ما يزيد عن عشرة بالمئة من شباب هذا البلد هم في حربٍ مع الله، وما يقرب من 5 بالمئة في صراعٍ مع أنفسهم. استدعت هذه الأرقام دق ناقوس الخطر، وتسليط الضوء على ظواهر اجتماعية آخذة في الاستشراء بين شبان المحروسة، وقد كانوا قبل سبع سنين منارةً للعالم، ومحطةً لقطار الحرية العربي السائر شرقًا إلى ما وراء البحرين (الأبيض والأحمر).

يُجري الإعلامي في قناة الجزيرة محمد ماهر عقل حوارًا مع عدد من الشباب، يواجهون مشكلة ما حول معتقداتهم الدينية، منهم من يرفض الاعتراف بوجود الله، ومنهم من يبدأ رحلته إلى الشك، حيث – كما يقول – يبدأ من نقطة محايدة، يستوي فيها القبول والرفض. جميع من يحاورهم «عقل» يُرجعون السبب في تغيراتهم الفكرية الجذرية إلى نقطة واحدة، هي النقطة التي تلت ثورة يناير. منهم من بدأت رحلته مبكرًا، من اللحظة التي اختلف فيها مع الإسلاميين، ومنهم من بدأ في تلك التي سُحق فيها الإسلاميون، الإسلاميون إذن نقطة محورية في هكذا تحول.

في هذه السطور نقدم عرضًا – نتمنى أن يكون موضوعيًا – للفيلم الوثائقي الذي أذاعته الجزيرة أمس بعنوان «في سبع سنين»، مع تعريجٍ على الفكرة التي خلص إليها الوثائقي بشيء من الإيجاز.


فكرة قوية وأداء ضعيف

إذا كنت مهتمًا بصناعة الوثائقيات، وتريد دائمًا أن يكون صيدك منها ثمينًا، فثمة خطوط عريضة عليك الإلمام بها قبل أن تأخذ الكاميرا إلى رحلة بعيدة؛ عليك أولًا بتحديد الفكرة، والتي كلما كانت حدودها أضيق، كلما كان نجمها ألمع.

لطالما كان الإلحاد والانتحار والإرهاب محل نقاش بين المهتمين بدراسة تحولات المجتمع المصري، بعد الـ 25 من يناير. فهذا المجتمع وفقًا لمؤسسة غالوب لاستطلاعات الرأي كان قبل الثورة أكثر شعوب الأرض تدينًا، حيث الدين مركزيٌ في حياة أبنائه، مجتمعٌ لا يعرف العنف، ولم يشهد في تاريخه الحديث أية حروبٍ أهلية. تلك هي الفكرة التي يقدمها الوثائقي، وهي فكرة جديرة بالاحترام لا ترى نفسك إلا وشغوف بكل ما يتناولها، لا سيما لو جرى هذا التناول من مؤسسة إعلامية عريقة كالجزيرة.

علامة الامتياز حقٌ للفكرة التي تناولها الوثائقي، لكن:

تلك الذاتية التي تحدث بها مقدم الفيلم لا تنم أبدًا عن احترافية، وكان يمكن تقبلها – كسقطةٍ غير مقصودة – لو أن ملامح وجهه لم تكن بتلك التأثر إزاء إجابات ضيوفه ووصفه قناعات أحد ضيوفه (حسن البنا) بالسوء في الدقيقة الثالثة من بداية الفيلم. قاعدة مهمة لإنجاح أي وثائقي، وهي أن يكون مقدم الوثائقي محايدًا إلى الحد الذي يدفعه إلى الحقيقة، لا أن يستقبل ضيوفه بقناعات بادية على أسئلته وتعبيرات وجهه وبعض الجمل التي يتلوها في الفواصل!

شيئًا عنّي، هذه بالطبع ليست قصتي، لكن من المهم أن أقول هذا. كشاب مصري درست في الأزهر وعرفت مما عرفت أننا شعبٌ متدين …
عن السماء إذن نتحدث، عما تبدل وتغير، وعن ذلك الجدل الذي لن ينتهي بيني وبينهم.
تلك المتاهة التي علقنا بها جميعًا حين لمسنا سقف السماء ثم هوينا تحت الأرض.

والأهم، خلافًا للفكرة، وطريقة الحوار، هم الضيوف. يظهر في الجزء الأول حسن ومصطفى وسُنة وإسراء، أربع شخصيات لا يربطهم شيء سوى الثورة، والتيه، وذاتية التجربة. ما الذي يجعلنا – نحن الجمهور – نتلقى هذه التجارب شديدة الذاتية كأزمة مجتمعية؟ لاسيما وأن أغلب الضيوف ربما لا يمتلكون الفكرة ليقدموها للجمهور، فقط هو الشك (التيه)، الذي ربما يكون نتيجة لهشاشة أنفس هؤلاء الأربعة، وضعف قدرتهم على تحمل الصدمة أو التعامل معها.

ربما كان على «عقل» أن يستضيف طبيبًا نفسيًا وخبيرًا اجتماعيًا – مثلًا – للتعليق على ما قاله الضيوف، وتقييم حالتهم النفسية، والتأكد من تحييد كافة العوامل التي أودت بها إلى هذه النتيجة. إحدى الضيوف (سُنة) في آخر الفيلم، تحكي سريعًا عن ارتباطها في السابق بزوج كان يضربها كثيرًا، وهي تحمل هذه التجربة السيئة في ذاكرتها، وتنتطلق منها إلى حوار حول الإله، فيما تبدو للمشاهد كتجربة شديدة الذاتية، من غير المقبول تمامًا تعميمها وإلصاقها بالثورة وهزيمتها!

هذه الذاتية التي ننتقدها، سواء في أداء المقدم، أو في حديث الضيوف، لم تفضِ إلا إلى نتيجةٍ واحدة، وهي أنها جعلت الفيلم دراميًا أكثر منه استقصائيًا، وبالتالي فالموضوعية منزوعة من مخرجاته بقدر ما احتوى من أساليب تعبيرية، ولم يتناول الحوار مع الضيوف أفكارًا حول الإحباط والهزيمة واليأس والعنف، وقراءةً حول الذات والدين والسياسة، ربما لضعف الأسئلة ذاتها المطروحة من المحاور، أو لضعف العينة المنتقاة من الضيوف. المهم أن الفكرة لم تعالج من كل جوانبها كما اعتدنا من بحر وثائقيات الجزيرة الوافر.

اقرأ أيضًا: الممبتسرون2: كيف سممت الثورة حياة أبنائها؟


العنف كنتيجة للإحباط

مثلت الارتدادة التي أعقبت الثورة لحظة محاسبة للنفس، وجلد للذات التي طورت حياتها ومفاهيمها وفق حالة لم تعد موجودة. ولهذا ذهب الكثيرون مرةً أخرى إلى الخاص، متعالين عن العام البائسِ الدمويِّ في نظرهم. لكن تدهور الأوضاع المعيشية لم يترك لهم متنفسًا كبيرًا ربما سوى للعنف، أيًا كان الطرف الذي وُجه إليه هذا العنف. نظرية «الإحباط – العدوان» التي قدمها جون دولرد 1939، بافتراض أن الإحباط يُفضي دائمًا إلى شكلٍ من أشكال العداون، تقدم تفسيرًا للمآلات التي رصدها الفيلم، وهي من بنات أفكار نظرية التحليل النفسي لدراسة العنف ورائدها زيغموند فرويد.

حطمت ثورة الـ 25 من يناير، ذلك الحد الفاصل بين ما هو شخصي وما هو عام، ذلك أن الأحلام التي كانت لدى هذا الجيل من الشباب لامست نجوم السماء، ثم لما كانت الهزيمة، كان الفصل ما بين المساحتين ليس بالأمر الهيّن. غرق عدد من الشباب فعلًا في دوامات الإحباط، وما استتبعه من عنف أو لا مبالاة (واللا مبالاة أشد درجات عنف الإنسان تجاه نفسه).

إيمانًا بأن أفضل ما جاء في «الوثائقي» فكرته، نسلط الضوء عليها إذن. حسبما جاء في تعريف حساب الجزيرة على «يوتيوب» للفيلم فإنه يرصد جانبًا من التحولات الفكرية التي عصفت بالشباب في مصر بعد سبع سنين من الثورة، والحقيقة أن التحول الوحيد الذي رصده الفيلم، هو التحول إلى العنف، سواء كان هذا العنف تجاه الإله كما في حالة الشباب في النصف الأول من الفيلم، أو تجاه المجتمع كما في حالة الشبان الذين ذهبوا إلى سوريا، في النصف الثاني من الفيلم.

تمنيت لو أن الفيلم يحمل الكثير من التفاصيل، يقدم تحليلات علمية، سلوكية واجتماعية، يشتمل على أسئلة وأجوبة أكثر دقة، على خلاف الأسئلة العامة التي شغلت مساحة واسعة فيه. ولأن «عقل» مقدم التقرير عرف مسبقًا بهذا النقد الذي سيلقاه الفيلم، قدم إجابة مسبقة في الدقائق الخمس الأخيرة من التقرير، بسؤاله حول ما إذا كانت شهادات ضيوفه ذاتية لا يربطها رابط، أم تعبر عن أزمة مجتمعية حقيقية، كذلك قدم بعض الأرقام التي ظللنا نتحسسها طوال 55 دقيقة كاملة من السرد الإنشائي.

اقرأ أيضًا: في الطريق من رابعة إلى سوريا (استقصائي)