النواة: علي وبنوه

قد يتعجب الباحث في المصادر السنية من الغياب الملحوظ لدور علي بن أبى طالب في عملية التشيُّع رغم تبلور الشيعة حوله بالأساس.

لابد أن نفرق ابتداءً بين التشيع كمصطلح لغوي بمعنى: المناصرين، وبين التشيع كمصطلح دالٍّ على مذهب عقدي إسلامي أو بالأحرى عدة مذاهب تدور حول أصل جامع، وهو القول بوصية النبي لعلي بن أبي طالب لخلافته من بعده وأن الإمامة شأن إلهي تتم بالتعيين وليس بالاختيار –عدا الزيدية على تفصيل ليس هنا محله- وبالتالي فإن شأن الإمامة عقدي وليس من الفروع العملية كما يرى السُّنيون.

بداية الانقسام كانت بعد وفاة النبي (المؤسس الأول) وبالتحديد في اجتماع السقيفة الذي عُقِد لاختيار ومبايعة من يخلف النبي في إدارة شؤون الدولة الناشئة.

تشير بعض المصادر السنّية الصحيحة –وفقا للسُنَّة- إلى تأخر بيعة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق ستة أشهر كاملة، مما يشير لممانعة مبدئية وأنه يرى أحقيته بالخلافة بصفته ولي رحم الرسول الأقرب. وكذا تشير بعض الروايات الأخرى إلى ممانعته لبيعة الخليفة الثالث الذي كانه عثمان حتى حُمل عليها.

ولكن العقل الديني –غالبًا- يعتمد على «ما يُفترض أن يكون»، عوضًا عما «كان بالفعل»، وبالتالي يَفترض أن عليًا لم يمانع، أو مَانعَ لمبررات أخرى. وستنشأ روايات ذات طابع تبريري لتدعيم هذا الاتجاه ولإنشاء صورة أخرى محسَّنة عن الفترة التي عُرِفت فيما بعد بالفتنة الكبرى. وبالجملة، فإن ممانعة علي ومعه (شيعته) كسَلْمان، نراها واضحة وبتضخيم في الروايات الشيعية، خافتة في نظائرها السنية.

كانت حقبة الراشدين مليئة بالأحداث التي عصفت بالدولة الناشئة من حروب أهلية وثورات وانشقاقات حتى توفي علي بن أبي طالب والدولة منقسمة بينه وبين خصمه معاوية بن أبي سفيان وآل الأمر إلى الحسن بن علي (الإمام الثاني) الذي تنازل لمعاوية عن الحكم إنهاءً للصراع في عام 41 المعروف بـ «عام الجماعة». نتج عن ذلك الصراع أو الانفجار السياسي حكومة سُنية، ومعارضتان: إحداهما شيعية، والأخرى خارجية. ومع التطور الزمني تحولت الفرق السياسية إلى فرق عقدية اكتسبت قوامها من الجدل والتنظيرات التي كانت تتم، ثم كفَّت عن الإشارة إلى أصلها السياسي.

خرج الحسين بن على الإمام الثالث –بعد وفاة الحسن- في تشكيل مُسلَّح على دولة الأمويين التي كان يحكمها يزيد بن معاوية، وتمخَّض خروجه عن كارثة مروِّعة بقتل الحسين وأسرته وأسر من بقى حيًا فيها في موقعة كربلاء، مما أدى بالتيار الشيعي إلى حالة من الكمون السياسي التسليمي مصحوبًا بأثر نفسي واضح على زين العابدين بن علي (الإمام الرابع) الذي أبدى تسليمًا غريبًا بالسلطة السياسية مع ميل للعبادة والزهد. ولا شك أن واقعة كربلاء أثَّرت على تكوينه النفسي إلى حد بعيد.

وعلى صعيد آخر، خرج المختار الثقفي في حركة مسلحة ليقتص من قتلة الحسين مدعيًّا أن ابن الحنفية (الأخ غير الشقيق للحسن والحسين من أم سبيه من بني حنيفة) هو المهدي مكوِّنًا الفرقة الشيعية الكيسانية، وانتهى الأمر بقتله.


تبلور الإمامة

أنجب علي بن الحسين الملقَّب بالسجاد ابنيه الباقر (الإمام الخامس) وزيد (مؤسس الزيدية)، وأنجب الباقر ابنه جعفر الصادق (السادس) الذي كان يقارب عمه زيد في العمر. اختار زيد مصير الحسين بخروجه على الدولة الأموية مخالفًا سنة أبيه. وقد يكون سبب هذا الخروج اعتزاليته العقدية وتمسكه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأصل عقدي اعتزالي، بالإضافة إلى بعض المرويات التي تتحدث عن تضييق هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي عليه. اختلف زيد مع ابن أخيه الصادق في مسألة الإمامة؛ فهو يرى جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل ويرى شرعية الخلفيتين الأولين رغم رؤيته أن عليًّا هو الأحق.

تبدأ تيارات التشيع في الصراع حول الأحق بالوصية النبوية. يمثل التيار الحسيني محمد الباقر، ويمثل التيار الحسني الحسن بن الحسن بن علي (الحسن المثنَّى)، ويمثل أبو هاشم التيار الكيساني المنتسب لمحمد بن الحنفية. ثمة مرويات لمناظرات بين الأطراف المتصارعة كمناظرة الباقر وأبي هاشم التي ادعى فيها الباقر الحق الحصري في الوصية النبوية لانتسابه لفاطمة. قد يعطي هذا انطباعًا مستهجَنًا لمثل هذه الطريقة التي تُدار بها الصراعات باستخدام الأنساب. ولعل الباحث لا يتبنى صحة هذه المرويات أو كذبها، ولكن على كل الأحوال فهي تنظير مُزامِن أو لاحق على الحدث يشي بحقيقة صراع قد دار بالفعل.

تشير المرويات الإمامية والزيدية والإسماعيلية بوضوح إلى تكوُّن نظرية الإمامة على يد الباقر كمسلك تعويضي عن الحكم المفقود مدعِّمًا نفسه بأرستقراطية دينية بنسبه النبوي وإظهار نفسه (باعتباره) الأحق بالإمامة بإزاء تيارات التشيع الأخرى مُدعِّمًا أقواله بتأويله الخاص لآية: «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله» مدعِّيًا أنها نزلت في أبناء الحسين خاصة؛ حيث أنهم أولياء دمه «ومن قُتِل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا».

وبعد الباقر يخلفه ابنه جعفر الصادق (السادس) الذي يُعد أول إمام مُعيَّن بحسب الشروط التي وضعها الباقر، وينحصر دوره في تثبيت المفاهيم الإمامية لا سيما الإمامة العمودية: «لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين إنما هي في الأعقاب وأعقاب الأعقاب هكذا أبدًا إلى يوم القيامة»، وهو النص المعزو للصادق عند الكليني والصدوق والمفيد والطوسي. ويكاد هذا النص أن يُبلور الملامح الرئيسة لنظرية الباقر وفي نفس الوقت ينزع شرعية التيارات الشيعية الأخرى. ويستمر التيار الإمامي في التشكل مُتخِذًا موقفًا مهادِنًا من السلطة مع عدم الاعتراف بشرعيتها.


الأزمة

بموت إسماعيل الابن الأكبر لجعفر الصادق، في حياة أبيه، تحدث أزمة كبرى. كيف يموت الُموصى له قبل الوصي؟ كان نتاج موت إسماعيل أن البعض رفض نظرية الإمامة العمودية ذاتها، والبعض أنكر وفاته ولجأ إلى القول برَجعته (الطائفة الشيعية الإسماعيلية المنشقة)، والبعض شكك في وصية الباقر لإسماعيل، والأغلب قال بـ «البُداء» وهي عقيدة تقول إن الله يغير القدر إذا بدا له ذلك.

تنتقل الإمامة إلى موسى الكاظم (السابع)، ومنه إلى ابنه علي الرضا (الثامن) الذي توفي وابنه محمد بن على الجواد (التاسع) كان يبلغ من العمر زهاء سبع سنوات مما يثير إشكالًا حول أهليته للإمامة وهو دون التمييز؛ والمفترض بحسب آية الحجر: «وابتلوا اليتامى حتى إذا آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم» أنه يحجر عليه، ويُولَّى عليه وصيًا حتى بلوغه رشده. أدى هذا إلى انشقاق آخر في الإمامية وإن كانت الكتلة الكبرى خصَّت الأئمة من عموم النص مع القياس على النبيين عيسى ويحيى في نبوتهما المبكرة. ولسوء الحظ مات الجواد وابنه علي بن محمد الهادي (العاشر) دون الثامنة وتكررت مشكلة الطفولة. ثم أوصى الهادي إلى ابنه محمد الذي تُوفي في حياة أبيه، فأوصى لأخيه الحسن العسكري (الحادي عشر) مسترجعين أزمة إسماعيل بن الصادق.

الأزمة الكبرى في تاريخ الإمامة هي موت الحسن العسكري دون ولد أصلًا؛ مما أدى لسلسلة انشقاقات جديدة أوصلها بعض المؤرخين إلى عشرين فرقة.

الأزمة الكبرى في تاريخ الإمامة هي موت الحسن العسكري دون ولد أصلًا؛ مما أدى لسلسلة انشقاقات جديدة أوصلها بعض المؤرخين إلى عشرين فرقة. أما الكتلة الكبرى فقالت بوجود ولد غائب للحسن العسكري أخفاه تقية بسبب خوف السلطة، وستظهر بعدها مرويات لتدعيم هذا الفرض. ولكن هذا الفرض أدى إلى إغلاق لائحة الأئمة معلنين أن الإمام الغائب هو قائم آل محمد الذي سيظهر آخر الزمان. وهي أسطورة دينية قديمة ومكررة تساعد على التماسك النفسي وبث الأمل في زمن الأزمات العاصفة. بذل المفكر الشيعي أحمد الكاتب جهدًا كبيرًا في تنقيح الروايات ليخلص لأن المهدي لم يولد أصلًا وإنما هي فرضية كانت لحل الأزمة فقط، وذلك في كتابه «المهدي حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفية؟».

وسواء وُلد الإمام الثاني عشر أم لم يولد، فإن المذهب يواجه مشكلة عويصة لأنه بعد أن بذل جهده في تنظيرات وروايات تفيد أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة وأن الناس لا يستطيعون إدارة شؤون دينهم ودنياهم من غير إما، كلفه الله بهذه الوظيفة -كما يُكلف الأنبياء بالتبليغ- يُعاني استحالة تحقيق تلك التنظيرات واقعيا. بل إن شرعية (الخلافة الموازية) لأئمتهم السابقين مكتسبة من هذه القواعد؛ فغياب الإمام أو انعدام وجوده يهدم قواعد المذهب من الأساس مما يضطرهم إلى بذل مجهود غير عادى- بالنسبة لحجم المذهب- لعلاج الأزمات من موت الموصى له مبكرًا، أو إمامة الطفل التي تمنعه طفولته من صلاحية مزاولة الإمامة، أو غياب الإمام بغيبة أو بعدم وجود. ومع هذه التنظيرات تظهر عقائد «الرَجعة» و«الغيبة» و«البُداء» ويتم التنصيص الروائي المنتحَل لتغطية الأحداث.

أردنا أن نؤرخ بشكل مختزل لنشأة الإمامة وأزماتها، ومدى صلة عقائدها بالنص المؤسس، ومدى خضوعها لعوامل تاريخية بعيدًا عن إكراهات نص ديني ملزم. وأردنا اقتناص ظرف تاريخي هام وكافٍ لرصد كيفية تعامل العقل الديني مع الواقع حيث يحل (ما يجب أن يكون) محل (ما كان) وحيث يُقرأ النص بناءً على القواعد المصنوعة بدلًا من تحليله لغويًّا حيث يتم تأويله لينطق بالقواعد المذهبية، ويتم تعضيد التأويل بالمنتحَل من الروايات؛ فيعود ذلك الركام على المذهب بالتدعيم في دور منطقي مثالي انطلاقًا من المذهب وعودة إليه.