كانت الحياة الفقهيةُ في الثلث الأخير من القرن الثاني الهجري يتقاسمها مذهبانِ اثنانِ لا ثالثَ لهما: مذهب نقلي يغلب عليه الحديثُ ويمثِّلُه مالكٌ وأصحابُهُ، ومذهبٌ عقلي يهيمن عليه الرأيُ ويُنْسَبُ إلى أبي حنيفة وأصحابِهِ؛ فلأولهما السيادةُ في الحجاز ومصر، ولثانيهما الغلبةُ في العراق وأقاليم المشرق، وبينهما ما يكون، بالضرورة، بين كل مذهبين متعارضين من تنافسٍ قد يحتدم فيصير نزاعًا وخصومةً، وقد يهدأ فيكون اختلافًا في وجهة النظر وطريقة التفكير.

وقد مضى أمرُ الفقه على ذلك النحو إلى أن ظهر محمد بن إدريس الشافعي (150- 204هـ) الذي استقام له من وفور العلم وذكاء العقل وشرف النفس ما رشَّحه للتوفيق بين هذين المذهبين المتعارضين، لا لمجرد الرغبة في جمع الأمة على مذهبٍ جديدٍ يعصمها من التمزق والافتراق حول مسائل الفقه، بل لما بدا له ــــ بعد النظر والاجتهاد ــــ من إمكانية ذلك التوفيق وضرورته؛ انطلاقًا من أن كلّ مذهب من المذهبين المذكورين يتضمن من مقومات النظر السديد ما يحسن استثماره والبناءُ عليه.

وما كان للشافعي أن ينهض بذلك الدور لولا ما استقام له من استيعابٍ لثقافة عصره استيعابًا لا يتأتى إلا لآحاد العلماء، وتمثُّلٍ لمعطياتها ومفرداتها تمثلًا يغذوه ذكاءٌ نادر وألمعيةٌ معجِبة، فحفظ القرآن والحديث في مكة منذ صباه الباكر، والتمس العربيةَ في البادية نحو عشر سنوات، فاجتمع له من كلام العرب وأشعارها ولغاتها ما جعله حُجّةً في هذا الباب، حتى إن الأصمعي صحَّح عليه أشعار هذيل التي أقام الشافعيُّ بين ظهرانيها تلك الفترة. وبعد أن تجاوز الشافعيُّ تلك المرحلة الأولية، تفرَّغ لدراسة الفقه؛ فطلبه أولًا في مكة حتى تأهل للإفتاء، ثم يمم وجهه شطر المدينة فلازم مالكًا وقرأ عليه الموطأ وأفاد منه طريقة أهل الحديث، حتى عُدّ من جملة أصحابه ونَقَلَة مذهبه. ثم كان أن رحل إلى اليمن متقلِّدًا عمل نجران، ولا بد أنه ألمّ بما كانت تموج به آنئذٍ من علوم ومعارف. ثم حملته الوشايةُ إلى بغداد، فأقام بها نحو سنتين (184- 186هـ) اتصل خلالهما بمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، فقرأ كتبه، وتلقى عنه طريقةَ أصحاب الرأي، وعدَّه أستاذًا له([1]).

ومن المحقق أن تلك الزيارة الأخيرة إلى بغداد كان لها أثرٌ بليغ في توجيه الإمام الشافعي وجهةً أخرى؛ إذ شرع يفكِّر في وضع مذهبٍ جديدٍ يُنسب إليه، بعد أن كان محسوبًا إلى ذلك التاريخ على مذهب أهل الحديث. وكان مما أعانه على ذلك أنه أحكم دراسةَ مذهبي الحديث والرأي، وبلغ من التعمق في معرفة تفاصيلهما ما يأذنُ له بالموازنة والترجيح، ثم بالانتقاء والاختيار والإضافة؛ ابتغاء المزج بينهما في نسق جديد، يتضمن ما ينفرد به كلُّ مذهب من مزايا منهجية، ويتحاشى من قواعده وأصوله ما لا يصمد أمام النقد والتمحيص. وبعبارة ابن خلدون فقد “مزج الشافعيُّ طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق، واختص بمذهب، وخالف مالكًا في كثير من مذهبه”([2]).

وكان الشافعي قد آثر العودة إلى مكة، فمكث بها زهاء تسع سنوات (186- 195هـ)، مجتهدًا في بناء مذهبه الجديد، عاكفًا على صياغة أصوله ومبادئه. وبفضل عبقريته النادرة لم يعد الفقه مجرد مسائل جزئية أو فتاوى متناثرة، ولكنه أضحى علمًا مستندًا إلى قوانين كلية وقواعد حاكمة هي التي كوَّنت في مجموعها ما عُرف بعلم أصول الفقه، ذلك العلم الذي قيل: إن نسبته إلى الشافعي كنسبة علم المنطق إلى أرسطو، وكنسبة علم العروض إلى الخليل بن أحمد.

ولئن كان الشافعي قد بشَّر بمذهبه في العراق، فإنه ما لبث أن قرّر الرحيل إلى مصر، والاستقرار بها؛ فرحل إليها سنة 198هـ (وقيل: سنة 199ه). ولسنا نعرف على وجه الجزم واليقين السببَ الذي حمله على ترك بغداد (أكبر عواصم الثقافة الإسلامية آنذاك) إلى مصر، واتخاذها مركزًا لنشاطه ومنطلقًا لمذهبه الجديد. فهل ترك بغداد لأن مذهبه لم يُرزق فيها ما كان يؤمّل من رواج وانتشار، بسبب مزاحمة الحنفية له، وتسلطهم على الحياة العلمية في العراق عمومًا، كما رأى الأستاذ أحمد أمين؟([3]) أم تركها لغلبة العنصر الفارسي عليها بعد إزاحة الأمين واستثئار المأمون بالخلافة، ثم تقريب الأخير للمعتزلة وإفساحه المجال أمامهم للسيطرة على الحياة الفكرية، كما قرر الشيخ محمد أبو زهرة؟([4]).

والذي يترجَّح لديّ أن الشافعي كان يبحثُ عن وسطٍ ملائمٍ لنشر مذهبه الجديد، بعيدًا عن العراق (معقل أصحاب الرأي)، والحجاز (مستقر أصحاب الحديث)، فوقع اختياره على مصر التي كان تأثير الحنفية بها إلى ذلك التاريخ فاترًا ضعيفًا، كما أن المالكية ـــ رغم انتشارهم بها ـــ لم يكن لهم من مواقع السلطة والنفوذ ما يمكن أن يقف حاجزًا بينه وبين نشر آرائه وأفكاره. والحق أن الشافعي كان على وعي تام بأن مصر كانت قبل رحيله إليها موزعة بين هذين الاتجاهين؛ إذ رُوي أنه سأل الربيع: كيف تركتَ أهل مصر؟ فأجابه: تركتُهم على فئتين: فئة منهم قد مالت إلى قول مالك وأخذت به وناضلت عنه، وفئة قد مالت إلى قول أبي حنيفة فأخذت به وناضلت عنه. فقال الشافعي: أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله، وآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعًا([5]).

ليس من المستغرب إذن أن يقرر الباحثون ومؤرخو المذاهب أن مصر لم تعرف مذهبَ الشافعي قبل رحيله إليها؛ إذ إن معالم ذلك المذهب وقواعده التأسيسية لم تتبلور إلا في السنوات التي تلت زيارة الشافعي بغداد واتصاله بمحمد بن الحسن، ثم رجوعه إلى مكة عازمًا على وضع أصول مذهبه.

ولقد أقام الشافعي في مصر ما يربو على خمس سنوات، أعاد خلالها النظر في مذهبه، فعدل عن بعض ما كان يقول به قديمًا إلى جديدٍ من الآراء والأقوال، على نحو سوَّغ تقسيمَ فقهه إلى قديم قال به في العراق، وجديد ذهب إليه في مصر. وكان سبب ذلك ــــ كما يقول أحمد أمين ــــ “أنه خالط علماء مصر، وسمع ما صحَّ عندهم من حديث، وسمع تلاميذ الليث بن سعد ينقلون عنه آراءه وفقهه، ورأى بعض حالات اجتماعية تخالف تلك التي رآها في الحجاز والعراق”([6]).

وفي مصر التف حول الإمام الشافعي طائفةٌ من أنبغ فقهائها، كانوا بمثابة“الحاضنة العلمية للمذهب”، فقد صحبوا الإمام، وسمعوا منه، ونهضوا لحفظ مذهبه والترويج له، حتى زاحم مذهبَ مالكٍ وجعل يزحزحه شيئًا فشيئًا عن موقع السيادة الشعبية التي كان يحظى بها، أو كما يقول المقريزي: “فقد كتبوا عن الشافعي ما ألَّفه، وعملوا بما ذهب إليه، فلم يزل أمر مذهبه يقوى بمصر، وذكره ينتشر”([7]).

وفي طليعة هؤلاء أبو يعقوب البُويطي (ت 231هـ/845م) وهو لسانُ الشافعي وأقربُ تلاميذه إليه، ووراثُ مقامه في الدرس والفتوى بعد وفاته([8]). وإليه يرجع الفضل في جمع ما أملاه أستاذُهُ من كتب متناثرة في كتاب جامع هو “كتاب الأم”([9]). والمزني (ت 264هـ/878م) الذي وصفه الشافعي قائلًا: “المزني ناصر مذهبي”، ولم يكن في أصحابه أفقه منه، ويعد كتابه “المختصر” أحد كتب المذهب الأساسية([10]). وهو فوق ذلك إمامٌ مجتهد له آراء واختيارات كثيرة خالف فيها الشافعيَّ، مكوِّنًا لنفسه مذهبًا خاصًّا([11]). والربيع بن سليمان المرادي (ت 270هـ/883م) صاحب الشافعي وراوية كتبه، وخاصة كتابه “الرسالة” الذي أعاد تأليفه في مصر([12]).

وبفضل جهود أولئك الفقهاء المجتهدين أصبح للمذهب الشافعي“وجود جماعي” في مصر، لا يمكن التشكيك فيه، أو التهوين من تأثيره؛ ولذا فلسنا نوافق وائل حلاق فيما ذهب إليه من “أن الشافعي لم يستمِل سوى عدد محدود من التلاميذ والأتباع أثناء إقامته بمصر؛ حيث توفي بعد مدة لا تتجاوز ستة أعوام من إقامته بها. وبذلك، فإن استثنينا نشاط حلقة صغيرة من علماء مصر تولوا نقل آرائه الفقهية الفرعية وبلورتها، فإنه يصعب أن نتحدث عن مذهب شافعي. فلم يبرز أول قاضٍ شافعي إلا بعد مرور ثلاثة أرباع القرن من وفاة الشافعي”([13]).

والواقع أن الربط بين ولاية القضاء، بمجردها، وبين تشكل المذهب على نحو جماعي أمرٌ لا يخلو من تعسف؛ لأن وصول الفقيه الشافعيأبي زرعة محمد بن عثمان إلى منصب القضاء سنة 284هـ/897م، وذلك هو الذي يعنيه حلاق، إنما كان تعبيرًا عن انتشار المذهب الذي جعل يتشكل تدريجيًّا وبسرعة ملحوظة خلال العقود التي تلت وفاة الشافعي.

وبدخول المذهب الشافعي إلى مصر أضحت حركةُ الفقه السُّني بها موزعة بين ثلاثة مذاهب، هي: المذهب الشافعي والمذهب المالكي والمذهب الحنفي. أما عن طبيعة العلاقةِ بينها إلى سقوط مصر في أيدي الفاطميين منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) فموضوع المقال التالي بإذن الله، فإلى الملتقى.


([1]) راجع في ترجمة الإمام الشافعي: مناقب الشافعي للبيهقي (بتحقيق السيد أحمد صقر) 1/71، وما بعدها، الفهرست للنديم 2/37- 41، وفيات الأعيان 4/163- 169، محمد أبو زهرة، الإمام الشافعي، ص 14 وما بعدها.

([2]) مقدمة ابن خلدون 3/950، 951.

([3]) أحمد أمين، ضحى الإسلام 2/237.

([4]) محمد أبو زهرة، الشافعي، ص 28، 29.

([5]) البيهقي، مناقب الشافعي 1/238.

([6]) ضحى الإسلام 2/246.

([7]) المواعظ والاعتبار 4/369.

([8]) طبقات الفقهاء للشيرازي، ص 98، وفيات الأعيان 7/61، 63.

([9]) سزكين، تاريخ التراث العربي 1/3/191. وللبويطي عدة مؤلفات في الفقه منها: كتاب “المختصر الكبير”، وكتاب “المختصر الصغير”. انظر: الفهرست 2/46.

([10]) طبقات الفقهاء للشيرازي، ص 97، الفهرست 2/47.

([11]) للمزني كتاب يسمى “نهاية الاختصار” أورد فيه آراءه التي استقل فيها عن المذهب الشافعي. انظر: تاريخ التراث العربي 1/3/196.

([12]) طبقات الفقهاء للشيرازي، ص 98، الفهرست 2/41.

([13]) وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، ص 241.