تتعرض (س) لمضايقات يومية، فتتبعها السيارات، وتتلقى عروضًا بتوصيلها أو تناول القهوة مع غريب، وعند وصفها لما تواجهه بالتحرش، يتم الرد عليها بأنها تريد ذلك بسبب ملابسها، وأن ما حدث لم يكن تحرشًا بل كان محاولة جادة للتعارف.

استخرج من الفقرة الصغيرة السابقة ثلاث أزمات مجتمعية على الأقل.

مع زيادة النشاط النسوي وطفو أزمة التحرش الجنسي بالنساء اختلطت بعض المفاهيم، وتم تسطيح البعض الآخر، حيث تم وضع كلمات مثل: (الاستغلال الجنسي والتحرش الجنسي والاعتداء) في سلة واحدة، حتى أصبحت العروض الجنسية اللفظية ليست على نفس درجة سوء اللمس والشد، وأنه ما لم يحدث هجوم واغتصاب، فالأمر لا يحتاج لكل هذه الجلبة، ولكن من الذي يحدد ذلك؟


تعريف التحرش الجنسي

يأتي تعريف التحرش الجنسي في معظم القوانين، ومن بينها (الأمريكي، والفرنسي، والتركي، والتونسي) على أنه سلوك غير مرغوب فيه، يقوم على أساس الجنس أو العرق أو الإعاقة، أو السن، أو الدين، أو الميول الجنسية، أو أي خاصية (حق) يحميها القانون.

وهو سلوك مقصود، ينتهك كرامة الفرد وحريته وخصوصيته، ويخلق بيئة مخيفة أو عدائية أو مهينة لهذا الفرد. ويمكن أن يحدث هذا السلوك أمام أفراد آخرين، ويمكن أن يكون حدثًا منعزلًا، ويمكن أن يجمع شخصين فقط أو يشمل مجموعات تقوم بالتحرش أو تتعرض له، ويمكن أيضًا أن يتم عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني وليس فقط وجهًا لوجه، وتنص بعض القوانين على أنه ليس بالضرورة أن يكون السلوك واضحًا للآخرين على أنه تحرش.


كل سلوك مفرد يعد تُحرشًا.. يتطور فيُعد جريمة

تضع مبادرة (خريطةالتحرش) المصرية أشكالًا للتحرش الجنسي التي تواجهها النساء في الشارع منها:

  • النظر المتفحص في الجسد أو العينين.
  • تعبيرات وجهية مثل اللحس والغمز وفتح الفم.
  • التعليقات على الجسد.
  • تتبع شخص سيرًا أو باستخدام السيارة لمرة واحدة أو بشكل متكرر أو انتظاره خارج مكان عمله أو منزله أو عند سيارته.
  • طلب ممارسة الجنس أو توجيه دعوة لتناول العشاء أو اقتراحات تحمل طابعًا جنسيًا بشكل ضمني أو علني.
  • الإصرار على المشي مع الشخص أو إيصاله بالسيارة أو طلب رقم الهاتف على الرغم من رفضه.
  • الإمساك أو الشد أو الاقتراب بدرجة كبيرة.
  • إظهار أجزاء حميمية.
  • التهديد بالاعتداء أو الاغتصاب.

وأكدت مبادرة (خريطةالتحرش) أنه لا يُترك الأمر للمتحرش ليقرر ما الذي يُعد تحرشًا وما الذي لا يُعد كذلك. فالتحرش ليس ذنب الضحية، إنما هو اختيار يتخذه المتحرش بغض النظر عن ملابس الضحية أو تصرفاتها، والتي لا يمكن استخدامها كعذر لتبرير التحرش.

وجاءت دراسة «غيومفيسماءمصر» عن مؤسسة «المركز المصري لحقوق المرأة» لتُعرّف التحرش الجنسي بأنه:

إيذاء تُمارس فيه مجموعات قوية هيمنتها على المجموعات الأضعف، وعادة ما يستهدف الرجال به النساء، ويُسبب التحرش الجنسي إيذاءً جنسيًا أو نفسيًا أو بدنيًا أو حتى أخلاقيًا للضحية، ويمكن أن تتعرض له الأنثى في الأماكن العامة مثل مكان العمل والمؤسسة التعليمية والمواصلات العامة أو حتى في الأماكن الخاصة كالمنزل. وأنه ليس من الضروري أن يكون التحرش سلوكًا جنسيًا معلنًا وواضحًا، بل قد يشمل تعليقات ومجاملات غير مرغوب فيها، وجاء ذلك باتفاق عينات الدراسة الثلاث (الذكور المصريين، النساء المصريات، الأجنبيات).

وكانت العينات قد اتفقت أيضًا على أشكال التحرش: (اللمس، والتصفير، والمعاكسات الكلامية، والتفحص في جسد الأنثى، وقول ألفاظ جنسية، والملاحقة، والمعاكسات التليفونية)، ولكن قررت الأجنبيات أن التحرش الجنسي يتضمن صورًا أو تعليقات جنسية في مكان عام، والنكات الجنسية، والإصرار على دعوة الأنثى إلى طعام أو شراب أو نزهات برغم الرفض المتكرر، والإصرار على توصيل الأنثى لوجهتها رغم الرفض المتكرر، وطلب أن تبقى الأنثى لساعات إضافية بعد مواعيد العمل أو الدراسة دون وجود ضرورة لذلك.


التحرش في الشارع ليس مجاملة أو محاولة للتعارف

بسبب عدم وجود تعريف موحد للتحرش في الشوارع حتى الآن، وضعت منظمة Stop Street Harassment تعريفها في مارس/آذار 2015، بأن التحرش في الشوارع هو:

التحرش القائم على النوع (الجنس)، ويشمل تعليقات غير مرغوب فيها، وإيماءات، وأفعالًا موجهة ضد شخص غريب في مكان عام دون موافقته، ويتم ممارسة ذلك ضده بناء على النوع (ذكر/أنثى)، أو الميول الجنسية، أو سلوكه الفعلي أو المتصور بناء على ملبسه ومظهره.

وتتضمن المضايقات التي قد يتعرض لها شخص في الشوارع وتعد تحرشًا: الصفير، الغمز، الإهانة، الطلب المستمر لاسم شخص أو رقمه أو وجهته رغم رفضه، إلقاء التعليقات الجنسية، التتبع، الاستمناء في الطريق العام، لمس الشخص لأعضائه التناسلية في الطريق العام، الاعتداء الجنسي، والاغتصاب.

ويبدأ التحرش بالنساء في الشوارع من سن صغيرة عادة؛ ففي دراسة على نساء من دول مختلفة، أجرتها المنظمة عام 2008، جاءت النتيجة بأن امرأة واحدة من كل أربع نساء تعرضت للتحرش في الشارع في سن 12 عامًا، وحوالي 90% من النساء يتعرضن للتحرش في الشارع في سن 19 عامًا.


التحرش القائم على النوع الاجتماعي (رجل/ امرأة) لممارسة السلطة

إذا كنت تسأل عن سبب تعرض (المنتقبات/ المحجبات/ …) للتحرش، فإن أكثر حالات التحرشالجنسي شيوعًا لا تنطوي على هدف ممارسة الجنس، لكن تقوم على الإساءة للأشخاص على أساس نوعهم، دون أن تتضمن أي اهتمام جنسي.

ويمكن أن تشتمل المضايقات على مصطلحات أو صور جنسية مهينة، والكتابة على الجدران، أو تعليقات مهينة حول الجسد وأعضائه، أو النشاط الجنسي -ويشيع هنا التحرش بالمرأة الحامل- وصولًا إلى التعليقات المزدرية حول عدم قدرة المرأة على القيادة. ومثل هذه السلوكيات تعد تحرشًا جنسيًا، لأن الجنس (النوع) هو محركها، ولكنها لا تنطوي على نشاط جنسي، ولذلك لا يندرج هذا النوع من التحرش تحت تعريف قانونالعقوباتالمصري للتحرش الجنسي، في تعديله لعام 2014، والذي يميل لقصد الجاني إذا كان يتتبع ضحيته من أجل طلب جنسي.

ولتفسير التحرش المدفوع بأسباب التمييز بين الجنسين جاءت دراسة بعنوان «التحرش القائم على أساس الجنس وحماية الوضع الاجتماعي»، لجنيفير برداهي، الباحثة بجامعة تورنتو الكندية، بنظرية تضع تصورًا للتحرش القائم على أساس الجنس (النوع)، كسلوك يحد من الفرد على أساس نوعه.

وتقترح الدراسة أن هذا النوع من التحرش مدفوع في الأساس برغبة المتحرش في حماية وتعزيز وضعه الجنسي -كذكر أو كأنثى- في مجتمعه، وتلك الرغبة تأتي من التسلسل الهرمي للأنواع الاجتماعية (الجندر) حسب رؤية المتحرش، أو الرؤية السائدة في مجتمعه، بغلبة الرجال على النساء أو العكس؛ ما يفسر أشكالًا محددة من التحرش الجنسي لا يمكن لشكل أو سلوك الضحية أن يكون له دخل فيها.


هل ما ترتديه المرأة مبرر مقبول للتحرش بها؟

وبسؤال: هل كان المظهر عاملًا في التحرش، فقد تطرقت دراسة «غيومفيسماءمصر» عن مؤسسة المركز المصري لحقوق المرأة، لرؤية المجتمع لأسباب التحرش الجنسي بالمرأة، فأكدت الغالبية العظمى من عينات الدراسة من النساء المصريات بنسبة 62.5% والرجال المصريين بنسبة 65.3% أن المظهر العام للضحية سبب تعرضها للتحرش.

في حين أكدت الغالبية العظمى من الأجنبيات أن المظهر العام للأنثى ليس معيارًا للتحرش الجنسي، ويعود ذلك لاختلاف الثقافات بين المصريين والأجانب ومدى الوعي بحقوق المرأة.

ولكن أوضحت نتائج الدراسة الخلط بين مظهر المرأة ونسبة تعرضها للتحرش، فبعد تصنيف ملابس النساء وتقسيمها لفئات، تبين أن المرأة التي ترتدي بلوزة وجونلة وحجاب هي الأكثر تعرضًا للتحرش بنسبة 32%، مقابل 21% للمرأة التي ترتدي بلوزة طويلة وبنطلون وحجاب، و20% للمرأة التي ترتدي عباءة وحجاب.

وحول اتهام المرأة بمسئوليتها عن تعرضها للتحرش بملابسها، كتب الدكتوركيرتسميث على موقع (good men project) أن المظهر لكل من النساء والرجال أمر خاص وشخصي، وقد يضع البعض ضوابط على نفسه، ولا يضع البعض الآخر. ورغم ذلك، تعمل النساء -بشكل خاص- على ضمان أن تقديرها وإدراك استحقاقها لا علاقة له بما يبدو عليه مظهرها، ولكن بما حققته هي. لذا، عند ملاحظتك لأشياء سطحية تتعلق بمظهر المرأة، فمن الأفضل الاحتفاظ بها لنفسك وألا تتخذ سلوكًا مبنيًا على تخمينات.


الفرق بين التحرش ومحاولة التعرف أو إبداء الإعجاب

وضح كيرت سميث أن الفرق بين التحرش والمحاولة المقبولة للتعرف هي النية، فإذا كنت تسعى لإشعار شخص بالرضا والاحترام النابع منك له، فأنت في ساحة التعارف والمجاملة، ويمكن تقديم الإطراء والكلام اللطيف بعد حدوث التواصل وتوافر الشعور بالثقة، مع معرفة أن بعض النساء قد لا يرغبن في الاستماع، وعلى الجميع احترام ذلك.

والفرق هنا بين نية المتودد والمتحرش هي أن للتحرش علاقة بالسلطة والترهيب، والذي عادة ما يقوم به الرجال ضد النساء، باعتراض طريقها واختزالها في أعضاء وممارسات جنسية، ورفض إنسانيتها وقدراتها على التفكير والتعامل، والاعتقاد بأن قيمتها لا تكمن إلا في الجوانب الجسدية، ونواياها تكمن في ملابسها.

ولمزيد من توضيح الفارق بين التحرش أو المضايقة وبين حب التعرف أو التودد أو المجاملة، ولكيلا تقع في دائرة التحرش، هناك عدة أسئلة تحسم الأمر، قم بسؤالها لنفسك في كل موقف:

  • هل الطريقة التي أتقدم بها نحو الآخر من المحتمل أن تخيفه أو ترهبه أو تدفعه للابتعاد عني؟
  • هل سبق أن أوضح لي هذا الشخص أنه غير مهتم بمحاولاتي؟
  • هل محاولاتي قائمة على جاذبيته الجنسية أو جسده أو ملابسه أو سلوكياته أو أعضائه التناسلية؟

إذا أجبت على أي سؤال بنعم، فربما أنك خلطت بين التقدم والمحاولة المقبولة وبين التحرش الجنسي، وإذا أقدمت على الفعل فستعد متحرشًا.


الحق في العرض والطلب؟

لكل شخص سواء رجل أو امرأة الحق في تقديم نفسه مباشرة للآخر لفتح حديث أو اقتراح ممارسة نشاط جنسي، وعلى الجانب الآخر ليس هناك قانون أو تعريف اجتماعي، أو مبدأ نسوي يحظر التدليل أو المغازلة بإخبار شخص أنه يبدو لطيفًا، والضحك معه في أي مكان وفي أية صحبة يمكن أن تجمع شخصين يفتتحان حديثًا لطيفًا، بتراضٍ واضح من الطرفين؛ ولكن ما هو مرفوض هو تخويف النساء، ومواجهة نداءات جنسية عدوانية، واعتبارهن كائنات جنسية، وشعور الرجال بأن لديهم حقًا متأصلًا في أجسادهن في الأماكن العامة، وحتى الخاصة، ومن ثم التعجب من رفض بعضهن للدعوات، والذي قد يصل الرفض فيها للاتهام ب التحرش.

يظهر تعجب الرجال من رفض النساء لكثير من دعواتهم جهلًا كبيرًا من الطرف الأول بالظروف التي تواجه فيها النساء هذه الدعوات يوميًا، في الشوارع المزدحمة وعلى الأرصفة، وفي محطات الانتظار، ووصفهن بالعاهرات والفاسقات والقبيحات عند الرفض، والاستغلال في العمل، وغير ذلك مما قد يكون له تأثير كبير على كيفية تعامل المرأة مع عروض الرجال.

لقد خلق الوضع غير المتوازن بين الجنسين في كل المجتمعات جوًا من الإحباط، تعاني فيه النساء من المضايقات مع حركة عقارب الساعة.

لذا فإن القاعدة الأسلم في أوقات يزيد فيها الحديث عن التحرش، هي التأكد من قبول الطرف الآخر «لفظيًا وليس بالتخمين» لكل خطوة من خطوات التعارف، وعدم الإصرار إذا قام الطرف الآخر بالرفض، أو نعته بالرجعية لرفضه؛ والتوقف للحظة وإعادة النظر في المساحة التي تستحقها المرأة لتبقى بحريتها.

والمرأة إذا تعرضت ل لتحرش أو التضييق، فمن الأفضل دومًا محاولة حل الموقف بشكل غير رسمي، كمحاولة أولى، ففي بعض الأوقات لا يحتاج الأمر سوى كلمات سريعة ولغة واضحة.


لماذا يغلب الاهتمام بالتحرش الجنسي ضد النساء؟

في حين أن الرجال قد يتعرضون لمضايقات من النساء في الأماكن العامة، فإن الخلل الناتج عن عدم المساواة بين الجنسين يظهر أيضًا في قضية مثل التحرش، فتحرش النساء بالرجال أمر نادر، ولا يكون خلفه تهديد بالضرب أو الاغتصاب، وتأثيره على حياة الشخص وتعرضه للخطر ضعيف مقارنة بالجهة الأخرى. مع الاعتراف بأن السلوكيات التي قد ترتكبها المرأة ضد الرجل على أساس عنصري أو طبقي هي سلوكيات غير مقبولة مجتمعيًا.

ما يزيد من صعوبة حل قضية مثل التحرش الجنسي هو سكوت الضحية، وشعورها بأن تقدمها ببلاغ لن يحميها من المحاولة القادمة، بالإضافة إلى وصف المجتمع ل مضايقات الرجال للنساء في الشوارع بأنها مزاح أو حدث تافه يمكن تمريره دون الحديث عنه، وميل الأفراد لإلقاء اللوم على النساء المتضررات بسبب ملابسهن أو الوقت الذي يوجدون فيه في الأماكن العامة.