجة الحرارة بذلك المقدار سوف يؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار كبير»، وتبدو هذه الملاحظة منطقية ومتَّسقة بالوضع في الاعتبار أن أفضل التقديرات لمستوى سطح الماء في منتصف عصر البليوسين تتراوح ما بين 10 أمتار و 40 مترا أعلى مما هو الوضع عليه الحالي.


عودة إلى الحاضر

http://gty.im/499212976

لم يعد مقدار التغيُّر في مستوى سطح البحر هو الشيء الوحيد الذي يشغل البشرية حاليا، بل أصبح معدل ذلك التغيير أحد أهم النقاط التي تشغل حيزًا كبيرًا من اهتمام الباحثين المهتمين بالمناخ، حيث تشير دراسة حديثة نشرت في 2016 قام فيها العلماء باستخدام أساليب إحصائية صارمة والاعتماد على سجلات أكثر دقة لمستوى سطح البحر في العالم، إلى أن معدل الارتفاع في مستوى سطح البحر خلال القرن العشرين أكبر من معدل الارتفاع خلال 27 قرنا سبقوه. يقول روبرت كوب الباحث الرئيسي في ذلك البحث:«تشير تلك السجلات إلى أن آخر مرة شهدت الأرض ارتفاعا في مستوى سطح البحر بسرعة مماثلة لما رأيناه في القرن العشرين تعود إلى العام 800 قبل الميلاد» ويضيف قائلا:«خلال العقدين الماضيين، شهدت الأرض ارتفاعا في مستوى سطح البحر بمعدل يفوق ضعفي معدل ارتفاع مستوى سطح البحر خلال القرن العشرين». وتشير الدراسة إلى مدى حساسية مستوى سطح الماء في الاستجابة للتغيرات في درجة الحرارة، حتى الطفيفة منها، يقول كوب:«يعود تلك الزيادة غير المعتادة في مستوى سطح الماء إلى الارتفاع غير المعتاد في درجات الحرارة، تخبرنا الفيزياء أن التغيرات العالمية في درجات الحرارة تسير يدًا بيدٍ مع التغيرُّات العالمية في مستوى سطح الماء، وتظهر دراستنا أن الحال كان كذلك طوال الوقت»


ما هو مقدار الارتفاع المتوقَّع لسطح البحر

http://gty.im/94171094

من المفيد معرفة أننا نشهد ارتفاعًا غير مسبوق في مستوى سطح البحر، لكن تلك المعرفة لا تساعدنا في الإجابة على السؤال المهم بخصوص مقدار الارتفاع المتوقَّع والذي تعدُّ الإجابة عنه أساسية وضرورية لوضع تدابير سليمة لتخطيط المناطق السَّاحلية. تقوم ورقة بحثية أخرى نشرت في نفس الوقت تقريبا بمحاولة الإجابة على ذلك السؤال، حيث قام الباحثون باستخدام العديد من الأدوات الحسابية للتنبؤ بمقدار الارتفاع في مستوى سطح البحر، ووجدوا أنه بنهاية القرن الحالي من المتوقع أن يكون مستوى سطح البحر أعلى من المستوى الحالي بحوالي 50 إلى 130 سم، مالم يتم الحدُّ من انبعاثات الغازات المتسببة في الاحتباس الحراري سريعا. وتأتي هذه التقديرات متماشية مع التقديرات المعلنة من فريق الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ بأن مستوى سطح البحر سوف يرتفع من 50 إلى 100 سم بحلول عام 2100م. وتضم تلك التوقعات نطاقًا متوقعًا لمقدار ارتفاع سطح البحر نتيجة لتعدُّد السيناريوهات المستخدمة في حساب تلك الزيادة، وكذلك بسبب عدم التأكد بخصوص موعد وكيفية انصهار الجليد في القطبين، وتوضح دراسة منشورة في 2016 مدى الاختلافات في تلك النقاط.

تبعًا لمورين رايمو، فإن التمدُّد الحراري للمياه وذوبان الأنهار الجليدية كانا السببين الرئيسيين لارتفاع مستوى سطح البحر حتى الآن، أمَّا في المستقبل، فسوف يلعب انصهار الجليد في القطبين وفي جرينلاند دورًا متناميًا في المساهمة في ارتفاع مستوى سطح البحر، لكن تلك التغيرات من المتوقع أن تظهر تأثيرتها خلال قرون. تقول رايمو:«من النَّاحية النَّظرية، إذا انصهر كل الجليد على الكوكب فإن سطح البحر سوف يرتفع بنحو 55 مترا» موضحةً أن ذلك ليس من المتوقع أن يحدث قريبا. وتضيف:«آخر مرة حدث ذلك على الأرض منذ حوالي 40 مليون سنة كانت مستويات ثاني أكسيد الكربون في الجو مرتفعة وصولا إلى حوالي 1000 جزء من كل مليون تبعا لآخر الأبحاث، بينما مستوى ثاني أكسيد الكربون حاليًا أكثر بقليل من 400 جزء من كل مليون»


هل من سبيل للنجاة؟

http://gty.im/472299958

من الممكن نظريًا أن نُبَطِّئ من معدل ارتفاع سطح البحر، لكن هذا يتطلب أن تقوم الحكومات والأفراد بالتحرُّك واتخاذ التدابير اللازمة، يقول كوب:«لكي نبطِّئ من معدلات ارتفاع مستوى سطح البحر، علينا أن نوقف ارتفاع درجات الحرارة، ممَّا يعني البدء في الاقلاع عن استخدام تقنيَّات الطاقة التي تؤدِّي إلى انبعاثات ثاني أكسيد الكربون» ويتفق معه عدد كبير من العلماء أن هذه الخطة هي الحل الوحيد الناجح لتجنُّب الكارثة، على الرغم من ذلك فقد كانت هناك بعض الأفكار الأخرى، منها على سبيل المثال ما اقترحه البعض بضخ كميات من المياه من المحيط إلى «أنتاركتيكا» حيث ستتجمد تلك المياه مما يؤدي إلى إنخفاض مستوى سطح البحر، وقد قامت مجموعة من العلماء في معهد «بوتسدام» لتأثيرات المناخ بدراسة تلك الفكرة غير المعتادة وقاموا بنشر نتيجة دراستهم في ورقة علمية في بدايات عام 2016م، حيث وجد الباحثون أن المياه التي سوف يتم ضخها سوف تتجمَّد فعلاً كما هو مأمول، لكن الوزن الناتج عنها سيؤدِّي فقط إلى زيادة معدلات انصهار الجليد وزيادة كميات المياه المضافة إلى المحيط في النهاية. يقول أندرس ليفرمان:«إذا واصلنا التَّعامل بالشَّكل الحالي متسببين في هذا الكم الكبير من الانبعاثات، فلن يكون المشروع العملاق الهادف لتخزين المياه في صورة ثلج في «انتاركتيكا» كافيا للحدِّ من ارتفاع مستوى سطح البحر على المدى الطويل على الرغم من الحجم الهائل لمثل هذا المشروع».

الحلَّ الوحيد أمامنا هو الحدُّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إذا ما كنا نتطلع للحدِّ من ارتفاع مستوى سطح البحر

لذلك، فإن الحلَّ الوحيد أمامنا هو الحدّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إذا ما كنَّا نتطلع للحدِّ من ارتفاع مستوى سطح البحر، بالإضافة إلى ذلك، فسوف يكون هناك احتياجٌ كبيرٌ لاستثمارات عملاقة في حماية السَّواحل المحليَّة، فمن دون تلك الاستثمارات، ربما نواجه موجات كبيرة من الإخلاء التدريجي للمناطق الساحلية، مما سيتسبب في الكثير من الإضطرابات بالوضع في الاعتبار أن 44% من سُكَّان العالم يعيشون في مناطق تبعد عن السواحل مسافات أقل من 150 كيلومترا، وربما يمكننا أن نشعر أكثر بحجم المأساة حين نتخيل الأهوال التي لاقاها البشر إبان نهاية العصر الجليدي الأخير حيث كان مستوى البحر أقل من المستوى الحالي بحوالي 120 مترا منذ 20 ألف عام مضت، ثم بدأ الجليد في الانصهار، ومستوى البحر في الارتفاع حتى بدأ مستوى البحر يستقر في الفترة منذ حوالي 8 آلاف عام بعد أن زحفت البحار حوالي 100 كيلومتر في بعض المناطق متسبِّبة في غرق الكثير من الأراضي مما تسبب في جعل انجلترا جزيرة بعد غرق الأرض التي تربطها بأوروبا.

الحقيقة المرَّة التي ينكرها الكثيرون، هي أن التغيرات المناخية الناتجة عن الأنشطة البشرية وما يصحبها من ارتفاع لمستوى سطح البحر، يهدد سواحلنا حاليا ويقوم بتغييرها، وهو خطر كبير سوف تتحمل تبعاته الأجيال القادمة.

المراجع
  1. 1