هل تعبر ظاهرة الطائفية عن الاجتماع الديني، أم هي ظاهرة سياسية بالأحرى؟ لطالما تردد ذلك السؤال في الأدبيات العربية المعاصرة، وهو سؤال تتوالد منه الكثير من الأسئلة الإشكالية في الحقيقة، كسؤالنا عن الفارق المفاهيمي بين الطائفية والطائفة، وهل الطائفية ظاهرة حديثة أم تاريخية؟

وكتساؤلنا أيضًا عن العلاقة بين صعود الطائفية في العالم العربي، وبين تراجع وانحسار الطبقة الوسطى في العقدين الماضيين في عالمنا العربي الذي يبدو مقبلاً على – إن لم يكن بالفعل متورطًا في – حرب طائفية طاحنة على غرار حرب الثلاثين عامًا في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت إبان القرن السابع عشر.

خلال محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، سنكتشف كيف تغير شكل عالمنا العربي، وكيف ترسم خرائطه الجديدة الآن على مرأى ومسمع من الجميع، بينما يقف معظمنا عاجزًا أو غير آبه لما يجري من حوله.


هل الطائفية ظاهرة حديثة أم تاريخية؟

قبل أن نجيب على سؤال هل الطائفية ظاهرة حديثة أم ظاهرة تاريخية، علينا أولاً أن نميز بين الطائفة والطائفية، فالطائفة هي ظاهرة اجتماعية، تعبر عن شكل من أشكال الاجتماع الديني، بينما الطائفية هي علاقة سياسية، وهذا تفريق مهم في البداية سيساعدنا على الإجابة على السؤال المطروح أعلاه.

يقول د. عزمي بشارة في محاضرة بعنوان «طروحات حول المسألة الطائفية: إطار نظري»:

بحسب بشارة لا تتعلق الطائفية بالدين، بل بالجماعة، وفيها المؤمن وغير المؤمن والملتزم دينيًا وغير الملتزم. وليست الطائفية حالةً تبشيريةً ودعويةً، بل هي تعصبٌ لحدود الطائفة. وحين تجري الدعوة إلى اعتناق المذهب في حالة الطائفية، كما في حالات التشييع والتسلفن التي تقوم بها كل من إيران والسعودية، بنجاح متفاوت، فهي تقوم بذلك لأسباب سياسية وليست دينية.

من جهة أخرى، بحسب الباحث والكاتب المغربي سلمان بو نعمان، فإن انتقال الطائفية من تكوينات اجتماعية وجماعات فرعية إلى حالة سياسية صراعية هي إفراز طبيعي للحكم الاستبدادي، وفشل نموذج الدولة الوطنية في بناء نظام سياسي عادل وفاعل.


صعود الطائفية و تراجع الطبقة الوسطى

يذهب برهان غليون في كتابه «المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات» إلى أن التوسع الاقتصادي والثقافي للنظام الاجتماعي في تطوير حركة الاستيعاب والاندماج القومي، بما يخلقه من فرص الاقتراب من نموذج حياة واحدة لدى مختلف الجماعات، يعمل على ظهور تقسيمات أفقية عميقة بدلاً من التقسيمات العمودية العصبوية (الطائفية أو الإقليمية الجغرافية).

يري غليون أن هذا التقسيم الأفقي هو إحدى خصائص المجتمع المتطور، القادر على تعميق حركة الدمج الاجتماعي في نمط حياة واحد، بينما يترافق الانحطاط والانكماش الاجتماعيين بعودة التقسيمات العمودية التي تخلق أنماط حياة متميزة ومتفاوتة بشدة بين الجماعات، حيث يتحول كل مجتمع في مرحلة انحطاطه إلى مجتمع عصبوي.

عندما نتأمل في الواقع العربي، نجد أن أطروحة غليون تنطبق بشكل كبير على التحولات الاجتماعية التي مر بها العالم العربي في العقود الأخيرة، حيث أدى إخفاق الدولة الوطنية في العالم العربي، في بناء أمة سياسية متماسكة ومجتمع حديث، فضلاً عن ما أثمرته سياساتها من ركود اقتصادي واضطرابات سياسية وأمنية عديدة سبقت موجة ثورات الربيع العربي، إلى تحولات في بنية المجتمعات العربية، انكمش معها حجم الطبقة الوسطى بصورة ملحوظة، وازداد خلالها الاستقطاب السياسي والاجتماعي على أسس طائفية.

بنهاية المطاف كانت الطائفية المتنامية والنزعات الجهوية والقبائلية، هي كلمة السر في وأد الربيع العربي في مهده، والثغرة التي دلفت منها الثورات المضادة، التي عادت بالمنطقة سنوات إلى الوراء على صعيد حقوق الإنسان والحريات وحتى على الصعيد الاقتصادي والتنموي أيضًا.

لا يخفى في هذا الإطار أن تونس التي يتمتع مجتمعها بوجود طبقة وسطى عريضة ذات تعليم مرتفع، هي البلد الوحيد الذي استطاع أن يحافظ على الحد الأدنى من مكتسبات الربيع، بينما نجحت الثورات المضادة في باقي البلدان العربية الأخرى في العودة إلى سدة الحكم، أو في إغراق البلاد في الفوضى تمهيدًا لعودتها مرة أخرى، كما جرى في اليمن وليبيا على سبيل المثال.

لعل السر وراء هذا، يكمن تحديدًا في هشاشة الطبقة الوسطي في مختلف البلدان التي مر عليها الربيع العربي، حيث سرعان ما عاد المجتمع إلى انقساماته العصبوية والطائفية، إثر اندلاع الثورات، كما رأينا في سوريا (السنة في مقابل العلويين)، وفي اليمن (الحوثيين الزيديين في مقابل السنة)، و(الجنوب في مقابل الشمال)، وفي ليبيا الممزقة اليوم بفعل الانقسامات الجهوية والقبلية.

وكذلك الحال في مصر التي غرقت فيها شبة جزيرة سيناء في الفوضى، وتسيد مشهدها السياسي استقطاب طائفي عميق منذ استفتاء 19 مارس/آذار 2011، وصولاً إلى مشهد الـ 30 من يونيو/حزيران 2013.


عصر الميلشيات وانهيار الدولة المركزية في العالم العربي

الطائفية ظاهرة حديثة بمعناها الذي يتميز من العصبية والطوائف التي عرفها الاجتماع العربي ما قبل الحديث، حيث يُثبت تاريخ المشرق العربي أن التدين السياسي، بغض النظر عن نشوئه، إذا وقع في مجتمعات متعددة الطوائف وتعاني أصلًا عدم استقرار في هويتها الوطنية أو القومية، فإنه يؤول بالضرورة إلى طائفية سياسية، حاملًا معه فكره السياسي الديني، أكان سلفيًا أم أصوليًا أم إصلاحيًا. ويستخدم الطائفية في التحشيد خلفه.

عندما نتأمل في المشهد الجيوسياسي للمشرق العربي اليوم، نجد أن الشرق الأوسط في الوقت الراهن يعيش عصر ازدهار واضح للميلشيات وتداعٍ لا يخفى للدول المركزية، ففي لبنان على سبيل المثال نجد أن القوة السياسية والعسكرية التي لها الكلمة الفصل في ذلك البلد هي حزب الله. في السياق نفسه، نجد صنعاء اليوم تحت حكم الحوثيين، ونجد سوريا ممزقة تحت رايات شتى كردية وسلفية جهادية وعلوية وشيعية موالية لنظام الأسد، بينما تعاني الدولة المصرية في السياق ذاته من فقدان واسع للسيطرة في شبه جزيرة سيناء بفعل تنظيم ولاية سيناء.

لا تخفى بطبيعة الحال مرجعية وولاءات تلك الحركات والميلشيات، بدءًا من حزب الله مرورًا بالحوثيين وصولاً لتنظيم الدولة الإسلامية، الذي يدعي أنه يدافع عن أهل السنة في العراق وسوريا، في مواجهة المد الشيعي في المنطقة.

بنهاية المطاف، وبفعل صراعات تلك القوى المشار إليها، يعاد اليوم رسم خرائط المنطقة، عبر صراعات مباشرة بين تلك القوى، وعبر صراعات إقليمية بالوكالة، لاسيما بين المملكة العربية السعودية وإيران، يخشى أن تتحول بالفعل إلى مواجهة مباشرة بين الطرفين في الفترة المقبلة.

وهي مواجهة اذا جرت، ستشهد المنطقة على إثرها استقطابًا طائفيًا غير مسبوق، وستدخل في أتون حرب طويلة ومستعرة، أشد ضراوة من حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، التي خلفت مئات الآلاف من الجرحى والقتلى في صفوف كلا الطرفين.